حول حقي الاستثنائي في العودة إلى زكريا


ناجح شاهين
2022 / 1 / 16 - 11:35     

(أرجو أن لا يظن الصديقات والأصدقاء والقراء الكرام أن هناك صنعة كتابية في هذا النص؛ إنه نص مكتوب بإخلاص وقائعي صارم، وهو يعكس الحقيقة تماماً، إن كان هناك حقيقة من أي نوع)
قال نادي فراج بدهشة وإشفاق: "يعني أنت ما بتحس إنك من الدهيشة؟"
قلت له: "بالطبع لا، كيف أكون من مخيم الدهيشة؟! أنا لم أعش فيه يوماً."
لكن من أين أنا إذن؟
أنا من قرية زكريا المهجرة في العام 1948. ولسوء الحظ لا ينفع أن أكون من أي مكان آخر. ولدت في قرية بيت أمر القريبة من مدينة الخليل، قرية جبلية صغيرة وجميلة تقع على بعد بضعة كيلومترات شمال الخليل وتجاور بلدة حلحول تماماً. أمي من تلك القرية، وبسبب سياق أسري يتصل بوالدي أكثر مما هو بوالدتي، نشأت في قرية بيت أمر وعشت فيها حتى أنهيت المرحلة الثانوية، وفي تلك اللحظة غادرت القرية للدراسة في الأردن، وأنا أعلم في قرارة نفسي أنني لن أعود للسكن فيها أبداً.
ببساطة لم تكن بيت أمر بلدي ولا موطني. لقد عشت هناك طفولتي ومراهقتي كلها غريباً، أو "ضيفاً" على حد تعبير أحد أخوالي. المجتمع العربي مجتمع كبار، والمجتمع العربي مجتمع ذكور، مثلما لاحظ هشام شرابي منذ خمسة عقود. لا مكان للأطفال والنساء في مجتمعنا إلا على الهامش، أحياناً على هامش الهامش مثلما كان في حالتي.
ضابط التحقيق في "العمارة" لم يفته ذلك أبداً. وعندما كان يستدعيني للتحقيق وأنا تلميذ في الثانوية كان يواجهني بلا هوادة بواقعة أنني لست من القرية، وأنني لاجئ فيها، وأنه يدرك أن ذلك قد يكون سبباً في ميلي إلى "عمل المشاكل". لكن معلم المدرسة كان يفعل الشيء نفسه حتى لو اختلفت الدوافع والمنطلقات. كان المعلم بدوره يقف أمام واقعة عجيبة لا تفسير لها: "من أين يأتي اسم شاهين إلى بيت أمر؟ بيت أمر ليس فيها شاهين." وكان على أحد الزملاء/الأصدقاء أن يتطوع ويجيب أنني في الحقيقة لست من بيت أمر، وإنما تصادف أن أمي من بيت أمر، ولأسباب ما أعيش في هذه القرية. أحياناً كنت أقدم حل اللغز السخيف بنفسي. بالطبع كنت أجهز نفسي لتقديم حل الفزورة في كل مناسبة يتواجد فيها شخص جديد في غرفة الصف: معلم جديد، موجه، ضيف...الخ. إذا ذكر اسم عائلتي العجيب، فلا بد من تفسير له في سياق عشائري واضح ومحدد بدون أي لبس. وحتى عندما انتقلت للدراسة في مدرسة حلحول بسبب غياب الفرع العلمي في بيت أمر في ذلك الوقت، كان علي أن أقدم تفسيراً لوجودي في بيت أمر. كانت حلحول "تتمتع" بوجود عائلة شاهين فيها، ولكنني لست من حلحول، أنا من بيت أمر، وبيت أمر لا شاهين فيها.
يستطيع أبناء عمومتي وأقاربي الآخرين في مخيم الدهيشة أن ينتسبوا للمخيم، على الأقل بوصفه محطة على طريق العودة إلى زكريا. مكان شجاع وبائس تجتمع فيه الأحلام الصغيرة التي تخفف من الألم اليومي بانتظار أن يقود الطريق إلى زكريا، وعرتوف، وبيت عطاب وعجور، واللد، وإشوع...الخ. يفترق سكان القرى في تحديد موقع الحلم الدقيق على الخريطة، لكنهم يشتركون في حلم العودة. كبار السن يحلمون بالعودة إلى الماضي مثلما كشف غسان كنفاني بقسوة بالغة في "عائد إلى حيفا"، لكن الأجيال التي لم تعش في الوطن المسلوب، تحلم بالعودة إلى المستقبل، حتى لو كان لديها بعض القصص والحكايات المقتبسة من ذاكرة الأجداد. أنا يا غسان لم يكن لدي أية حكايات، لم يكن لدي أي أوهام، كنت أفكر في زكريا بصفتها وطني الوحيد الممكن على صعيد الزمكان كله. كان حاضري بدون وطن شخصي من أي نوع، وكانت ذاكرتي خاوية تماماً، ولذلك كنت أفكر في بناء الوطن في الأفق الزمكاني المحتاج إلى التحرير والعودة.
لكن منظمة التحرير "اقتنعت" على حين غرة بأن من الممكن اقتسام البلاد مع محتليها، حتى لا يضيع كل شيء. وهكذا بدا أن كل شيء قد ضاع بالنسبة لي فعلاً لا قولاً. بدأت عبثاً أبحث عن إجابة لسؤال نادي. بدأت أفكر في المدن/المنافي التي عشت فيها أكثر من غيرها: الخليل، عمان، فيلادلفيا/بنسلفانيا، رام الله، الكويت، صنعاء...الخ كلها مدن جميلة أحمل لها الكثير من مشاعر الحب ويسكنني أشخاصها، وأماكنها، ومقاهيها، ...لكنها ليست المكان الذي أستطيع أن أنتسب إليه. وعندما أقول على أطراف أصابع لساني إنني من رام الله، أقولها وأنا أبتهل أن لا يدقق محدثي في سؤاله، وأن لا يكون لجوجاً بحيث يجبرني على مراجعة نفسي بخصوص هذا الوطن المزعوم. أرأيتم: إن الطريقة الوحيدة لكي أكون شخصاً طبيعياً: لكي أمارس التطبيع الذي يمارسه بعض إخوتي العرب والفلسطينيين، وإن بطريقة أخرى، هو مواصلة الصراع حتى إنجاز العودة. حق العودة بالنسبة لي حق استثنائي يشبه حق الإنسان في الحياة والوجود على هذا الكوكب، ومن يفرط به يدمر إنسانيتي وكينونتي على نحو شامل.