التفاهة والدموية


ياسين الحاج صالح
2022 / 1 / 15 - 19:18     

1
الحدس الأول في شأن العلاقة بين التفاهة والتوحش الدموي أميل إلى افتراض التعارض. يبدو الدمويون من قادة سياسيين وعسكريين ودينيين أفراداً بعزم قوي وتفكير واضح، لا يقف شيء في وجه تحقيق ما عقدوا العزم عليه. بالمقابل يبدو التافهون خائري العزم، محدودي التفكير، عاجزين عن إحداث شيء مهم في العالم. ثم إنه يحول دون تبين علاقة إيجابية بين التفاهة والدموية واحدة من أنكد الخصال البشرية، الإعجاب بالقوي العنيف، القادر على البقاء، ونسبة الذكاء وبعد النظر له. وبالعكس يتجه ميلنا الطبيعي نحو قدر غير واع من احتقار الضحايا، إن لم يكن اعتبارهم مسؤولين عما جرى لهم. وهكذا يكون القاتل العنيف عظيماً، فيما يكون الضحية هو التافه.
من المحتمل أن هذا الميل متشكل تطورياً عبر عشرات ألوف السنين، حين البقاء للأفضل تأهيلاً في مواجهة شروط بيئية قاسية، أي للأقوى. فهو ميل طبيعي بالمعنى الذي تتقابل فيه الطبيعة مع الثقافة كفاعلية أنسنة، تُعِدُّ الأفراد لحياة اجتماعية، واليوم عالمية، مترابطة، وتعدُّ المجتمع، واليوم البشرية، لإتاحة أغنى حياة للأفراد.
من وجهة نظر الثقافة، تبدو العلاقة بين الدموية والتفاهة وجيهة. لكن ربما يلزم بداية قول شيء عن التفاهة. ليس بين البشر أناس تافهون وأناس مبرؤون من التفاهة. يصير الإنسان، مطلق إنسان، تافهاً، بقدر ما يتمركز تكوينه حول تجارب تبث في نفسه الشعور بضآلة الشأن وقلة الاعتبار. التفاهة هي هذا الشعور المتمكن عند بعضنا بأننا مغمورون، نكرات وقليلو الشأن، قياساً إلى آخرين يبدون أرفع شأناً وأعلى اعتباراً. وقد يكون مبعث الضآلة المظهر الجسدي (ولا يكاد يكون هناك بشري راض عن مظهره أو مظهرها)، أو بسبب تجارب طفلية راضة ومهينة، بما فيها التعرض للعنف والمعاناة من الفقر أو الاحتقار ضمن العائلة والمحيط المباشر، أو بسبب أصل اجتماعي متواضع في بيئات اجتماعية تعلي من شأن الأصل وتزدري من ليسوا كذلك، أو بسبب موقع ثانوي ضمن مجموعة الأتراب، أو بسبب عاهة موروثة أو مكتسبة.
عند النظر عن قرب على أكثر من عرفنا دموية في سورية والمجال العربي، ربما يتبدى أنه لا تعارض بين العزم والتفاهة، بل لعل التفاهة عند أمثال بشار الأسد وأبيه من قبله، والخليفة البغدادي وقبله أبو مصعب الزرقاوي، وعند سمير كعكة وعمر الديراني وأضرابهم، وعند صدام حسين ومعمر القذافي، وعند هتلر وستالين، هي مبعث حب السلطة على الغير. يرجح للإلحاح المهول من قبل أمثال حافظ الأسد وصدام حسين ومعمر القذافي وستالين وهتلر على عظمتهم واستثنائيتهم، تقررها بلا كلل أجهزة تابعة لهم، أن يحيل إلى حس متمكن بالضآلة، وتعطش إلى المجد والرفعة. وفي الاتجاه نفسه تؤشر القسوة الرهيبة مع من لا يعظمونهم، أو مع من يعاملونهم كأنداد. ثم إن التفاهة كشعور وعلاقة بالذات تقود إلى تفاهة في السجل، لا ينفيه ميل مطرد عند كبار التافهين إلى المنجزات والمآثر الكبيرة. كان ستالين شغوفاً بالمشاريع الكبرى، وصدام حسين محباً للمجد، وناسباً لنفسه أمجاد حربية وغير حربية. ومثله حافظ الأسد الذي كان عاشقاً لنفسه، كرس وسائل الإعلام العام لمديح بطولته وعبقريته و"منجزاته"، ونشر تماثيل لنفسه في كل أرجاء سورية، وهو واحد وحيد فيها كلها. ولعل مقياس التفاهة هو ما خلفه وراءهم أولئك المتمجدون، بعبارة الكواكبي: لا إنجازات فعلية مهمة يبنى عليها، ولا مآثر أخلاقية، ولم يقد أي منهم شعبه أو قطاعاً من شعبه إلا إلى مزيد من المعاناة والدمار. تفاهة الإنجاز ترجح تفاهة البواعث. ويمكن تصور أن شخصاً ليس متعطشاً للاعتراف بقيمته لن ينشغل بهذا القدر بنيل القيمة عبر مدح نفسه والتنكيل بمن لا يفعل.

2
تساء ترجمة العنوان الفرعي لكتاب حنه آرنت آيخمان في القدس في صيغة تفاهة الشر، ويحدث أن يُفهم منها أن الشر تافه. هذه إساءة فهم مؤسفة. فالشر ليس تافهاً، التعذيب والاغتصاب والقتل والمجازر ليست أشياء تافهة بحال. لكن الأشرار يمكن أن يكونوا تافهين كفاية، إن من حيث الدوافع أو من حيث السجل والميراث.
الأنسب أن تترجم عبارة
Banality of Evil
التي هي متن العنوان الفرعي لكتاب آرنت إلى اعتيادية الشر أو ابتذال الشر. فكرة آرنت أن الشر لا يصدر عن أعماق سوداء، عن تكوين شرير مسبق للأفراد، عن نزعات سادية أو منحرفة متأصلة في بعضنا. إنه وليد استعدادات عادية شائعة، كالانضباط والطاعة وطموح الفرد المعزول للترقي. الشر بالتالي ليس جذرياً، يصدر عن قرار متروى فيه ونية مبيتة، على ما كانت آرنت رأت في "أصول التوتاليتارية" مستعيرة الفكرة من كانت. الخير وحده ما يمكن أن يكون جذرياً (راديكالياً)، يصدر من أعماق النفس وبفعل تدبر ووعي. أما الشر فهو سطحي، ينتشر انتشار الفطر دون جذور. إنه نتاج أوضاع وعلاقات تتميز بعدم القدرة على التفكير، وبخاصة من موقع الغير، أي العجز عن تقمص الغير. وقد صار العجز عن التفكير ممكناً وشائعاً في إطار آلات بيروقراطية أو هياكل سلطة تقوم على الانقياد، وتحال المسؤولية فيها عن الأفعال إلى القادة على ما أظهرت تجربة ملغرام الشهيرة (وقد قام بها مستهلماً أفكار آرنت في شأن الشر والطاعة). الضمير في رأي آرنت نتاج للتفكير كحوار مع النفس يعكس حوارنا مع غيرنا. ما الذي قد يحول دون التفكير من موقع الغير؟ فضلاً عن الانقياد وهياكل السلطة البيروقراطية، وعن المباعدة بين الأفعال ونتائجها بأثر الحداثة وتعقد تقسيم العمل، وقد توسع في دراساتها زغمونت باومان في الهولوكوست والحداثة، يمكن التفكير في المظلومية، أعني تصور الواحد منا أنه ضحية. نستغني بالمظلومية عن أن نكون عادلين، أو عن توخي العدل في أفعالنا، فيكون الواحد منا عادلاً في عين نفسه لا لشيء إلا لأنه مظلوم. هذا باطل لأن العدل شيء إيجابي، شيء طيب نفعله للغير، وليس شيئاً سيئاً فُعل بنا أو تعرضنا له. بل إنه يرجح للمظلوم ألا يكون عادلاً فيما يخص ظلامته لافتقاره لمقوم أساسي للفعل العادل، التجرد. نستدل من وجود المظلومية على غياب العدل، وليس على أن المظلومين عادلون. المظلوم يمكن أن ظالماً ودموياً، حتى إن كان ما تعرض له من ظلم حقيقياً. هذا لأن من الظلم ما ليس حقيقياً، فهناك مكون خيالي في المظلومية، الجمعية بخاصة، وقد يحدث أن تكون موروثة على ما أظهر باومان في الكتاب نفسه بخصوص اليهود الصهيونيين. ومفعول المظلومية المانع للتفكير وتقمص الغير هو الالتصاق بالنفس، والنزوع الثابت للوم الغير والاشتباه بالغير. المظلومية مولدة للتفاهة بالمعنى المستخدم هنا من حيث أنها تغني عن فعل الخير والشعور بالغير، بالعكس تحصر الخير في جماعة المظلومية، أي الجماعة المتكونة حول الشعور بالتمييز.
على أن هذا مما يمكن ترتيبه على تفكير آرنت، وليس شيئاً يطابق تصورها حول ال banality
ولا يجب مطابقة هذا مع ذاك. الاعتيادي أو المبتذل تافه بالتقريب، إن جاز التعبير، وليس بالدلالة المباشرة للكلمة الإنكليزية. ولذلك يتعين على المترجم الذي يؤدي الكلمة الإنكليزية بكلمة تفاهة العربية أن يوضح عملية التقريب الدلالي التي قام بها.

3
نعرج على هذا النقطة الخاصة بالمظلومية عبر آرنت لأنها تيسر الانتقال من تفاهة الأفراد في مطلع هذه المقالة إلى ما يمكن تسميتها التفاهة الجمعية. هنا أيضاً يلتقي في تعريف التفاهة شعور مترسخ بالمذلة وضآلة الشأن مع سجل فقير من الأفعال الكريمة والغيرية، هو ما يورث ممارسات القسوة والدموية والانتقام التي يحفزها الإذلال الجمعي. المظلومية سبيل إلى التفاهة الجمعية بقدر ما تستحكم بالجماعات أو تتكون هذه حولها، وهذا مثلما هي سبيل للتفاهة عند الأفراد بقدر ما يتكونون حول تجارب مذلة أو شعور بالتمييز أو النقص. ويمكن تصور تناسب بين الدموية وبين شدة المظلومية. في تناول سابق عملت على إظهار أن الطوائف، بين أشياء أخرى، هي أطر مظلومية جمعية. نعلم الارتباط بين الطائفية والدموية في سورية ولبنان والعراق واليمن... وكل مكان. لكن قلما قيل إن الطوائف أطر جمعية تافهة، أو هي أطر للتفاهة الجمعية: أنانية أكثر مما يمكن أن يكون الأفراد الأشد أنانية، لا تصلح أطراً للترقي الفكري والأخلاقي، تجر الأفراد الأشد تماهياً بها نحو الكراهية والدم، وتدفع إلى التمسك بأشد ما يميزها عن الغير، مهما يكن شكلياً وتافهاً، وليس بأفضل ما لديها. أظهرت أوساط سنية سورية متنوعة، وبدرجة تتناسب مع طائفيتها، المتناسبة بدورها مع شدة تمركز تفكيرها حول مظلومية جمعية، أظهرت استعدادات دموية تشير من جهة إلى الاستغناء بحس المظلومية هذا عن العمل على إصلاح الذات و"جهاد النفس"، ومن جهة أخرى خلفت سجلات تمتزج فيها التفاهة بالدموية. مزيج يميز نظام السلالة الأسدية وأجهزته القاتلة، وهو الذي تغرق فيه سورية منذ عقود. ترسخ الطائفية في الحقبة الأسدية هو أحد أوجه التتفُّه العام والوحشية العامة.
على أن التفاهة الجمعية لا تقتصر على الطوائف. التفاهة ليست جوهراً أو لصيقة بجوهر جماعات بعينها، وليس هناك جماعات تافهة جوهريا ودوماً وجماعات ليست كذلك، مثلما أنه ليس هناك أفراد تافهون جوهرياً ودوماً وآخرون ليسوا كذلك. التفاهة استعداد ممكن عند الجميع بقدر ما يتكونون حول تجاربهم أو خبراتهم الأسوأ. ننجو من التفاهة حين نوظف في أفضل قوانا واستعداداتنا، وليس في أسوئها وأقساها. الأمم تجنح نحو التفاهة الدموية حين تترك نفسها للمظلومية. ألمانيا ذات الإرث الفكري والفني العظيم خلال نحو قرنين سابقين للنازية، ومهد الإصلاح الديني، عرضت مركباً نادراً من التفاهة والدموية في الحقبة النازية. كان الحرمان من المستعمرات أحد منابع الوحشية الأنانية في غرب أفريقيا في مطلع القرن الماضي، فيما قد يعتبر سلفا للوحشية النازية. وتبدو قلة الاحترام التي نالتها روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي مبعثا لسياسة القسوة البوتينية حيال سورية وأوكرانية وغيرها.
مثل الأفراد، تصير الجماعات تافهة حين تركن على المظلومية، فتستغني بها عن التفكير بالغير والشعور بالغير. ولنا نصيب كبير من التفاهة الجمعية، سواء عرفنا أنفسنا كأمم سياسية (سورية، مصر، فلسطين...) أو لغوية- ثقافية (العرب) أو دينية (المسلمون)، أساسه مرة أخرى التمركز حول أسوأ ما أصابنا والتظلم منه، بدل الاستثمار في الأفضل. فإذا كانت رائحة الدم هي ما تشم في منطقتنا، وقد شمها غسان سلامة قبل ثلاثة عقود في مطلع كتابه "الدولة والمجتمع في المشرق العربي"، أي في أزمنة أقل دموية من اليوم، فليس ذلك منفصلاً عن تقدم التفاهة الفردية والجمعية.