اللغة العراقية ومفهوم الدلالات ح1


عباس علي العلي
2022 / 1 / 15 - 03:41     

اللغة العراقية ومفهوم الدلالات
في المفهوم العام وحسب ما وضعه علماء اللغة واللسانيات أن اللغة هي تعبير عن فكرة يراد منها أن تنتقل من مصدرها إلى الأخر عبر رمز محدد يدركه المقابل بنفس ما يدركه الناطق، فهي بذلك حلقة وصل مشتركة بين صادر ومتلقي يشتركان في وضع مفهوم محدد للرمز، فيتحول ذلك المرموز من خلال أضطراد التداول إلى قيمة معرفية لها كيانها المنفصل عن كلاهما لتستقل بذاتها لذاتها، عملية التحول هذه وفق فقه اللغة تسمى الإنشاء المعرفي الأول كونها تحمل معرفة وقادرة على تكوين مشترك قابل للتداول، هذا الأمر كان قبل أن تتخذ الهندسة اللغوية شكلها وتنتظم بقواعد وقوانين، فما كان قادرا على إداء الفعل المعرفي يترسخ في الذاكرة بين الناس، وما لا يمكن أن يكون لع قيمة في التعامل يترك ويسقط لأنه لغو، وكلا الحالين الثابت والساقط تأسست منه أولى ملامح اللغة في شكلها المبكر.
إذا اللغة كما يقول الدكتور علي ثويني وحتى في بداياتها البسيطة كانت كاشفا لحقيقتين تتعلقان بالإنسان مجردا من التأريخ والجغرافية، الأولى أن هذا الكائن (الإنسان) عاقلا بالطبع، والأخرى تبعا لها مفكرا طبيعيا بالفطرة عبر منطق عقلي من خلال أفعال التواصل والتعبير والتفكير* ، فهو لم يتلقى معرفة سابقة تؤسس له منطق التواصل ولا تمنحه مفردات تؤسس له بديهيات اللغة، البديهية هنا تكمن في الحاجة إلى الأشتراك مع الأخر، قد يكون هذا الأشتراك التواصلي بلغة حركة أو رمز بدني أو مجسد بصوت يمكن أن ينتقل في حالة اللا مباشرة الحضورية، المهم في الأمر كان أن يجعله منبها أو منتبها للهدف.
السؤال الأهم هنا كيف أنتبه الإنسان الأول لفكرة اللغة أيا كان شكلها؟ يتبعه سؤال أخر هل أدرك ذلك من خلال البيئة ومعيشته مع مخلوقات أخرى تتخاطب فيما بينها بلغة خاصة؟ أي أن فكرة اللغة كانت أقتباس خارجي أملته الضرورات أم أنه ريادة ذاتية وجدت مبررها بسبب الحاجة فقط؟ قبل الإجابة لا بد من فهم طبيعة العلاقة الأولية داخل أطار مجتمع متجمع حول نقطة أساسية وهي حفظ المجموعة لأجل البقاء، هذا الأس المشترك يحتم على الجميع أن يتفقوا على رابط يضمن لهم القدرة على التجاوب مع الضروريات، هنا بدأت ما يعرف بتشكيل الهوية للفرد والمجموع، يعود الدكتور علي ثويني ليشير لهذا المعنى بقوله (واللّغة حقلاً للوعي من خلال تشكيل ( الهوية ) عبر جدلية العلاقة بين الأنا والأخر ( فالهوية ) تمثل الوعي الضدي بالأخر، ومن هنا فالوعي يعني: تجاوزنا للحواجز)** .
في مناقشة رأي الدكتور ثويني ثم ملاحظة مهمة لا بد من طرحها فيما يتعلق بالهوية، أنا من جانبي أقول أن الهوية تتشكل بعد بروز ملامحها الخاصة فردية أو جمعية، وإلا أي كائن بلا ملامح لا يمكن أن تكون له هوية ضدية عن الأخر لسبب بسيط أنه أصلا لا يملك ملامح تعريفية أو ما هوية تفرزه عن الأخر المختلف أو الموافق، إذا حتى تتشكل الهوية لا بد من فارق ولو جزئي أو علامة ذاتية يمكن من خلالها التفريق بين شيئين، فقبل اللغة مثلا لم تكن هناك
إشكالية هوية ولا حتى ضرورة لها، اللغة هي من صنعت الهوية بالترميز والوصف (أنا) و (أنت)، فالوعي الضدي قبل اللغة وعي أفتراضي لا حقيقة له.
بداية الهوية إذا بدأت مع اللغة وأمتدت في تسجيل التفاوت الماهوي من خلالها، فاللغة تعني إنعكاس لماهية الذات المتأثرة بعوامل عديدة منها ما هو بالوعي ومنه ما هو خارج الوعي أو الوعي المستتر، التفاوت في القدرة على تمثيل الموقف من خلال مفهوم اللغة العام ينعكس على محدد الهوية، فالأخرس مثلا وإن كان لا ينطق لكنه يملك بديلا من خلال لغة الإيماء أو الإشارة التي يعبر بها عن نفسه، فهو بهويته هذه إنما يصنع وجوده ضمن إطار المجموع كضد نوعي أو ضد مماثل مع الأخرس الأخر، فهو أيضا يعكس نوعا من التواصل لكن بطريقة أخرى لا تمنعه من أن يشارك في بناء المجموعة التي ينتمي لها ويستجيب أيضا لمعارفها بدرجة أو أخرى.
النتيجة التي نريد التأكيد عليها أن اللغة الأولى ومن خلال مفعولها التواصلي والمعرفي هي التي صاغت مفهوم الإنسان ككائن أجتماعي كامل*** ، بالرغم من أن الأجتماع الأولي بالضرورة التي تحدثنا عنها سابقا لم تجعل منه ذا فرق عن القطيع الحيواني، لكن اللغة وبعد أكتشافها أعادت توصيف الإنسان لا كحيوان ناطق بل ككيان مميز بهوية أخرى مختلفة عن الحيوان الأصلي الذي يحاكي القطيع في أفعاله ووجوده، إذا هوية الإنسان الحقيقية تبدأ من أبتكار اللغة وأخرجته من عالم الحيونة إلى عالم المعرفة التي لم ولن تنقطع حتى تحكم بالوجود من خلال دور اللغة في نقل المعرفة والعلم وتداولهما بأساليب وطرائق متنوعة وصولا إلى لغة البرمجة النانوية التي فجرها العقل بقدرته على الأختزال والتكثيف إلى أدنى حد.
الخطأ التأريخي الذي يقع به الكثيرون هو الخلط بين اللغة كنشاط معرفي أولي أكتشفه للتواصل البيني مع الأخر فقط وبين الكتابة كتجسيد لهذا النشاط لسبب أخر، ويربطون الكتابة بالتأريخ كدليل على وجود اللغة من خلالها، هذا الخلط ينم عن أفتراق في فهم اللغة بأنها النشاط المعرفي الأول الذي ولد لأسبابه وعلاته التي ذكرتها أنفا كحتم وجودي لتأثير العقل والتفكير، وبين الكتابة التي ظهرت وتطورت نتيجة للحاجة إلى تثبيت ما في اللغة من معرفة خشبة الفقدان أو للتذكير أو حتى لممارسة أنشطة ما بعد اللغة ومنها التعبد والتعلم، فمثلا نجد أن كلمة ما لها تأريخ عريق قد لا تجد لها شكلا كتابيا إلا في وقت متأخر، لكنها كانت موجوده بالفعل في زمن أقدم بكثير من تدوينها وإلا لكانت تأثرت هي الأخرى بتطور الكتابة، الترانيم والشعر التعبدي مارسها الإنسان بمراحل حتى صارت هناك حاجة لأن تدون حفظا عليها من التبدل والتغير، لأنها مرتبطة بعامل خارجي قد لا يسمح أو يعتقد بهذا من أن تتغير وتتبدل، فصار لزاما أن يجد الإنسان من وسيلة للحفاظ عليها فظهرت أول المدونات "الرسمية الصورية" التي سبك الإنسان فيها تلك الرمزية المقدسة لتحفظ من بعده.
الكتابة إذا نتاج اللغة ولا علاقة لها بالهوية لأنها فرع من أصل الماهوية الفردية المميزة، بمعنى أننا نتكلم لغة يمكن أن تكتب بأي شكل شرط الحفاظ على الجوهر الصوتي لها عن القراءة، هذه الإشكالية ما كانت لتظهر لولا الترجمة من كتابة لكتابة أخرى فعندما كتب العراقيون القدامى لغتهم بالمسمارية وقبلها بالصورية كانوا يحرصون على قراءة المقطع بنفس الصوت اللغوي، ولكن حينما أنتقلت الكتابة بمحمولها الصوتي اللغوي إلى لغة أخرى ضاع الصوت الأصل وظهر الصوت البديل لكن فقط في اللغة الثانية، فمثلا (يرد الشعر بالبابلية بصيغة "شيرو Shiro" هذا في لغة المترجم، والحقيقة لأن حرف العين بنطقها العراقي لا توفره لغة المترجم تحول اللفظ إلى مشوه عن الأصل، فهو شعرُ باللهجة البابلية من اللغة العراقية، بعدها صارت تنطق شير أو سير مع أن نفس اللفظ موجود بالسومرية لكن المترجم حوله إلى " سرSir" بإبدال حرف العين بحرف "i" اللاتيني كما في اللفظ البابلي وإبدال الشين العراقي بحرف "S" اللاتيني، هنا نسأل لو تهيأ لبابلي أو سومري قديم أن يقال له أنشدنا شير أو سر هل يفهم ما يطلب منه، بالتأكيد لا يمكنه أن يفهم ذلك ولا يستجيب، فالكتابة إذا موضوع خارج عن اللغة بل تنتمي له إذا ترجمت النطق كما هو.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* .د علي ثويني _ مقال على موقع الحوار المتمدن بعنوان (اللغة والعمارة) ج1.
** نفس المصدر السابق.
*** . يعتقد مؤسس اللسانيات الحديثة فلهلم هومبولت بأن اللّغة هي واحدة من "البدايات المؤسسة للإنسان": الإنسان يصبح إنساناً فقط من خلال اللّغة لكونها تخلق نظرة الإنسان للعالم, وهنا لا يقصد بذلك اللّغة بشكل عام بل لغة شعب محدد". ويؤكد" إن الفرق بين اللغات ليس فرقاً عابرا بل فرقاً في الجوهر بين اللغات في تأثيره على الوعي وعلى المشاعر وبذا يصبح فرقا في النظرة الى العالم"