البانوراما والتفاصيل


حسن مدن
2022 / 1 / 5 - 00:35     

ثنائية البانوراما والتفاصيل هي نفسها ثنائية الغابة والشجرة. يُعاب على من يركز نظره على شجرة بعينها في الغابة، ويغفل عما هي مليئة به من مختلف الأشجار، وكأنه لا يراها، ومثل هذا المحدق في شجرة واحدة لا يرى سواها. يغرق البعض في تفصيل بعينه، أو حتى مجموعة تفاصيل تزيد أو تنقص، متجاهلين أنها على أهميتها ليست سوى أجزاء صغيرة من مشهد شامل، متنوع ومتعدد، أكثر ثراء.

الفكرة ليست في هذا الثراء وحده، وإنما في حقيقة أن التفصيل، أو مجموعة التفاصيل، لا يمكن أن تُقرأ أو تُفهم إلا في سياق موقعها من اللوحة الشاملة، لنرى موقعها ومدى أهميتها، ولنكتشف أحياناً أن ما شدّنا من تفصيل قد لا تكون له أهمية تذكر في سياق المشهد الشامل.

الموضوع شائك ومعقد، ذلك أنّ العلاقة بين التفاصيل والبانوراما متداخلة. ليس فقط لأنه علينا رؤية موقع التفصيل ضمن اللوحة البانورامية فقط، وإنما أيضاً لأن هذه الأخيرة لا يمكن أن تُفهم إلا من خلال تفكيك تفاصيلها ومعرفتها. نعرف الجزئي لكي نصل إلى فهم أدق للكلي، لأن الكلي هو مجموعة جزئيات، مجموعة تفاصيل، نفهمه من خلالها، ونفهمها هي من خلال موقعها ودورها في هذا الكلي.

هذا يحدث في حياتنا اليومية. لحل مشكلة من المشاكل علينا أن نعرف أبعادها أولاً، وما هذه التي تسمى أبعاداً إلا التفاصيل نفسها أو صورة لها، إن لم نأخذ بهذا لن نصل إلى حل صحيح للمشكلة، لأننا لم نرها في كليّتها وانصرفنا إلى معالجة تفصيل منها، فحسبنا أن المشكلة حلت فيما هي لا زالت قائمة.

حتى الطبيب في عيادته وهو يشخص مرضاه بحاجة للإلمام بتفاصيل مرضهم وسجلهم الصحي وربما السجل الصحي للعائلة كاملة، ومن هنا، على ما يبدو، أتى تعبير: «الفحص الشامل»، يقول الطبيب لمريضه: «سنجري لك فحوصاً شاملة»، كي يساعده ذلك في الوصول إلى كنه العلة التي منها يشكو هذا المريض.

وهذا يحدث في الأدب والفن أيضاً. اللوحة لا تفهم بكاملها إن استغرقنا تفصيلاً واحداً من تفاصيلها دون سواه. الروائي الذي يغرق في التفاصيل وينسى البانوراما، أي الخلفية التاريخية والاجتماعية، التي تجري فيها هذه التفاصيل لن ينجز عمله بمهارة وجودة من يفعل النقيض؛ يأسره التفصيل لكن دون أن ينسى موقعه في البانوراما.

يصحّ هذا بدرجة أكبر في الفكر، فآية البراعة أو العمق في عمل أي مشتغل بالفكر تكمن في قدرته، وهو يحلل أو يدرس ظاهرة من الظواهر، ألا يراها مجردة، منفصلة عما قبلها وما نجم عنها، وهي الآفة التي يعاني منها كثيرون من هؤلاء.