الأنماط الخمسة من الثوريين - دراسة سيكولوجية ا. شتينبرج


سعيد العليمى
2022 / 1 / 4 - 21:14     

ترجمة سعيد العليمى
يمثل هذا المقال الفصل الخامس عشر من كتاب " فى ورشة / مشغل / مطبخ الثورة " * لمؤلفه إيزاك ناخمان شتينبرج 13 يوليو 1988 – 2 يناير 1957 . وهو قائد الجناح اليسارى للاشتراكيين الثوريين الروس الذين تحالفوا مع البلاشفة لأمد قصير للاطاحة بحكومة كيرنسكى المؤقتة . وشغل منصب مفوض الشعب للعدالة فى حكومة لينين فى الفترة مابين ديسمبر 1917 – ومارس 1918 . اصبح معارضا للينين وقبض عليه ثم فر متنقلا فى اوروبا واستراليا وانتهى به المقام فى امريكا . وفى كتابه فى ورشة الثورة عرض للأيام التاريخية الدرامية الكبرى بين عامى 1917 – 1918 . والكتاب يفيض بالحقد والمرارة والاحكام الذاتية والتهجم الشخصى على البلاشفة وقادتهم وعلى مسلكهم السياسي بعد ثورة اكتوبر . وقد وصفه بعض الكتاب بأنه " دون كيشوت موسكو " ورغم الارهاب الفردى البطولى الذى مارسته جماعته – الا انه تخيل الثورة بوصفها فعل محبة انسانى لابد ان ينزع لتحطيم البنى والمؤسسات لا الافراد . وأى شخص ملم بتاريخ الثورة الروسية يعرف ان الحرب الاهلية قد فرضت على البلاشفة وان كولتشاك ودينكين كانا رجالا من لحم ودم . وقد فند لينين فى الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكى ، وتروتسكى فى الارهاب والشيوعية وجهة النظر هذه .
مادعانى لترجمة هذا الفصل تحديدا هو انشغالى منذ زمن بعيد بالدوافع التى تحفز الأفراد للانخراط فى سلك المناضلين الثوريين ومدى ارتباط الذاتى بالموضوعى فى هذه الحالة وذلك من واقع خبرتى كمناضل فى حزب العمال الشيوعى المصرى فى سبعينات القرن الماضى . والواقع انه لم تصادفنى دراسات سيكولوجية مماثلة الا من منظور معاد يرجع دوافع الثورى الى تمره عى السلطة الابوية او كبته الجنسي . غير أننى أعتقد ان ماكتبه شتينبرج مفيد وان كان اوليا فى دراسة نماذج وانماط الثوريين . وعلى أى حال تتداخل هذه الأنماط ولاتوجد بأشكال صافية نقية ..

الفصل الخامس عشر ـ الأنماط الخمسة من الثوريين الروس
كرس ثوار روسيا جميعًاأنفسهم للثورة من أعماق قلوبهم. ووضع كل منهم مصالح الثورة فوق تطلعاته الفردية ، واحتياجاته الخاصة ، وفوق بقاءه الشخصي. واتسموا طوال حياتهم بإنكار الذات ، ورفض أثمن ما في طيبات هذاالعالم ، وكثيراً ما انتهت بالتضحية البطولية. لقد برزوا - حتى في مظهرهم متميزين فى سلوكهم عن النموذج العادى للبشر ،فلم تستغرقهم المشاكل اليومية للأسرة ، والأعمال التجارية ، والواجبات المجتمعية والسعادة الخاصة. لقد جاهد الثوار من أجل المستقبل.ومن ثم عاشوا في المستقبل .
لكن على الرغم من التشابه بينهم ، إلا أنهم اختلفوا عن بعضهم البعض استنادًا لدوافع أفكارهم وأفعالهم الثورية. على الرغم من أن التباين في الدافع ، بطبيعة الحال ، قد ترك أثره فيهم ، ويمكن التعرف على الاختلافات الروحية بشكل أكثر وضوحًا من خلال التمعن الدقيق. قد يبدو بعد ذلك أن بعض الأفراد ، الذين يُعتبرون عمومًا ثوريين ، كانوا في الحقيقة غير متوافقين مع مفهوم الثورة وصورتها.
كان هناك خمسة أنماط من الثوريين ، من الأفضل دراستها على الخلفية العريضة للثورة الروسية. غير أنه لم يكن أي منهم نموذجا كاملا تماما. لقد تضمنت كل شخصية ملموسة عناصر كثيرة . غير ان كل منها يتطلب دراسة نفسية منفصلة.
1 . المتمرد من أجل ذاته
هو الإنسان المقاتل العفوي الذي كافح بإخلاص من أجل نفسه وحقوقه المنتهكة – أى الثوريً من اجل ذاته. وقد شكل نوعه عنصرًا رئيسيًا في الحركات الثورية للتاريخ - بصفته من المناضلين . لقد كان متمردا في انتفاضات العبيد في العصور القديمة ، في انتفاضات الفلاحين في نهاية العصور الوسطى ، وفي السنوات العاصفة للثورة الفرنسية. العبد ، والفلاح ، والحرفي ارتقوا من العبودية المهينة نحو "تصفية الحساب" مع قرون من الاضطهاد والعجز . فجأة ، في اللحظات الحرجة فى التاريخ ، رفع الإنسان المضطهد عينيه إلى السماء. كما لو كان قد رأى نفسه في ومضة عين بلا قيود فى يديه. وبقوة بركانية اندفعت حممه الحارة من الألم والغضب والكراهية والانتقام من قلبه. اشتعل إخلاصه وحبه للعائلة والقبيلة، الممتزجين مع الغضب المقموع منذ زمن طويل ضد عالم معاد ، انفجر كألسنة اللهب . لقد كان مستعدًا ليس فقط لتدمير البنى الاجتماعية لبيئته ، ولكن أيضًا لتدمير رموز هيمنتها. وفي خضم حماسته لم يفكر إلا في حقوقه المسلوبة ، وشرفه الغاضب ، وسنواته مع الفقر والانحطاط .
لم يكن الأمر مختلفًا في روسيا. حتى في السنوات 1904-1906 قام هؤلاء البشر المضطهدون بأول محاولة عظيمة للنهوض ، لكن آلة دولة القيصر وطبقة ملاك الأراضي طرحتهم أرضا . لقد تركت إجراءات الانتقام الدموية التي قاموا بها الشعب مصعوقاً ومقهورا. بحلول بداية عام 1917 ، تعافى الناس. مع فشل القيصرية في الحرب ، انتفض الجنود والعمال والفلاحون الروس في احتجاج شديد. كانت قوتهم الدافعة المباشرة هي الحفاظ على الذات ، والرغبة في إنقاذ حياتهم من الحرب وأرضهم وخبزهم من قبضة الحكام. لقد رأى كل واحد أمامه آلامه وخلاصه.
من الناحية الرمزية ، بدأ التمرد في عام 1917 في صفوف الخبز الطويلة في بتروغراد. الخبز - أولاً لي ولأولادي! صب الجنود والبحارة كراهيتهم على الضباط ، والرجال الذين كانوا باروناتهم ، وملاك ضياعهم ، في القرية وهم الآن قادتهم في ميادين القتال أوعلى متن السفن . وانتشرت الصرخة الغاضبة في جميع أنحاء البلاد : " لقد استنزفتم ما يكفي من دمائنا! " ذكريات العذاب في السجون والسخرة أضاءت بنارها الجهنمية . وفي عدد قليل من القرى ، تم حرق اقطاعات السادة . هكذا احتج العبد المتواضع على بؤسه.
أدركت العقول الأكثر نبلا في روسيا المصادر الروحية لمثل هذه الانفجارات. وقد وصف الشاعر ألكسندر بلوك بوضوح بصيرته الخاصة بعقل وقلب الناس بينما كان يجول مع عروسه ، ابنة العالم الروسي العظيم منديليف ، في مكان ما بالقرب من ممتلكاتهم . بهدوء وفخر قاد الزوجان الشابان خيولهما التي تتغذى جيدًا. بدا أن الريف المشمس نفسه يشاركهما في سعادتهما. فجأة ، وهما يرخيان العنان ، ظهر فلاح ريفى فظ ، من الروس الذين لا يحصى عددهم ، مرتديًا الخرق ، وظهره محني ووجهه متغضن بسبب أجيال من القنانة. غريزيًا ، بمجرد أن رأى شاب وشابة راكبان ، قفز من الطريق إلى بركة المستنقعات. من عليائهما ، نظر بلوك وعروسه إلى الفلاح بازدراء . كان الاحترام والرهبة والخوف هو ما قرأوه في عينيه ، لكن الكراهية العميقة برقت في عينيه أيضًا . أدرك الزوجان الشابان المرحان بعد ذلك ما حدث في روح الناس. لقد اتسعت الهوة بين بؤس الكثيرين وراحتهم هم الخاصة. هذا هو السبب ، كما قال بلوك لاحقًا ، فى حرق الإقطاعيات .
وصل التمرد البدائي الذي يتطلب الانتقام من أخطاء الماضي إلى ذروته في الثورة . في المرحلة الأولى من فبراير عام 1917 ، واجه المتمرد المتحدي وجهاً لوجه لأول مرة في التاريخ الحديث مضطهديه السياسيين والاجتماعيين المباشرين : مسؤول الدولة القيصري ، ضابط الشرطة ، الكاهن ، رئيس عمال المصنع ، ناظر الإقطاعية. جزئيًا ، قام بتسوية الحسابات في هجمات "الكراهية" العفوية ، والتي كانت لحسن الحظ مثل عاصفة سريعة الزوال. لكن النظام الاجتماعي نفسه كان راسخا. لا تزال الأجهزة السياسية والمؤسسات الاقتصادية تسد طريقه إلى الحكام الحقيقيين - الصناعيين والمصرفيين والتجار وملاك الأراضي .
لكن في فترة أكتوبر ، كان المضطهدون على اتصال مباشر بأعدائهم الاجتماعيين والاقتصاديين والروحيين . اشتعلت الكراهية بشكل باهر . وقد تجلى الغضب القديم في أعمال العنف ، في سيكولوجية "العبد المبتدئ" ، تقليدًا للعدو المهزوم وإساءة استخدام السلطة. أعطت البلشفية هذه الكراهية ميثاقًا قانونيًا ومصادقة علمية. بدلاً من النضال ضد المؤسسات الاجتماعية ، ألهمت وروجت لمحاربة الأعداء
الاجتماعيين ، ضد الانسان الفرد
لكن سيكون من الخطأ الاعتقاد بأن المتمردين من هذا النوع لم يحفزهم إلا الأنانية ،امتلئوا فقط بدوافع الكراهية والحسد ، دون أي اعتبارات أخلاقية. إذا كان الأمر كذلك ، فلن يكونوا أكثر من "جزارى" الثورة ( كان هناك بعض هؤلاء ، وإن يكن بأعداد صغيرة ) ، وكانوا بطبيعة الحال قد وقعوا خارج إطار الثورة. كان هؤلاء المتمردون في غضبهم الأولى البركاني مدفوعين بعمق ، وإن كان ربما بغير وعي ، بالاستياء الأخلاقي . "أين العدل في هذا العالم؟" صرخوا في الداخل. "أين حقيقة الله إذا جُلد ظهري ، إذا كانت زوجتي وحشًا ثقيلًا وأولادي بلا مستقبل ؟ أين الإحسان وحسن النية بين الناس ؟ "
كانت ظروف عدم القدرة على الدفاع البدنى ، والفقر الاقتصادي ، والإذلال الروحي هي التي أدت إلى القلق الأخلاقي ، والمطالبة الشديدة بـ " القليل من الحقيقة والعدالة " للعالم بأسره . في مثل هؤلاء البشر تطور تمرد الأنا على خلفية الإنسانية المنحطة . ان الفرد المستثار شخصيًا كان مأخوذا بالمثل بآفاق واعدة لعالم أفضل وكان مستعدًا لأكبر التضحيات لإنهاء الظلم الذى حاق بكل من عانوا مثله.
لكن مع ذلك ، كان الدافع الرئيسي هو أناه ، ومايتعرض له من مهانة ، وحياته الضائعة ، خاصة إذا كان يطارده الخوف خشية عودة " الأيام الخوالي " ، واستعادة الفقر والعجز ، والأسوأ من ذلك كله ، العذاب في السجن . في عام 1919 ، شهدت موسكو الجلسة الأولى لجمعية سجناء السخرة القيصريين السابقين . لقد تذكروا سنوات التعذيب والإهانة التي مروا بها. قدم ممثلو مسرح موسكو الفني مسرحية عن سجن السخرة سيئ السمعة في منطقة أوريل . " لم يكن هناك حبكة فقط سجناء السخرةالمقيدين بالسلاسل وروتينهم اليومي . كان هناك الحراس ، الخلافات معهم ، الأنواع المختلفة التى اجتمعت في "بيت الموت" هذا . وفجأة سمع غناء أغنية السجن مع رنة السلاسل المصاحبة لها. بكت القاعة بأكملها . رأيت كيف أحنى المقاتلون المخضرمون رؤوسهم وتركوا الدموع تنهمر على خدودهم . همس العمال الجالسون بجانبي في هياج : كانت هذه زنزانتنا . هل يجب أن نكون فيها مرة أخرى؟ هل نعيش هذه الحياة اللعينة مرة أخرى ؟ " .
ساعد هذا الخوف من الحياة اللعينة على ضبط سلوك هذا النوع من الإنسان المتمرد . وكلما كان هذا الخوف يمسك بالملايين في قبضته ، وعندما يقترن بالأنانية والكراهية المكبوتة ، فإنه يصبح عاملاً مهيمن اً. فكر فيما يحدث عندما يستولي مثل هؤلاء على موظفي السلطة ! ثم يشرعون في ذلك الطريق المحفوف بالمخاطر الذي يبدأ بالتحرير وينتهي باستعباد متجدد.
هناك صيغة مختصرة تسرد معالم هذا الطريق: الإنسانية ، السلطة ، العنف ، القسوة ، الوحشية.
ثانيًا. الثوري العلمي
لم يؤسس الثوري العلمي نشاطه على الغريزة أو العاطفة . لقد أولى أهمية لأفكاره فقط لأنها تأسست على حساب واضح ، على تقسيم منطقي لوسائل العمل إلى عادلة وظالمة ، أو بالأحرى إلى صحيحة وخاطئة. في عصرنا هذا مجال ذلك هو الماركسية . لكن حتى قبل ماركس ، أنتج القرن التاسع عشر ثوريين ذوي تفكير علمي . لقد احتج الليبراليون في تلك الأيام بمنطق العقل وقوانين الضرورة . خلال الثورة الفرنسية ، استنتج العديد من قادتها الروحيين النظام الاجتماعي الجديد وتحول أساليب الحياة من المبادئ الأساسية لفلسفتهم الليبرالية. وقد وضع روبسبير المقصلة في خدمة منطقه العقلي .
في حقبة نُفي فيها الله من السحب وتم تسليمه لعلماء الفلك ، وعُهد بمفهوم الحياة إلى الفيزيائيين والكيميائيين وعلماء الأحياء ، كان من الطبيعي أن تُفسر الظواهر الاجتماعية أيضًا بنفس الطريقة ، وفقًا للقوانين . من "الفيزياء الاجتماعية". في عصر الحماس العلمي ، لاكتشافات داروين وإنجازاته "الوضعية" ، كان من المقرر أن تجري الاضطرابات الاجتماعية ، بل وحتى الثورة ، وفقًا لقوانين الضرورة والحتمية الديالكتيكية .
لقد فكر الثوري الماركسي في مثل هذه الخطوط على مستوى أعمق . فقد صاغ موقفه ، بعد كل شيء ، في تناقض حاد مع الطوباوية ، والاشتراكية الطوباوية. وقد استندت الأخيرة في المقام الأول إلى مشاعر الاحتجاج الأخلاقي ، وعلى التقييم الأخلاقي ورفض التفاوتات الاجتماعية . لكن بينما استمدت الطوباوية طاقتها من العاطفة الأخلاقية والتوق الشعري للمستقبل ، حاول الماركسي أن يؤسس اشتراكيته على الحقيقة النظرية ، أو الوسائل المنطقية لتحقيقها . لتأمين مكانتها في الحركة البروليتارية ، لم ترفض الماركسية فحسب ، بل احتقرت وسخرت من كل الدوافع العاطفية للثورة . سعت إلى شطبها باعتبارها عاطفية ورومانسية فضفاضة ، على الرغم من أن صفوفها تضم رجالًا من ذوي الميول العاطفية والرومانسية.
تكمن قوتها الجذابة في فكرة أن " الثورة هي محرك التاريخ " ، أي آلة تعمل وفقًا للقواعد العلمية للفيزياء والتكنولوجيا. "كانت هناك حقًا تعويذة هائلة في الرؤية التي مفادها أن اضطراب الجماهير البشرية برغبات ومصالح لا حصر لها يمكن توجيهه وفقًا للخطة. لم يكن هناك ما يبدو أكثر الهاما على الإطلاق من عندما تكون السلطة فى المتناول أن يقود البشرية من الفوضى إلى التحرر على أساس سريع من القوانين الاقتصادية والاجتماعية. وقد كان لينين أحد دعاة الثورة العلمية .
لذلك ليس من قبيل المصادفة أن لينين لم يسعى أبدًا إلى دفع شخصه إلى مسرح الأحداث العالمية. لأنه في فلسفته لم يكن سوى ميكانيكي يخدم محرك التاريخ. ظهر هذا في موقفه بعد محاولة اغتياله من قبل دورا كابلان في أغسطس 1918. روى صديقه المقرب ف. بونتش برويفيتش أن لينين عندما استعاد عافيته وبدأ فى قراءة الصحف التى صدرت خلال غيابه " كان منزعجًا جدًا من الثناء اللامحدود عليه والتمجيد الذي وجده في الصحف والبرقيات التي أرسلت إليه." سألني "لماذا هذا". أجد صعوبة في قراءة الصحافة. أينما نظرت ، يكتبون عني . أعتقد أن هذا الدفع لفرد غير ماركسي وضار للغاية. وانظر إلى الصور. ليس هناك مكان للاختباء منهم. . . . يرجى التحدث بلطف مع من هو المسؤول وجعلهم يوقفونه. "من ذلك الحين فصاعدًا ، بدأت موجات نشوة الصحف في التراجع".
لذلك يمكن للمرء أن يعمل ويكافح من أجل نظام اجتماعي جديد لمجرد أنه يبدو "أكثر منطقية" وأكثر كفاءة وأقل تبديدًا للطاقة ومعاناة من الحاضر ؛ لأنه ، كما لو كان ، قد تشكل مسبقًا في رحم التاريخ . يمكن للمرء أن يناضل من أجل ذلك بالفعل ، دون التفكير في الاحتياجات الاجتماعية والأخلاقية والروحية للإنسان . هناك مهندسون اجتماعيون ذوو تفكير اقتصادي وصناعي يسعون إلى تغيير المجتمع الرأسمالي ليس بسبب المثل الاشتراكية ولكن لأنهم ينبذون عملية الإنتاج "بلا هدف" ، وإساءة استخدام الموارد الطبيعية والبشرية ، والإدارة "المضللة" للرؤساء الاقتصاديين . أضف الى ذلك : كلما زاد النظر إلى تلك الثورة بشكل عام وفي كل مرحلة من مراحلها في ضوء الضرورة التاريخية ، زاد رفض الجوانب الإنسانية والأخلاقية للتحرر الثوري وحجبها. الضحية الأولى لمثل هذا الثوري هو الإنسان الفرد . بعد كل شيء ، ما الذي يمكن للرجل الصغير ، المحدود في المكان والزمان ، أن يفهم من مسيرة التاريخ المهيبة ؟ ما هي قيمة "اليوم" مقارنة بالمستقبل الرائع ، وما هي قيمة "هنا" في مواجهة التطور الشامل ؟
وهكذا فإن مسألة المعاناة الفردية لا تطرح نفسها أبدًا ، سواء أثناء معارك الحرب الأهلية ، أو أثناء ترسيخ الدكتاتورية أو أثناء بناء الاشتراكية . وهكذا كان من الممكن للينين وبوخارين وتروتسكي وخلفائهم أن يضحوا بالجماهير من أجل " مشاريع عظيمة " ، وأن يفعلوا ذلك بعقل هادئ وهدوء كانا مبررين علميًا. هذه هي الطريقة التي تم بها " تدمير الكولاك كطبقة " بقسوة غير مسبوقة. يُظهر تصنيف "كطبقة" كيف تم التخلي عن فكرة المصير الفردي . وينطبق الشيء نفسه على نظام "الخطط الخمسية" برمته ، أو بناء القنوات الكبرى التي تربط البحر الأبيض بالبحر الأسود أو بحر قزوين . وهكذا ، لم يكن الأمر مختلفًا ، فقد استخدم النمل البشري منذ زمن بعيد لبناء أهرامات مصر من أجل المجد الأبدي للفراعنة .
صحيح أن الفكرة الأخلاقية للاشتراكية كانت في مكان ما في مؤخرة أذهانهم ، تمامًا كما كانت مع "المتمرد من اجل ذاته ". حتى وجهة النظر الموضوعية والمحسوبة نشأت في مكان ما بإحساس السخط الأخلاقي . من يدري غير أن هذا المصدر الإنساني زودهم ، عن غير وعي ، بالقوة الشيطانية للممارسة . ولكن الأهم من الخلفية كان الدافع الرئيسي أو المحرك الروحي لنشاطهم : الحساب المنطقي والتخطيطي والعقيدة المدروسة .و الثاني كان بلطتهم وشعلتهم ذراعي الثوري من النوع الأول ، وللثاني كانت الأذرع هى قلم الكويتب ، ومشرط المحقق المختبري . كان من المؤسف أن يكون الخطر الأكبر على البشرية نابع من الثوري "المتعلم" ، لأنه كان عبدًا لمذهبه ولم يتساهل بشأن " قوانينه ". هذا هو السبب في أن لينين ، من حيث المبدأ ، لم يوافق على أي تساهل.
وهكذا نعود إلى نفس الصيغة : الإنسانية ، والسلطة ، والعنف ، والقسوة ، والوحشية.
ثالثا الثوري الجمالي
يمكن القول إن الثوري الجمالي اعتنق الاشتراكية والسعي لإحداث تغيير جوهري في العالم لأن إحساسه بالجمال والانسجام جرى انتهاكه . لقد رأى القبح والإهانة والدناءة في الحياة المعاصرة ، سواء بين الفقراء و ( البمرنغ الأبدي! ) في الطبقات المالكة . كان يواجه الابتذال في كل خطوة - في العادات والتقاليد ، في الوجوه والأجساد البشرية ، في الكلام والعلاقات ( بين الرجل والزوجة ، الوالدين والأطفال ، السيد والخادم ) - الأشياء البذيئة التي تسيء إلى الروح الحساسة . تتبادر إلى الذهن كلمات دزرائيلي عن الأمتين في إنجلترا: الفقراء والأغنياء . ما مدى اختلاف نسائهن في الشوارع ، ومدى اختلاف وجوههن ، ومشيههن ، وملابسهن .
هؤلاء المراقبون نفرتهم الأوساخ في المجتمع ، وبالتالي حلموا بمستقبل جديد ، مستقبل مشرق جماليا . كان جون روسكين وويليام موريس رجلين لهما نفس العقلية في إنجلترا. لقد وصفوا بلغة قوية التعفن الروحي للمجتمع ، والقبح الذي تولد في حياة الفقراء ( لدرجة أنهم توقفوا حتى عن الإحساس به ) ، والتنافر بين الأهداف البشرية السامية وأساليب الحياة الدنيئة. ومن هنا شددوا في خططهم المستقبلية على البنية الفنية وتخطيط الحياة ، والعلاقات الإنسانية ، وحتى الأشياء المحيطة بهم ( منازل ، ملابس ، أدوات مائدة ) .
لم يكن مثل هؤلاء الثوريين بالطبع من انصار النزعة الجمالية فقط . لو كانوا كذلك لكانوا بعيدين عن الأفكار الأخلاقية ، واذ نتذكر إبداع أوسكار وايلد وخلقه شخصية ، دوريان جراي . نرى أن دوريان جراي كان مستعدًا لتدمير امتيازات الأرستقراطيين لأنه لم يستطع تحمل أجوائهم الطنانة ، وثروتهم المهدرة ، وكآبتهم الروحية . كان هذا ، في الواقع ، نهجًا جماليًا بحتًا للدراما الاجتماعية: لم يكن عاطفة تجاه الانسان الذي يعاني ، بل احتقارًا للحكم . لم يكن ويليام موريس وجون روسكين مثل دوريان جراي ، لأن وراء أهدافهما الجمالية والفنية كانت هناك احتجاجات وتطلعات أخلاقية . لقد بحثا عن الجمال الأخلاقي والتناغم . لقد تعرضت حواسهما النبيلة للإهانة ليس فقط ، وليس كثيرا بسبب القبح الجسدي للأشياء والعادات ، بل بسبب الزيف الأخلاقي ، والاصطناعية والقسوة في أساليب الحياة . كتب ويليام موريس :
"لقد دفعتني دراسة التاريخ وحب الفن وممارسته إلى كراهية الحضارة التي من شأنها أن تحول التاريخ إلى هراء لا معنى له. . . .
" نحن أقل حظًا من الملك ميداس ، حقولنا الخضراء ومياهنا الصافية ، كلا ، الهواء الذي نتنفسه ، لم يتحول إلى ذهب ، بل إلى قذارة ؛ وللتحدث بصراحة ، نحن نعلم جيدًا أنه في ظل الإنجيل الحالي لرأس المال ، لا يوجد أمل في تحسين شئ فحسب ، بل أن الأمور تزداد سوءًا عامًا بعد عام ويومًا بعد يوم ".
إذن كيف سيأتي التغيير؟
"إن من اختصاص الفن أن يضع المثل الحقيقي للحياة ، وهي حياة مليئة معقولة امامه ( الشغيل ) حياة فيها إدراك للجمال وخلقه ، والتنعم بالمتعة الحقيقية ، بوصفه أمرا ضروريا للسيد مات كخبزه اليومي . . . يجب أن تكون بدايات الثورة الاجتماعية أسس إعادة بناء فن الشعب ، أي متع الحياة ".
لكن كان هناك نوع آخر من الثوريين الجماليين - الرجل الذي استمتع بعملية الثورة بسبب اكتساحها المسكر وعظمتها ونطاقها - الرجل الذي سيستمتع فنيا وفكريا بالعاصفة التي تدمر الأشجار القديمة ، التى تحطم حياة الأفراد والطبقات ، وتشق الأرض لبذور ونباتات جديدة . يعيد هؤلاء الرجال تمثيل فرحة نيرون وهو يعبث على مشهد من المدينة التي أحرقها. ويماثل هؤلاء فى الموقف العقلى المشاركين في الحروب (سواء بشكل مباشر أو غير مباشر - أولئك الذين حاربوهم ومن مجدوهم بالكلمات ) الذين وجدوا البهجة في المشهد الرائع والوحشي لساحات المعارك.
كم كانت روايات الحروب السابقة بانتصاراتها وهزائمهما الشهيرة رائعة بالنسبة لأولئك الذين يستعدون للحرب ( طريق العودة حتى في المدارس العسكرية ) ؛ الشخصيات البطولية لقادة المعركة ؛ الحركة الهائلة للجماهير من الرجال والخيول والآلات ، والموظفين والجنرالات اللامعين ؛ الإثارة الخارقة في اللعبة الدرامية للحياة والموت ، لنصف الحياة ونصف الموت . كم كانت مبهجة سلطة الضباط في إعطاء الأوامر ، وإرسال الرجال إلى النار ، والسيطرة على آلاف الأرواح ؛ وكم كان ملهمًا أيضًا السير بخطوات ، وإغلاق الصفوف ، تحت اعلام ترفرف ، بمرافقة الموسيقى وبركات الكنيسة - للدخول في معركة من أجل مجد الوطن ، الامبراطورية ، "الفكرة". ما أجمل الصداقات الرجولية بين الرفاق في الخنادق ، في هذا الجو من الحياة الخطرة . شعر الإنسان بنفسه يتفجر بقوة بطولية لم يختبر مثلها من قبل في الحياة اليومية الهادئة المليئة بالواجب والروتين . من ان لم يكن تولستوي في الحرب والسلام ، يمكن أن يفكر في مثل هذه اللحظات من المطالب الأخلاقية ، في شخصية الفرد ومعاناته ويأسه بعد المشهد الرائع للحرب ؟ من يخطر بباله الدموع التي ذرفت خفية فى الشارع الوطني في بيوت الأمهات والزوجات والأطفال ؟
هذه هي الطريقة التي نظر بها المحتفل الجمالي إلى أكثر فترات التاريخ مأساوية . مثل هذا الرجل ، على سبيل المثال ، كان المفوض السوفيتي للتعليم ، البلشفي أناتول لوناشارسكي ، الذي كان همه الحفاظ على الكنوز الفنية أثناء الثورة . في بداية ثورة أكتوبر ، وهو الأسبوع الذي اندلعت فيه معارك المتاريس في موسكو ، هدد لوناتشارسكي بالاستقالة وأصدر احتجاجًا عامًا ضد قصف المباني الفنية في موسكو وإلحاق الضرر بها . ربما تكون نيران المدفعية قد دمرت كنوزًا مثل كنيسة فاسيلي بلازينيك الأرثوذكسية اليونانية ( التي بناها إيفان الرهيب ) وجدران الكرملين القديم . لم تستطع روحه الفنية الحساسة تحمل مثل هذا التدنيس حتى أثناء حرب الأشقاء . سخر لينين فقط من تهديد لوناتشارسكي بالاستقالة. ومع ذلك ، لم يسمع أحد ، على مر السنين ، لوناتشارسكي يحتج علنًا على الإضرار بالكرامة الإنسانية أو تدمير الأرواح البشرية من خلال ضربات الإرهاب البلشفي التي لا هوادة فيها .
غرق "عشاق الفنون" هؤلاء تمامًا في المشهد الفخم للثورة . لقد شعروا بالإلهام من نطاقها : ملايين الرجال يسيرون تحت لافتات حمراء ويغنون نشيد الأممية . سيتم هدم كل الجدران ، كل السدود في هذا الاضطراب الاجتماعي . ستختفي طبقات بأكملها وكأن منجلا عملاقا قد قطعها ، واختلطت الأصوات المختنقة للمهزومين بأقوال المنتصرين الفخورين . وقد ابتهج هؤلاء الثوريون ، نحن وأنت وأنا- نكتب في الواقع فصلًا جديدًا في تاريخ العالم . ما هي بطولة الحرب مقارنة بعظمة وجمال الثورة الاجتماعية ؟ خاصة عندما تكمن في يدي القدرة على إعادة تشكيل العالم . بحركة بهذه اليد يمكن إزالة مؤسسات وهياكل الأمس بأكملها ؛ وفي الوقت نفسه يمكنها أن تخلق ، وتجلب إلى العالم مؤسسات وأنماط حياة جديدة لم يسبق لها مثيل . حقًا ، لقد صار الإنسان شريكًا للخالق . كل من الجماهير في البلاد والدول والحكومات في الخارج ينصتون متلهفين للكلمة الآتية من روسيا . هذه القوة نفسها صحيحة ، هي الأخلاق ! كيف يمكن للمرء أن ينغمس في مجد القوة ، كيف يمكن أن يتوقع المرء في ضجيج "التاريخ" ان ينصت بأذنه للفرد ؟ كيف يمكن للمرء أن يشعر أنه لا يوجد لون واحد بل لونان يرمزان إلى دراما التاريخ هذه - أن العلم الأحمر دائمًا ملفوف باللون الأسود من الحزن ؟
شمل هذا النوع من الثوريين أيضًا أولئك الذين حفزتهم ارادة القوة إلى العملية الثورية. بالنسبة لهؤلاء ، كان الحدث الدرامي العظيم في المقام الأول مسرحًا لعرض وإرضاء غرائزهم الاستبدادية في الأشياء الكبيرة والصغيرة ، ولكن دائمًا بحسابات باردة وحماس ساخر . من خلال عدم اكتراثهم الداخلي بالمعاناة الإنسانية والجهود البطولية ، فإنهم في الواقع يشبهون الثوري العلمي . وربما تم وصف كليهما جيدًا في الآبيات الجليدية المشتعلة لأوسكار وايلد "Sonnet to Liberty" .
"ليس لأنني أحب أطفالك ، الذين لا ترى عيونهم الباهتة سوى الويل غير المحبوب
الذين لا تعرف عقولهم شيئًا ، ولا يهتمون بمعرفتها ،
غير أن هدير الديمقراطيات الخاصة بك
عهودك من الإرهاب ، فوضويتك العظيمة
هى مرآة أعنف مشاعري مثل البحر
وتعطي غضبي أخا : الحرية !
من أجل هذا فقط تصرخ صرخاتك المتنافرة ، تفرح روحي الخفية ، مثلما قد يفعل كل الملوك
بالجرعة الدموية أو المدافع الغادرة تحرم الدول من حقوقها
وما زلت غير متأثر - ومع ذلك ،
هؤلاء المسحاء الذين يموتون على المتاريس ،
الله يعلم أني معهم ، في بعض الأمور ".
لحسن الحظ ، فإن هذا النوع من الثوريين في أنقى صوره كان نادرًا في الواقع التاريخى . وشكل الأربعة الآخرين الأغلبية إلى حد بعيد من حيث العدد والتأثير .
الآن ربما يمكن فهم قول التلمود الغامض على نحو أفضل : "من يسير على الطريق ويدرس الشريعة ويقطع تعليمه ويقول كم هي جميلة هذه الشجرة ، ما أجمل هذا الحقل يكون وكأنه قد خسر حياته. . "
كم مرة حاول البشر ، في مواجهة هذا القول ، التوصل إلى نتيجة مفادها أن القيم الجمالية غريبة عن الروح اليهودية . لكن ما حذرمنه التلمود لم يكن ضد الفن والجمال ؛ بل بالأحرى ضد الخلط بين تعلم الشريعة والتمتع بالطبيعة. تتطلب الدراسة ، خاصة عندما يكون المرء على "الطريق" نحو هدف عظيم ، مثل هذا التركيز الأخلاقي من جانب المسافر بحيث لا يمكنه ان يبدده على الاستمتاع بالحياة - ولا حتى للحظة قصيرة عابرة . لا توجد حدود واضحة في الطبيعة ، ولا فجوات واسعة بين الخير والشر . الطبيعة سامية ومحايدة ، في حين أن الشريعة هى مصهر تنقية يتم فيه فصل الخير عن الشر. لذلك يجب أن يكون الإنسان دائمًا على أهبة الاستعداد لئلا ، لا سمح الله ، أن يفقد قدرته ، مخطئًا في الصواب والباطل . بمجرد أن يسير الإنسان على طريق الثورة الصعب ، لا يجرؤ على الخلط بين القانون الأخلاقي والمشاعر الجمالية ، لحتى لايتم طرح الأخلاق جانبًا. وإذا حدث ذلك ، فإنه يخسر الحياة نفسها ، مما يعرض مستقبل تلك اللحظة من التحرر البشري النادرة جدًا في التاريخ للخطر .
الجماليون ، على الرغم من مشاركتهم في الثورة ، قبلوها على أنها "مشهد". ومن ثم لم يصبحوا خطرين فحسب ، بل أصبحوا بلا قلب.
لقد جاءوا أيضًا ليتبعوا نفس الصيغة المدمرة : الإنسانية ، السلطة ، العنف ، القسوة ، الوحشية .
رابعا. الثوري بالتراحم
لم يسلك الجميع طريق الثورة ، بالطبع ، هربًا من مصير شخصي ، أو لاعتبارات علمية وجمالية. الغالبية العظمى من الناس يغوصون في موجات الثورة العاصفة ليس من أجلهم ، ولكن من أجل الآخرين ، من أجل إخوتهم الذين يعانون ، من أجل البشرية جمعاء . لا يمكن لرجل "مهان الشرف" وذى "ضمير جريح" (مفاهيم محبوبة في الأدب الروسي) أن يتجاهل الإكراه والقسوة الوحشية التي تُرتكب علي مرمى بصره. تأثر إحساسه بالكرامة الإنسانية بمعرفة أن شعباً بأكمله خاضع في التراب . نشأت في قلوب مثل هؤلاء الرجال شفقة على أولئك المستذلون المهانون ، أولئك الرجال الذين كتب عنهم دوستويفسكي بمثل هذه البصيرة النافذة .
أولى الأدب الروسي في القرن التاسع عشر أهمية كبيرة لهذا الشعور بالشفقة على الناس . لم يكن كل االبشر قادرين دائمًا على الشعور بالاحتواء والاحتضان الذي يُطلق عليه الحب. هذا المفهوم ، الذي أصبح حجر الأساس لجميع ديانات العالم والذي وجد التعبير عنه في الكلمات ، "أحب قريبك كنفسك" ، كان موضع اعتزاز عميق من قبل جميع شرائح الشعب الروسي . لم يحبوا رجلاً أو امرأة أو طفلًا فحسب ؛ لا يمكنهم أن يحبوا أقل من فكرة وكل إبداع حقيقي للروح .
في حين أن النطاق المعقد للعواطف المسمى بالحب لا يمكن توقعه من جميع البشر ، يمكن للشفقة ، بل ينبغي ان توجد . لقد طُلب منك أن تشفق ليس فقط على الفقراء أو الأبرياء المتألمين ، بل أيضًا على من سقطوا وحتى المجرم كان يطلق عليه "المثير للشفقة". في الاستخدام الشائع . تم تعليم الروس أن يشفقوا على راسكولينكوف ، في "الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي ، وكاتيوشا ماسلوفا في البعث على يد تولستوي والمشردين في روايات مكسيم غوركي . تم تعليم الروس أن يتراحموا ، وأن يمدوا يد العون - ليس فقط داخل دائرتهم الخاصة ، تجاه أولئك الذين ينتمون إلى نفس الطبقة - وانما لمعرفة مشاعر ومتاعب جميع "الجيران". وهكذا كان التعاطف متوقعًا أيضًا من النخبة الاجتماعية والثقافية ذات المكانة العالية . قد يقول المرء أن واجبهم كان أكبر واجب لخدمة الذين سقطوا . إن "الانحناء" في الأعمال الخيرية وسكب دمعة من الشفقة على الإنسان كان بالفعل واجبًا أخلاقيًا مقبولاً. لكن ألم يدل هذا الموقف على علاقة القوي بالضعيف ؟ ألم يشتمل هذا الإحساس بالشفقة ، غير الملحوظ حتى للرجل الصالح نفسه ، على ملاحظة من التعاطف ، والطيبة بين اناس غير متساوين فيما بينهم ؟ ثم أيضًا ، عندما يساعد الرجل القوي أخًا ضعيفًا ( سواء كان ذلك روحيًا أو جسديًا ) ، فإنه كثيرًا ما يعتقد أنه يعرف أفضل ما هو جيد لأولئك الذين يحتاجون إلى مساعدته. يبدو الأمر كما لو أنه تولى المسؤولية عن الآخرين ونتيجة لذلك - كلما كان ذلك ضروريًا - سوف يكرههم لفعل شئ " من أجل مصلحتهم ". وهكذا فإن العمل الخيري المبارك ينطوي على إدانة للضعفاء ، وميل للسيطرة على حياتهم .
لذلك يمكن أن تنمو الثمار المرة أينما كان الثوري ، في جهوده لتحرير الإنسان ، مدفوعًا بهذا الشعور النبيل بالشفقة . كلما كان هذا الشعور نشطًا وعاطفيًا ، كلما أسرع في الشعور بنقاط ضعف الناس ، وافتقارهم إلى فهم الاتجاهات التاريخية ، وعجزهم وعماهم ، ونتيجة لذلك ، الحاجة إلى تحمل المسؤولية تجاههم وإرشادهم بيد عون حازمة . ألم يكن هذا هو مصدر القوة المخيفة والمدمرة لـ "المحقق الكبير"؟ هذه الشفقة تخفي لدغة الديكتاتورية ، أي القوة والإكراه ، والقسوة والعبودية.
ربما تنتمي لهذا النوع من الثوريين شخصية فيليكس دزرجينسكي الكئيبة. إن أهميته بالنسبة لنا كبيرة لدرجة أنه يستحق مناقشة أكمل لاحقًا في هذا الكتاب. سوف ندرك بعد ذلك كيف حقق إلى أقصى حد الصيغة المحفوفة بالمخاطر للثورة الزائفة : الإنسانية ، والسلطة ، والعنف ، والقسوة ، والوحشية.
خامسا . الثوري بالحب
يمكن ان يرمز للثورة على أنها شخص ، يسجد على ركبتيه أمام عرش ، و فجأة ، وباندفاع غير متوقع ، يقلب ذلك العرش . يمكن تطبيق هذا الرمز على جميع الثورات المعروفة في التاريخ ، ومع ذلك فإن الرمز وحده لا يميز كل ثورة على حدة ، والاختلاف يكمن في النية وفي أي مناخ روحي ، يرتفع الناس فجأة إلى ذروة تهديدهم الكاملة . هناك بديلان منطقيان أو نفسيان ممكنان هنا .
من الممكن أنه عندما رقدت جماهير الشعب في التراب أمام العرش ، امتلأت أرواحهم بغضب من النظام القمعي . و كان شغفهم الوحيد هو التعطش للانتقام ، والرغبة في ان يتساووا مع حكامهم حتى يجلسوا هم أنفسهم على العرش . وويل إذن لكل الذين وقفوا في طريقهم ، وويل أيضا للمجتمع الجديد الذي أصبح فيه عبيد الأمس سادة اليوم .
ولكن من الممكن أيضًا أن تكون الجماهير التي تعاني قد غذت أفكارًا ومشاعر من نوع مختلف . لقد تعمقت كراهيتهم وازدراءهم للاضطهاد البشري ، وقد أفسدوا كيانهم بالكامل ، لدرجة أن حلمهم كان قلب العرش ليس فقط لأنفسهم ، ولكن للجميع . عندما بزغ فجر تحررهم في تلك اللحظة النادرة ، نهضوا بوجوه أضاءها وهج داخلي لتدمير كل العروش - للجميع وإلى الأبد. لم يبحث العبيد المتمردون عن أسياد جدد سوى الإنسان .
في الحالة الأولى يكون المنتصر هو الثوري العفوي الأناني . والثاني هو الثوري بالحب.
يجب عدم الخلط بين هذا الثوري الأخير والمتمرد بالشفقة ، على الرغم من أن كلاهما يفكر من منظور الآخرين وليس من منظور أنفسهم . الشفقة لا تسمح بالمساواة ، ولكن فقط لعلاقة بين الذات والشيء ، العطف الممنوح . في علاقات الحب ، هناك مساواة ، أخلاقية وواقعية ، من جانب موضوعين . من المؤسف أن مفهوم "نحن" يقوم أساسًا على "أنا" ؛ في الحب ، نفس كلمة "نحن" تقع أساسًا على "أنت". عندما يكون الحب هو مايلهم الثوري ، يسعى إلى مساعدة من يعانى ، ليس كمتبرع بل كرفيق .
دفعت موارد الحب العميقة مائة عام كاملة من نضال الشعب الروسي من أجل التحرر . على الخلفية المشرقة لذلك القرن ، شاهد مجرة لا نهاية لها من المقاتلين الراديكاليين والمعتدلين ، والليبراليين والديمقراطيين ، والاشتراكيين والفوضويين . بغض النظر عن مدى تباين فلسفاتهم السياسية ومزاجهم وأنشطتهم ، فقد اتحدوا جميعًا في شيء واحد : الحب العميق للناس والحقيقة. ليس من قبيل المصادفة أن روسيا القيصرية الفقيرة المليئة بالأقنان أنتجت تلك المجموعة الرائعة من الناس الذين ، تحت وصفوا ب "المثقفين" ، أثاروا إعجاب العالم بأسره . لم يكن المثقفون الروس مجرد مجموعة محترفة من المثقفين ؛ وانما شملت رجالا ونساء من جميع الطبقات الاجتماعية ومستويات متباينة من التعليم. لقد وحدتهم أفكار اجتماعية وأخلاقية عظيمة ، والإرادة لتحرير الشعب الروسي ومعه الجنس البشري . في كثير من الأحيان كان يطلق على هؤلاء المثقفين "النظام الأخلاقي" للعصر الجديد .
في الظروف السائدة في تلك الأيام كان من الطبيعي أن يجئ غالبية هؤلاء المثقفين من الطبقات الأكثر ثراءً في المجتمع الروسي . حتى نهاية القرن التاسع عشر تقريبًا ، جاء مفكرو ونشطاء وشهداء الثورة الروسية من عائلات نبلاء الأرض والطبقة الوسطى الحضرية . في السبعينيات من القرن الماضي ، بدأوا العمل انطلاقا من الإحساس بالواجب تجاه الناس . كتب المفكر الروسي العظيم نيكولاي ميخائيلوفسكي : "إذا كنت أنا شخصًا مفكرًا ، إذا أدركت أن عقلي وكل المتعة المشتقة منه يتم شراؤها بعرق الكثيرين ، فماذا يجب أن يكون سلوكي ؟" كان هذا هو السؤال الأساسي .
أجاب هؤلاء المثقفون على السؤال بالحركة القوية "الذهاب الى الشعب ". في هذه التعبئة الجماهيرية الطوعية للخدمة ، سعوا ليس فقط لسداد ديونهم ومشاركتهم مع الجماهير المضطهدة ، على الأقل جزئيًا ، تعليمهم وفهمهم للحياة ؛ لقد سعوا كثيرًا للتعلم من الناس ، لتشرب بعض قوتهم الأخلاقية وبراءتهم ، والوقوف إلى جانبهم في النضال من أجل المستقبل . وكانت جذور هذه الحركة ، بالطبع ، حب الشعب.
أصبح هذا الموقف تقليدًا راسخًا للثورة الروسية خلال كل العقود الصعبة من التحضير لها. قارن ، على سبيل المثال ، الملاحظات الموجودة في مذكرات فيليكس دزرجينسكي ، والتي تتخللها مشاعر الشفقة على الفقراء ، والتصريحات التي لا حصر لها للثوريين الروس في محاكماتهم . كم يشرق حب المظلوم والدفاع عن كرامة وشرف المضطهدين في كلام الأخير. كم كان هناك اهتمام وإيمان بالانسان في الفلاح ، لمفهوم الإنسان ذاته وحقوقه غير القابلة للتنازل عنها . اقرأ ، على سبيل المثال ، خطاب جريجوري جيرشوني عام 1904 أمام المحكمة العسكرية التي حكمت عليه بالإعدام . عبارة لا تُنسى : "نحن لا نكرهكم لأنكم سفكتم دمائنا ، ولكن لأنكم تجبروننا على إراقة دمائكم ".
اقرأ خطاب ماريا سبيريدونوفا عام 1906 أمام المحكمة العسكرية في تامبوف . اقرأ رواية مكسيم غوركي الأم ، حيث يوجد معرض طويل للعمال الصناعيين الروس الذين لم يكونوا واعين لمزاياهم ، كانوا أعضاء رائعين في " نظام الانتلجنسيا الروسية ". وربما أفضل ما في الأمر هو أن هذا الحب تجلى من خلال واحدة من أجمل الشخصيات في المعركة الروسية - شخص لم تصبح قائدًة أبدًا ، لكنها عبرت بالكامل عن مبدأ الحب في الثورة - يفستوليا ب. راجوزينيكوفا .
كان ذلك في عام 1907 ، عندما كانت روسيا بأكملها تئن تحت الضغط الدموي للنظام القيصري ، عندما امتلأت السجون ، ومعتقلات السخرة تعج بالسجناء ، عندما عرّض مسؤولو السجن - بناءً على أوامر من بطرسبورغ – المتهمين لعقوبة بدنية وحشية . في الساعة الثانية بعد ظهر يوم السابع عشر من أكتوبر ، دخلت يفستوليا راغوزينيكوفا في ثوب أسود وعباءة واسعة الى غرفة الانتظار التابعة لإدارة السجن الرئيسي في بطرسبورغ . ملأت الشابة الغرفة برائحة عطرية مميزة. أخبرت المنظم أنها ترغب في إجراء مقابلة شخصية مع ماكسيتوفسكي ، رئيس إدارة السجن ؛ وطلب منها الانتظار . لم تثر أي شك لأنها كانت هادئة للغاية وتحدثت بانطلاق .
لكن في الليلة السابقة ، كتبت صديقتها لاحقًا ، أن توليا ( كما دعاها أصدقاؤها ) جلست لتكتب رسائلها الأخيرة. كان رفاقها قد انتهوا من خياطة صدّيرية لها وملاؤها بثلاثة عشر رطلاً من الديناميت. في الصباح ، ارتدت توليا الصديرية . كان اليوم باردًا وضبابيًا . طوال الطريق إلى مبنى إدارة السجن ، شاهدت الأطفال بتركيز شديد واختارت الشوارع الأكثر ضوضاءً لرؤية المزيد من الناس . وفي الطريق أيضا تحدثت عن رفاقها في السجون وفي المنفى . كررت مرارًا وتكرارًا أنها تحب العالم كله ، وأن الشمس الساطعة كانت تتلألأ في روحها ، وأنها شعرت بأجنحة تنمو على ظهرها . كانت تشدو بصوت رائع وموهبة موسيقية رائعة .
حوالي الساعة الخامسة صباحًا تم قبولها في مكتب ماكسيتوفسكي. بعد دقيقتين أو ثلاث دقائق ، انطلقت رصاصة . سقط ماكسيتوفسكي ، أصيب بجروح قاتلة. ركضت راجوزينيكوفا إلى باب غرفة الانتظار دون أن تلقي مسدسها. أمسكها شخص ما من الخلف. اقتحمت النافذة للإشارة إلى رفاقها الذين كانوا ينتظرون في الحديقة بالخارج ورمت المسدس - كما تم الترتيب - في الشارع . لكنها لم تنجح. وردا على سؤال الآمر الذي أمسكها : "لماذا قتلتم هذا الرجل الصالح ؟" فأجابت : "من الذي فرض العقوبة البدنية على السجناء السياسيين؟"
كانت هادئة وهدأت الرجال الخائفين من حولها. "لا تخافوا يا أعزائي . أنتم فقط تطيعون الأوامر . لن ألمسكم ". ثم وصل قائد ألاوخرانة (الشرطة السياسية للقيصر) وبدأ في تفتيش شخصها. واحتجت بمرارة على تفتيشها فى هذا المكان وطالبت بنقلها إلى مبنى الأوخرانة نفسه. كان هدفها هو استخدام الديناميت الموجود على جسدها هناك وتفجير نفسها مع المؤسسة التي تكرهها روسيا. في هذا أيضًا ، فشلت. ألقى بها الرجال على الأرض ، وتناولوها بحذر شديد ، واكتشفوا الديناميت والمفجر. عندما بدأ الاستجواب قالت: "لا أريد أن أعطيك اسمي . انا عضو في القسم الشمالي من حزب الاشتراكيين-الثوريين. لن أجيب على أي أسئلة أخرى ".
في اليوم التالي ، 16 أكتوبر / تشرين الأول ، مثلت أمام محكمة عسكرية. رفضت كلاً من المحامي والحق في كلمة أخيرة . في فجر يوم 18 أكتوبر ، تم شنقها في بقعة مهجورة بالقرب من كرونشتاد . بعد أربعة أشهر روى جنديان كيف أقتادوها إلى بقعة إعدامها ، وأنها كانت تغني وتحدثت بحيوية في العربة. أخبرتهم أنها قتلت - ليس رجلاً ، بل روبوتًا. في مكان الإعدام ، طلبت من الضابط الذي أجرى "العملية" بتوتر أن يؤجلها حتى الفجر حتى ترى شروقًا آخر للشمس . لم يوافقوا على هذا الطلب .
إليكم جزء من رسالتها الأخيرة لعائلتها : "أنا أكتب لأخبركم ، أعزائي ، أنني لست خائفة. الموت بحد ذاته لا شيء. يجب علينا جميعا أن نموت. المخيف فقط هو التفكير في الموت دون أن أحقق كل ما كان بإمكاني فعله. فعلت ما بوسعي ، وهذا يمنحني السلام والشجاعة. أردت أن أحقق في الحياة أكثر مما فعلت. لا أعرف ما إذا كان يجب إلقاء اللوم علي ، أو على الظروف. . . .
" فقط واجب أعلى أجبرني على هذا الفعل . لا ، ولا حتى الواجب ، بل الحب ، محبة عظيمة للبشرية. من أجلها ضحيت بكل ما لدي . كم هو جيد أن تحب الناس . ما مقدار القوة التي يكتسبها المرء من هذه المحبة.
"كل إخفاقاتي تبدو صغيرة وغير مهمة مقارنة بأهداف البشرية .
كانت راغوزينيكوفا تبلغ من العمر عشرين عامًا .
وحيثما كان الحب يوجه العمل الثوري ، لم يكن هناك تركيز كبير على تدمير وإسقاط القديم ، ولكن على الاندفاع العاطفي نحو بناء جديد متناغم . ليس على المرء سوى الاستماع إلى صوت الاشتراكيين الثوريين الروس ليدرك توقهم إلى العيش السلمي البناء ، والأخوة بين البشر والأمم . هذا هو السبب في أن هؤلاء الرجال والنساء ، الذين حملوا الأسلحة والقنابل وغيرها من أسلحة النضال في أيديهم ، كرهوا العنف بكل أرواحهم. كتب شاعر روسي ذات مرة عن "الحب البغيض" ، محاولًا التعبير عن فكرة أنه حتى في كراهية الثوار الروس ، هناك حب كبير خفي .
كان هذا هو الوضع في الفترة التي سبقت ثورة 1917. وهكذا بقيت فيما بعد في عملية تحقيق الثورة. هؤلاء الثوريون بالحب لم يتسمموا بالسلطة الهائلة التي كانوا يمتلكونها ، لأنهم شعروا بكل مخاطرها الكامنة ؛ لم يجتهدوا في إدامتها في دولة عمالية. كانوا يعلمون أنه في حالة القهر العنيف للدولة ، لن تغرق الحقوق فقط ، بل كيان الإنسان ذاته. وإذا كان الثوريون من هذا النوع غير مقدر لهم أن يروا النصر ، وباتوا شهودًا يائسين على كيفية إفساد حركة الناس ، المولودة في اندفاع نحو الإنسانية ، وتحولها إلى نظام غير إنساني ، فعزاؤهم انهم قبلوا الهزيمة بدلاً من المشاركة في هذا الفساد. من أجل فكرة الحب ، كانوا مستعدين لتحمل الهزيمة الشخصية. في الصراع بين الكرملين المنتصر والجلجاتا التي تبدو عاجزة ، وقد عرفوا مكانهم .
*THE WORKSHOP OF THE REVOLUTION . I.N.STEINBERG 1953
http//www.marxists.org/ archive/ steinberg/ 1953 workshop /ch15.htm .