ديالكتيك ماهية الانسان والمجتمع


عبد السلام أديب
2022 / 1 / 4 - 17:28     

1 - يؤكد كارل ماركس في أطروحته السادسة حول فيورباخ أن هذا الأخير: يـذيب الجـوهر الـديني في الجـوهر الإنـساني. بينما الجـوهر الإنـساني بالنسبة لماركس ليس تجريدا ملازما للفرد المنعزل. فهو في حقيقته مجموع العلاقات الاجتماعية كافة.

2 - ويساند فريدريك انجلز هذه الاطروحة الماركسية كما جاء في رسالته الى مارکس بتاریخ 19 نونبر 1844 حينما أعلن أنه "علينا الانطلاق من "الانا"، من الفرد التجريبي، الجسدي، ولكن ليس للتوقف عند ذلك، بل لكي نرتقي منه الى "الانسان".

3 – ان أهمية هذه الأطروحة الماركسية التي بلورها ماركس سنة 1846، تفضح الأدبيات البرجوازية المعاصرة، الفلسفية والاجتماعية والسيكولوجية والاثنوغرافية، والتي تحاول معالجة مشكلة الانسان، معالجة مشوهة، انطلاقا من نظرة مثالية وعنصرية وشوفينية متعالية. ومن هنا يأتي تزییف الفهم العلمي لأشكال اجتماع الناس التاريخية.

4 - أما في صلب الرؤية الصحيحة لطبيعة ای شکل تاریخی لاجتماع الناس، بما فيها العرق والامة وخصوصيات معالمها الروحية، فتقوم النظرة الماركسية على ماهية الانسان باعتبارها مجمل العلاقات الاجتماعية.

5 – ويثبت العلم المعاصر على نحو قاطع صحة قول الماركسية بأن صيرورة الانسان والمجتمع عملية ديالكتيكية موحدة. فلا صيرورة للانسان بدون صيرورة المجتمع، والعكس صحيح.

6 – أما في حالة الفصل الميتافيزيقي لاحداهما عن الأخرى فتواجه بمسألة مستعصية، فأیهما الأسبق، المجتمع ام الانسان ؟

7 - ان وحدة صيرورة الانسان والمجتمع هي التي تتيح فهم الطبيعة الاجتماعية لماهية الإنسان وأي اجتماع بشري، بكل خصوصيات تطورهما الروحي. فهي تبين أن تمایز اسلاف الانسان عن عالم الحيوان، والتغيرات المورفولوجية في بنية اجسادهم، قد تمت في ظل التأثير الحاسم للعوامل الاجتماعية، وان هذه التغيرات ذاتها قد سرعت و تائر تطور المجتمع البشري.

8 – ويفصل كارل ماركس هذه القضية في معرض تقديمه لنظريته حول المادية التاريخية في كتابه الى جانب فريدريك انجلز "الأيديولوجية الألمانية". فهو ينطلق من تقرير المقدمة الأولى للوجود البشري بكامله، وبالتالي للتاريخ بأكمله، وهي المقدمة القائلة بأنه يجب أن تتوافر للبشر إمكانية العيش لكي يكون في مقدورهم أن "يصنعوا التاريخ". لأن الحياة تشتمل قبل كل شيء على المأكل والمشرب والمسكن والملبس وأشياء عديدة أخرى.

9 - لذا فإن العمل التاريخي الأول هو إنتاج الوسائل الضرورية لأجل تلبية هذه الحاجات، وإنتاج الحياة المادية ذاتها. علما أن هذا العمل هو عمل تاريخي، وشرط أساسي للتاريخ بكامله، لا بد من تحقيقه في اليوم الحاضر وفي كل ساعة، مثلما كانت الحال قبل آلاف السنين، وذلك من أجل المحافظة على الحياة الإنسانية.

10 - فلا بد للمرء قبل كل شيء، في أي تصور للتاريخ، أن يلاحظ هذه الحقيقة الأساسية في كل مغزاها وفي جميع محتوياتها، وأن يمنحها ما تستحق من الأهمية.

11 – أما النقطة الثانية فهي أن تلبية الحاجات الأولى (عمل التلبية وأداة التلبية التي تم اكتسابها) تدفع إلى حاجات جديدة - وهذا الإنتاج لحاجات جديدة هو الفعل التاريخي الأول.

12 – بينما النقطة الثالثة التي تتدخل هنا في التطور التاريخي منذ البداية فهي أن البشر، الذين يصنعون من جديد حياتهم الخاصة في كل يوم، يشرعون في خلق بشر آخرين، في التكاثر: تلك هي العلاقة بين الرجل والمرأة، بين الأهالي والأولاد العائلة.

13 - وإن هذه العائلة التي كانت في الأصل العلاقة الاجتماعية الوحيدة تصبح في وقت لاحق، عندما تخلق الحاجات المتعاظمة علاقات اجتماعية جديدة وتخلق زيادة السكان حاجات جديدة، تصبح بالتالي علاقة ثانوية، ونتيجة لذلك فأنه يجب معالجة وتحليل موضوع هذه العائلة وفقا للوقائع التجريبية القائمة، وليس وفقا لمفهوم العائلة كما هي العادة.

14 - ومما لا ريب فيه أنه لا يجوز اعتبار هذه المظاهر الثلاثة للنشاط الاجتماعي على أنها ثلاث مراحل مختلفة، بل على أنها مظاهر ثلاثة فحسب، أو - إذا شئنا ثلاث «لحظات» توطدت منذ فجر التاريخ ومنذ البشر الأولين، وهي لا تزال تتجلی كظاهرة في التاريخ أيضا.

15 - إن إنتاج الحياة، سواء حياة المرء الخاصة بالعمل أم الحياة الخاصة بالتناسل، يتجلى مظهرها على أنها علاقة مزدوجة، كعلاقة طبيعية من جهة، وكعلاقة اجتماعية من جهة ثانية.

16 - والمقصود بالعلاقة الاجتماعية هنا النشاط المشترك لأفراد عديدين، بصرف النظر عن ظروف هذا النشاط وطريقته وغايته.

17 - ويترتب على ذلك أن نمطا معينا للإنتاج، أو مرحلة صناعية معينة، تتداخل على الدوام مع نمط معين للتعاون، أو مرحلة اجتماعية معينة، وهذا النمط للتعاون هو بحد ذاته "قوة منتجة".

18 - ويترتب على ذلك أيضا، أن كتلة القوى المنتجة التي هي في متناول البشر تحدد الحالة الاجتماعية، وبالتالي فإن "تاريخ البشرية" يجب أن يدرس ويعالج دائما في علاقته بتاريخ الصناعة وعلاقات التعامل.

19 - وعليه، فمن الواضح أن ثمة رابطة مادية تجمع البشر ببعضهم بعض تتحدد بحاجاتهم ونمط إنتاجهم، وهي قديمة قدم البشر ذاتهم، وإن هذه الرابطة تتخذ على الدوام أشكالا جديدة، تشكل "تاریخا" حتى من دون أن يوجد بعد أي هراء سياسي أو ديني يحقق علاوة على ذلك التماسك بين البشر.

20 – فانطلاقا من هذه اللحظات الأربع، وهي أربعة مظاهر للعلاقات التاريخية الأولية، نجد أن الإنسان يملك "وعيا"، أيضا؛ بيد أنه ليس على أي حال بالوعي الأصيل، ليس بالوعي «الصرف» منذ الوهلة الأولى. فمنذ البداية تثقل لعنة على "الروح"، لعنة "أثقال" المادة عليها، هذه المادة التي تتجلى ظاهرتها هنا في صورة طبقات مضطربة من الهواء، والأصوات، وباختصار في صورة اللغة.

22 - فاللغة قديمة قدم الوعي، واللغة هي الوعي الفعلي، العملي، الموجود أيضأ من أجل البشر الآخرين، وبالتالي موجود إذن، كذلك بصورة فعلية من أجلي فقط.

23 - واللغة إنما تنشأ، مثلها مثل الوعي، من الحاجة، من الضرورة الملحة للتعامل مع البشر الآخرين. فهي موجودة بالنسبة إلي حيثما توجد علاقة؛

24 - إن الحيوان «ليس في علاقة مع أي شيء، لا يقيم أية علاقة على الإطلاق. فعلاقات الحيوان بالحيوانات الأخرى لا توجد بالنسبة إليه على أنها علاقات.

25 - وعليه فإن الوعي، منذ البداية، نتاج اجتماعي، ويظل كذلك طالما بقي البشر. ومن المفروغ منه أن الوعي هو، بادئ الأمر، مجرد إدراك للبيئة الحسية الأقرب وإدراك للرابطة المحدودة مع الأشخاص الآخرين والأشياء الموجودة خارج الفرد الذي بدأ يدرك ذاته.

27 - وفي الوقت ذاته، فإنه إدراك للطبيعة التي تنتصب بادئ الأمر في وجه البشر على أنها قوة غريبة كليا، فائقة القدرة، تامة المنعة، يتصرف البشر حيالها بطريقة حيوانية صرفة، وهم يرهبون جانبها مثل الحيوانات. وبنتيجة ذلك فإنه وعي حيواني صرف للطبيعة (الدين الطبيعي).

28 - وإن إدراك ضرورة الارتباط مع الأفراد من حوله يشكل من جهة أخرى، بالنسبة إلى الإنسان، بداية الوعي بأنه يحيا في مجتمع. وإن هذه البداية تتسم بطابع حيواني مثلها مثل الحياة الاجتماعية ذاتها في هذه المرحلة. إنه وعي قطيعي صرف، ولا يتميز الإنسان عن الخروف في هذه النقطة إلا بالحقيقة التالية، ألا وهي أن الوعي يتخذ عنده مكان الغريزة، أو أن غريزته هي غريزة واعية. وإن هذا الوعي القطيعي أو القبلي يحقق تطوره و توسعه اللاحقين من خلال الإنتاجية المتعاظمة، وازدياد الحاجات وزيادة السكان التي هي في أساس العنصرين السابقين.

30 - ويتطور مع هذه الأمور تقسيم العمل الذي لم يكن في الأصل سوی تقسیم للعمل على صعيد الفعل الجنسي، ومن بعد أصبح ذلك التقسيم للعمل يتطور تلقائيا و"طبيعيا" بفضل الصفات الطبيعية (القوة الجسدية على سبيل المثال)، والمصادفة والحاجات، الخ، الخ.

31 - ولا يصبح تقسيم العمل فعليا إلا انطلاقا من اللحظة التي يحدث فيها تقسيم للعمل المادي والفكري وابتداء من تلك اللحظة يستطيع الوعي أن يتباهی فعلا بأنه شيء يختلف عن وعي الممارسة القائمة، وأنه يمثل فعلا شيئا ما من دون أن يمثل شيئا فعليا؛

32 - إن الوعي هو من الآن فصاعدا في مركز يستطيع فيه أن يتحرر من العالم، وأن ينصرف إلى تكوين "النظرية الصرفة"، اللاهوت، والفلسفة، والأخلاق، الخ.

33 - لكن حتى إذا دخلت هذه النظرية، من لاهوت و فلسفة وأخلاق، الخ، في تناقض مع العلاقات القائمة، فإن هذا لا يمكن أن يحدث إلا لأن العلاقات الاجتماعية القائمة قد دخلت في تناقض مع القوى المنتجة القائمة؛ وإن هذا ليمكن أن يحدث، فضلا عن ذلك، في مجال وطني معين من العلاقات.

34 - ولأن التناقض في هذه الحال يحدث ليس ضمن هذا المجال الوطني، بل بين هذا الوعي الوطني وممارسة الأمم الأخرى، يعني بين الوعي الوطني والوعي العام لأمة ما.

35 - فالتناقض لا يمثل في المظهر إلا بوصفه تناقض في أحشاء الوعي الوطني، وأن الصراع يدور حول هذه القذارة الوطنية، بالضبط لأن هذه الأمة تمثل التعفن في ذاته. وفيما عدا ذلك، فلا أهمية على الإطلاق لما سوف يباشر الوعي صنعه من تلقاء ذاته.

36 - إن كل ما نحصل عليه من هذا التعفن كله هو الاستدلال بأن هذه المظاهر الثلاث، أي القوى المنتجة والحالة الاجتماعية والوعي، يمكن ويجب أن تدخل في تناقض فيما بينها، لأن تقسيم العمل يجعل من الممكن، وبالأحرى، من الواقعي أن يؤول النشاط الفكري والنشاط المادي للمتعة والعمل، والإنتاج والاستهلاك- إلى أفراد مختلفين يقتسمونه فيما بينهم.

37 - ولأن الإمكانية الوحيدة لعدم قيام التناقض بين هذه العناصر تكمن في نقض تقسيم العمل من جديد. وفيما عدا ذلك، فإنه من البديهي أن «الأشباح» و«الروابط» و«الكائن الأعلى» و«المفهوم» و «الأوهام»، هي مجرد تعبير ذهني مثالي، تأملي، تصور الظاهري للفرد المنعزل، تصور قيود وتحدیدات تجريبية جدا يتحرك ضمنها نمط إنتاج الحياة وشكل التعامل المقترن به.

38 – على هذا المنوال أصبح التفسير العلمي لماهية الانسان ومختلف الجماعات البشرية الذي عالجه كارل ماركس وفردريك انجلز متناقضا مع مصالح الطبقات الاستغلالية، ولذا فان ايديولوجيي النظريات البرجوازية النخبوية والعنصريين والشوفينيين ينفون الماهية الاجتماعية للإنسان ولأشكال اجتماع البشر. وهم يسعون لتبرير تفاوت الناس والأعراق والطبقات والأمم انطلاقا من تفاوت مزعوم في التركيب البيولوجي والتكوين النفسي. ولهذا الغرض يشوه ايديولوجيو البرجوازية انجازات العلوم. ويدور اليوم صراع ایدیولوجی ضار حول مسألة العلاقة بين البيولوجي والاجتماعي في الانسان.

39 - وثمة عدد من العلماء البرجوازيين، الذين يستخدمون الانجازات المعاصرة للبيولوجيا الجزيئية وعلم الوراثة والسيكولوجيا بهدف تقديم تبرير "علمی" مزعوم حول التفاوت في قدرات الناس، وحتى الطبقات واعراق وجماعات اثنية بأكملها.