هل صحيح ان العنوان خاطئ؟ خواطر مستاء


قاسم علي فنجان
2022 / 1 / 1 - 19:49     

(لنا أن نتساءل بخصوص كل ما يظهره إنسان للعيان، ما الذي يخفيه؟ هل ثمة ما يرغب في صرف الإنظار عنه؟) .... نيتشه.

مع انني لست من انصار فلسفة نيتشه، لكن جمله او عباراته لا زالت تشكل شيئا ما، فهو الذي "حلل سايكولوجيا الحضارة البورجوازية" ، كما يقول لوكاش، و"الذي كان الممثل الأكثر موهبة وذكاء والاغنى بالألوان الدقيقة لهذا الاخذ لوعي الانحطاط"، ويمضي لوكاش بالقول عن نيتشه انه بحكمه "المقتضبة والذكية استطاع ان يعطي هذا الفريق من الطفيليين الثقافيين الذين كانت تخضهم غرائز التمرد، او يخضهم ببساطة بعض الاستياء...... كان يعطي أجوبة، بحيث يندفق من كل هذه النواعم والدقائق محتوى البورجوازية الامبريالية الطبقي، المتين الرجعية"، لهذا قد نكون، والى حد ما "مثقفين طفيليين" ونحن نجتر منه لمحته تلك، فنحن مستاؤون لدرجة ما.

جملة نيتشه اعلاه كأنها ترسم ملامح انسان يعيش عصرا بورجوازيا تاما، فلا يستطيع ان يظهر على حقيقته، انه يتوارى خلف فكر معين، او يظهر انه يتمترس وراءه، مع انه بالحقيقة- التي يخفيها- هو أكثر من يريد تحطيم هذا الجدار "الفكر"، فهو يشعر ان هذا الفكر يسجنه، يقيده، لا يستطيع منه فكاكا او خلاصا، ففي فترة محددة من عمره كان يحب هذا الفكر، لكن تقلبات الحياة وتغيراتها وتحولاتها، جعلته ينفر منه؛ لهذا هو يظهر للعيان انه يدافع عن "نظافة، نقاء، طهارة" هذا الفكر، حتى يصرف انظار اصدقاءه-المحبين له الى حد ما-، والذين لا يرغبون، هم انفسهم برؤية الحقيقة عنه، او يقاومون تلك الرغبة.

انه وعي ولا وعي الانحطاط البورجوازي، لما لا، فنحن نعيش عصرها المقيت، والإنسان في هذا العصر فقد بوصلته، اضحى تائها، يلفه الضياع، والاغتراب يكفنه.

تكتب كثيرا عن موضوع او فكر معين، تحدوك رغبة "نفسية-سياسية" بتهديمه، تجاوزه، اقصاؤه، تهميشه، وإذا أمكن الغاؤه، بطريقة او بمنهجية "دس السم في العسل"، او بطريقة "النوايا الطيبة او الحسنة"، فأنت تكتب بموضوع الفكر الذي يؤرقك كثيرا، والذي تريد الخلاص منه بأية طريقة؛ تقدم هذا الفكر على أنك أحد جنوده او المؤمنين به؛ تترجم جديده، تفسر قديمه، تشرح ما التبس منه، تغوص في اعماقه حد التطرف، لكنك بالمقابل تنزع عنه جوهره، محتواه، مضمونه؛ او في أحسن الأحوال تروضه لرؤيتك، او تخضعه لفكرك ونفسيتك الهاربة.

هو هارب من واقعه وحياته السابقة، فقد كان يعيش في بيئة سيئة، بائسة جدا، اثقلت دماغه بذكريات مؤلمة؛ كان يؤمن بهذا الفكر، حاله حال الكثيرين، لكنه وفي لحظة ما انتقل الى بيئة أخرى: ادهشته، صدمته، خشّبته، قلبت وضعه، وهزت كيانه؛ بدأ يتعلم اللغات الكثيرة، لكن بدون عقل تحليلي؛ قرأ الكثير عن هذا الفكر من جديد، مع رؤية المناظر الجميلة والبيئة النظيفة ومجتمع رأسمالي تام، خلص الى، او كان لزاما عليه، مراجعة الفكر الذي آمن به، والخلاص من شوائب ذلك الفكر وتلك البيئة، فقد صار "أستاذا او مستشارا" في بيئته الجديدة.

عندما تكتب عنوانا لموضوع معين، وتكتب به حلقات وحلقات مسلسلة، ثم يتبين ان العنوان "غلط"، فما الذي يعنيه ذلك؟ هل من الممكن ان تكون فلتة او زلة قلم او هفوة؟ فرويد في محاضراته 1915-1917 يعطي تقسيما ثلاثيا للفلتات والهفوات، لم تكن أي من تلك التقسيمات بالإمكان ان يدرج تحتها ذلك "الغلط"، حتى نقول انها "فلتة او هفوة او زلة"؛ اذن لم يبقى غير خيار "التفسير السياسي"، ما قد نلوذ به امام "اغلاط" كهذه.

هو توجه سياسي حقيقي؛ انه ليس نقدا علميا، بل الاصح ان نقول عنه انه "عزل، تهميش، اقصاء" ذلك الفكر، اقتلاع اللب الثوري منه، هو ما يراد من تلك المقالات، لا توجد براءة فيما يكتب هذا او ذاك؛ "مستشار" يكتب "لمستشار" ويعلق عليه "مثقف" ما، ويصادق عليهم أحد الهاربين من ماضيهم؛ هكذا تدار اللعبة؛ انهم لا يمثلون ذواتهم فقط، بل يمثلون تيار سياسي معين، فالقضية ليست كما يقال "يجب تنظيف هذا الفكر وتنقيته"، هذا هٌراء تام.

بالرجوع لصاحبنا الذي يخفي صورته الحقيقية "الدوريانية"، والذي لا يحب ان يطلع عليها أحد؛ فقد بدأ يشيخ، انه يصارع واقعا نفسيا مريرا، لكنه حتى يبرر سلوكياته امام ذاته بشكل خاص، فأنه يرتمي بأحضان "نهضة وطن"، الذي سنتكلم عنه يوما ما، فهذا الارتماء قد يشعره ببعض الراحة، او يزيل عنه والى حد ما عقدة الذنب التي يصارعها.

لينين، وعندما كان "ماركسيا صحيحا" كما يقول صاحبنا في احدى قفشاته، ذكر قصة تشيخوف "دوشيتشكا"، ونراها مناسبة جدا (كانت دوشيتشكا تعيش في اول الامر مع رئيس جوقة وكانت تقول: اننا نٌخرج، انا وفانيتشكا، مسرحيات جدية. ثم عاشت مع تاجر اخشاب فصارت تقول: اننا مستاءان، انا وفانيتشكا، من الضريبة العالية على الخشب. وأخيرا عاشت مع طبيب بيطري فصارت تقول: اننا نداوي الخيول، انا وكوليتشكا). ويختم لينين القصة بالقول: في أحضان من ستكونين غدا يا دوشيتشكا؟