تونس المبادرة الديمقراطية مواطنون ضد الانقلاب أو صيحة المذعورين من مسار ذهب دون رجعة


بشير الحامدي
2021 / 12 / 25 - 19:30     

سمعت حلقتي النقاش التي بثتهما المبادرة ـ الديمقراطية. مواطنون ضد الانقلاب
صحيح أنّ سعيد انقلابي وانقلب ولكن انقلب على ماذا؟؟؟
انقلب على منظومة هي نفسها منقلبة وأسس لها الانقلاب على مسار 17 ديسمبر عبر هيئة بن عاشور ثم انتخابات 2011 التي جاءت بما كان يسمى مسار الانتقال الديمقراطي والذي تبين فيما بعد أنه لم يكن غير محاولة تقنين فاشلة بدستور 214 وبالهيئات التي وضعها لاستمرار نظام بن علي دون بن علي.
نفس العائلات النهابة بقيت محافظة على امتيازاتها.
نفس البيروقراطيات العسكرية والبوليسية المجرمة بقيت في مواقع نفوذها القديمة.
تحولت المحاسبة السياسية والاقتصادية لمجرمي العهدين الديكتاتوريين عهد بورقيبة وعهد بن علي إلى مصالحة معهم.
استمرت مسألة المديونية والبطالة على حالها بل تفاقمتا.
استمرت مسألة السيادة على ثروات البلاد ومواردها امتيازا بيد الأقلية.
أمر واحد تغير وهو أن القرار السياسي وعوض أن يكون بيد الشعب صار بيد حزب حركة النهضة وظلالها... وباختزال شديد عوضت النهضة وظلالها التجمع في الدولة والإدارة والأجهزة التشريعية والتنفيذية والقضائية وامتدت سلطتها لتشمل كل مساحات الفعل السياسي حتى 25 جويلية 2021.
هكذا حدث للثورة حين غاب عن الفاعلين فيها ومفجريها وعن الأغلبية مشروع التأسيس للتغيير الجذري وحين غابت عنهم السياسات الراديكالية.
لم يتوقف التاريخ عند عجزهم وعند غياب الجذرية المنشودة التي تقلب الأمور جميعا لصالحهم بل استمرت حركة التاريخ تتقدّم ولكن لغير صالحهم لأن التاريخ يكتبه من لا يتوقف... يكتبه من لا يترنح... يكتبه من له مشروع ومصلحة يغلبها... يكتبه من يخوض معاركه لصالحه وليس لصالح أعدائه الطبقيين... ولأن التاريخ صراع في الأخير على الأرض بين مصالح متضاربة ومتناقضة تغلبت مصلحة البيروقراطيات الحزبية الجديدة الملتفة على مسار 17 ديسمبر الثوري، مصالح الأقلية التي تكمن في الإبقاء على السيستام ولكن بمتنفذين جدد. وكانت حكومات العشر سنوات الماضية وهيئات العشر سنوات الماضية ... ولأن الانقلاب الأول انتهى إلى أزمة عميقة ولم يكن بمقدورة البقاء بمزيد إنتاج الأزمات انقطعت الحلقة التي كانت تشد السلسلة برمتها وسقط الانتقال الديمقراطي وسقطت قواه السياسية ولكن ليس بفعل قوى من خارجه، قوى مقاومة جذرية وبسياسات راديكالية وعبر مشروع يقلب الأمور جميعا لصالح الأغلبية، بل بواسطة قوى من داخل نفس المنظومة وعبر جهاز الرئاسة الذي تمكن من الوصول إليه قيس سعيد في انتخابات 2019 الرئاسية التي قاطعها أغلب الشعب التونسي.
انقلاب قيس سعيد الثاني والذي لم يكن انقلابا على الانقلاب فقط بل كان انقلابا أيضا على التجذر الذي بدأ يظهر على حركة مقاومة المنظومة ككل التي بدأت تتشكل ولكن متفرقة ولكنها كانت تتقدم لاستئناف مسار 17 ديسمبر. وبدأت مكوناتها المتعددة تعي ضرورة اسقاط الانتقال الديمقراطي، وتدفع للتجمع حول مطلبي السيادة على القرار والسيادة على الثروات والموارد، وطرح الحلول لمسائل التشغيل والمديونية والصحة والتعليم والفلاحة والبنية الأساسية والجباية والبيئة...
من هنا ومن هذا الموقف وعلى قاعدة هذه الرؤية نقيم إجراءات 25 جويلية وما تبعها. ومن هنا ومن هذا الموقف وعلى قاعدة هذه الرؤية نبني موقفنا من المبادرة ـ الديمقراطية. مواطنون ضد الانقلاب التي لا نراها غير تجمع يدور في مساحة منتهية تاريخيا هي مساحة العودة لمسار الانتقال الديمقراطي. فموقفهم من انقلاب قيس سعيد هو موقف حدوده المساحة السياسية التي وضعها الانقلاب الأول أي تلك الديمقراطية الفاسدة التي شرع لها دستور 2014 والهيئات التي جاء بها، والتي تنفذت عبرها حركة النهضة بديلا للتجمع الدستوري الديمقراطي. تلك الديمقراطية التي لم تجن الأغلبية منها سوى مزيد التفقير والقمع والاقصاء. وبعبارة أخرى فالمبادرة الديمقراطية ـ مواطنون ضد الانقلاب هي صيحة سياسية لبعض من لم تشملهم امتيازات سلطة النهضة حين كانت في الحكم ولا يمكن أن تشملهم امتيازات سلطة قيس سعيد حينما انقلب على جزء من المنظومة لصالح جزئها الآخر الذي أصبح يري أنه بمقدوره وعبر انقلاب قيس سعيد اقصاء النهضة والتفرد بالنفوذ. وما حديثهم ودفاعهم عن "الديمقراطية" هكذا مفهوما عاما إلا دفاع عن مسار ذهب دون رجعة ولا يمكن أن يعاد إلا في شكل ديكتاتورية لفئات من البرجوازية الصغيرة المذعورة من الانحدار الذي انتهت إليه في السلم الطبقي. فلاهي بمقدورها الارتقاء لمصاف البرجوازيات الكبيرة المتنفذة ولاهي بمقدورها الانحدار إلى مصاف فئات وطبقات الأغلبية التي يزاد وضعها سوءا يوما بعد يوم.
إن هذا الشكل من الديمقراطية التي تستجيب لمصالح هذه الشرائح البرجوازية المتوسطة هو شكل من أشكال الحكم لم يعد ممكنا له أن يرى النور في أوضاع محلية وإقليمية تسود فيها الأقطاب الكبيرة وتهيمن فيها الشرائح العليا لرأس المال مقابل تذرر باقي شرائح المجتمع وطبقاته.
الديمقراطية كما تدفع المبادرة الديمقراطية ـ مواطنون ضد الانقلاب إليها هي ديمقراطية الطبقات الاجتماعية الوسطى التي ذهبت إلى متحف التاريخ فالديمقراطية اليوم ديمقراطية الشرائح العليا لرأس المال ديمقراطية كفت عن تكون ديمقراطية بالمفهوم العام للديمقراطية لأنها وبكل بساطة ديمقراطية من بيدهم النفوذ الاقتصادي أي ديمقراطية السوق والبورصة والفساد ولم تعد ديموقراطية "دعه يفعل دعه يمر" الأولى التي راكمت الثروة وانتهت بها في يد قلة قليلة مقابل تذرر البقية الباقية من فئات وطبقات المجتمع التي تحولت لطبقات لا تملك وحتى إن امتلكت فملكيتها لا يمكن أن تغير من أوضاعها شيئا فالحيتان الكبيرة تسيطر على كل شيء ويمكن أن تلتهم كل شيء يقف في طريقها أو يحاول أن يحد من نهمها المتنامي ولا يعنيها كثيرا أن تسود عبر "الديمقراطية" أو عبر أنظمة الحكم الديكتاتورية. لا يعنيها أن تحكم باسم النهضة أو باسم قيس سعيد فهما تقريبا وجهان لعملة واحدة.
المبادرة ـ الديمقراطية. مواطنون ضد الانقلاب تدفع للوقوف ضد انقلاب قيس سعيد ولكن من أجل بديل لا تاريخي لأن البديل التاريخي الممكن والوحيد هو بيد الأغلبية حين تتملك مشروعا للتغيير الجذري بسياسات راديكالية متجاوز للديمقراطية التمثيلية من جهة ومتجاوز لمركزة السلطات بيد فرد وهذا لن يكون ممكنا دون التقاء الأغلبية اليوم على مشروع مقاومة جذري وبسياسات راديكالية يطرح الحلول الفعلية لهذه الأغلبية. حلول عن حقها في أن تكون سيدة قرارها وسيدة على ثروات بلادها ومواردها أغلبية مستقلة تخوض معاركها لصالجها وليس لصالح "الحلقة المغلقة" المحيطة بقيس سعيد وتريد أن تحكم باسمه بمفردها ولا باسم "الحلقات المغلقة" الأخرى المعارضة لانقلاب قيس سعيد والتي تريد أن تعود لديمقراطية الفساد ديمقراطية الانتقال الديمقراطي التي أورثت حركة النهضة وظلالها السلطة عن ديكتاتورية بن علي ولم تنجح طيلة العشر سنوات الماضية سوى في إنتاج "طرابلسية جدد".

25 ديسمبر 2021