الساحه الفلسطينيه وفوضى الخيارات:المسار الثوري البديل


غسان ابو نجم
2021 / 12 / 22 - 23:18     

لم تقف الارتدادات الكارثية لاتفاقات أوسلو عند حدود التنازلات المجانية التي قدمتها سلطة دايتون للاحتلال وحالة فوبيا التنسيق الأمني والاستغوال على كافة مؤسسات العمل الوطني وتفريخ شريحة طبقية ريعية واستولاد سماسرة من الاقتصاديين والسياسيين وقادة موالين للسلطة والاحتلال؛ مهمتهم سحق وسحل كل أشكال المعارضة ودفع الساحة الفلسطينية إلى حالة من الانقسام والاقتسام وتشتيت وحدة الشعب الفلسطيني وتشكيل هياكل سياسية وإمارات في رام الله و غزة وشطب الداخل الفلسطيني من الحسابات الوطنية والاستراتيجية النضالية والتآمر على فلسطينيو الشتات وإبداء الموافقة الضمنية على توطينهم وعدم ادماجهم الحقيقي ضمن منظمات العمل الوطني، بل وفصل قيادات احتلت مواقع نضالية تاريخية ولم تتساوق مع أهداف السلطة أمثال القدومي وغيره وتحويل مؤسسات م.ت.ف إلى واجهات ديكورية واستبدال مؤسسات العمل الوطني في الساحات الخارجية بسفارات تنسق وتدير أعمالها تحت أمرة سلطة دايتون وزعران التنسيق الأمني. لقد شكلت هذه الحالة وما رافقها من ضعف برامج وأدوات فصائل العمل الوطني الفلسطيني في مواجهة سلطة دايتون وفض العلاقة معها بوصفها انتقلت إلى الخندق المعادي لشعبنا وحقه في الحرية والاستقلال وعدم قدرة هذه الفصائل التخلص من عقدة أوسلو ونسج تحالفات بينية مناهضة لهذه السلطة؛ أسهم في دفع شعبنا إلى المزيد من خيبة الأمل ورسم حالة من عدم الثقة بين أوساط الجماهير بهذه الفصائل وبرامجها وعدم قدرتها على استخدام أدوات نضالية عملية للخروج من مستنقع أوسلو، رغم الشعارات الرنانة والجمل الثورية. إن هذا التوصيف للحالة الفلسطينية بوصفها العامل الذاتي؛ رافقة عوامل موضوعية أفرزتها حالة الخذلان العربي الرسمي وسلسلة الهزائم والانبطاح والهرولة نحو التطبيع وحالات الحصار للمقاومة الفلسطينية وعمليات الملاحقة والاعتقال للمناضلين في الساحة العربية وهول مخططات التسوية والتصفية للقضية الفلسطينية قبل وبعد مشروع الربيع العربي ودخول المنطقة برمتها في حالة تفتيت وانهيارات للدول والجيوش وسعي رأس الشر العالمي وحلفائها لتدمير المنطقة العربية وإفساح المجال للكيان الصهيوني للتغلغل في شتى بقاع المنطقة، بكل الوسائل العسكرية والاقتصادية والسياسية، وأخيرًا طرح مشروع الولايات المتحدة الإبراهيمية الذي يعد أضخم مشروع لوضع المنطقة بأكملها تحت امرة الكيان الصهيوني.

إن اكتمال الظروف الموضوعية والذاتية لانهيار المشروع الوطني والقومي العربي؛ جعل المنطقة العربية والفلسطينية بشكل خاص تعيش حالة من فوضى الخيارات، كرد فعل طبيعي لحالة الترهل وضياع البوصلة وفقدان الأدوات النضالية العملية وتحول م. ت. ف إلى هيكل ديكوري منزوع الفاعلية النضالية، وباتت معظم فصائل العمل الوطني تعيش على الأمجاد السابقة وتتعامل بردات فعل غير متكافئة مع الاعتداءات الصهيونية على شعبنا، هذه الاعتداءات التي تحاصر وتضرب وبكل وحشية أي فعل نضالي ضد العدو الصهيوني كحصار غزة وتدمير المباني فوق رؤوس ساكنيها دون رد فعل مقنع للجماهير الغاضبة واليائسة، وصولًا إلى معركة سيف القدس ، حيث تم استثمار الدم الفلسطيني لحساب أجندات خاصة، مما زاد من احباط الجماهير التي استبشرت خيرًا أن مجريات ما حدث ويحدث من انخفاض المنسوب النضالي ووصوله إلى حالة ميؤوس من إصلاحها؛ دفع بالعديد من الأشخاص والتكتلات والغيورين على المصلحة الوطنية إلى البحث عن وسائل وطرق لوقف النزف الحاصل في حركتنا التحررية الفلسطينية ووقف حالة الانهيار الكبير للثورة الفلسطينية؛ عبر عقد العديد من المؤتمرات والملتقيات الوطنية في معظم دول الشتات؛ فتم عقد الملتقى الفلسطيني ومؤتمر اسطنبول وغيره من اللقاءات التي هددت بتشكيل إطار بديل لم. ت. ف؛ إذا استمر كما هو عليه وتغول سلطة دايتون على مؤسسات المنظمة وتفريغها من محتواها الكفاحي، وبالرغم من العديد من الملاحظات على هذه اللقاءات والمؤتمرات، والتي ناقشتها في مقالات سابقة، إلا أن العديد من الشخصيات الوطنية الغيورة؛ كان لها الحق في تخوفاتها المشروعة. لقد عمد بعض الغيورين كما أسلفت سابقًا؛ إلى التداعي لإيجاد صيغة للخروج بالثورة من مأزقها الحالي، والبعض قام باستغلال الأوضاع وحرف شراع الصراع نحو مصالح فئوية ضيقة، كما حدث في مؤتمر إسطنبول* الذي عقد بترتيب من جماعة الإخوان المسلمين وتحت رعاية الإمام التركي؛ حليف الكيان الصهيوني وعضو الناتو، بهدف محاولة إنشاء إطار بديل لم. ت. ف، والذي لم يحظَ بالقبول الجماهيري على الأرض. كذلك قام بعض اليساريون الفلسطينيون بمحاولات لتشكيل تيارات شعبية مناهضة للاحتلال الصهيوني؛ تركزت في مناطق الشتات وعملت على حشد الجماهير الفلسطينية والعربية والعالمية، لكشف جرائم الاحتلال ومقاطعته ومقاطعته؛ اقتصاديًا وسياسيًا، ونجحت BDS في حصار المد السرطاني للاحتلال على الصعيد العالمي والعربي ونجحت في العمل خارج إطار العمل التقليدي الفصائلي، وبعيدًا عن قبضة سلطة أوسلو دون المساس بمكانة وأهمية منظمة التحرير الفلسطينية بوصفها ممثلًا شرعيًا للشعب الفلسطيني، وربما كانت أخطر محاولة وأؤكد أنها الأخطر هي المحاولة التي قام بها بعض اليساريين الطفوليين، والتي أطلق عليها المسار الثوري البديل!

لقد اطلعت على معظم منشورات بعض رموز هذا التيار وانتظرت صدور بيان اللجنة التحضيرية لمؤتمر مدريد وبيروت وسان باولو قبل أن أكتب هذه المقالة، رغم أنني كنت أتوقع النتائج، ولكن وللحقيقة العلمية آثرت الانتظار كي أفند ما هي المنطلقات النظرية والسياسية والنتائج العملية لهذا المسار، وللحقيقة لم أجد فيها ما هو جديد، سوى طموح البعض الشخصي للقيادة وتبوء مواقع سياسية وإعلامية، ولا أنفي هنا إمكانية تأثر البعض برؤى وطموحات فتى الموساد المدلل عزمي بشارة بقصد أو دون قصد، بعيدًا عن فكرة التخوين، وما أود تفنيده هنا:

أولُا: من حيث المسمى؛ انطلق أحد قيادي هذا المسار من دعوات الدكتور جورج حبش إلى تشكيل مسار بديل لمسار اليمين المتنفذ في الساحة الفلسطينية، وأورد في مقالة له في الأخبار اللبنانية؛ تصريحات الدكتور جورج حبش واعتبرها منطلقًا له لتشكيل هذا المسار وأخذها كمن أخذ ولا تقربوا الصلاة، عندما نادى الدكتور جورج حبش إلى تشكيل مسار ثوري بديل، لم يكن يوجه فصائل العمل الوطني المتعارضة مع اليمين المتنفذ في منظمة التحرير الفلسطينية إلى إسقاط هذا الإطار الجبهوي والانقضاض عليه، بل إلى تشكيل مسار بديل لنهج التسوية والتفريط والعمل داخل م. ت. ف لحصاره وإسقاطه، وهو على درجة من الوعي والجرأة والقوة أن يطرح الخروج عن المنظمة وتشكيل مسار أو إطار بديل، كما فعلها عندما شكل الجبهة الرافضة لكافة الحلول الاستسلامية واعتبرها بديلًا لم. ت. ف، ثم تم التراجع عنها لاحقًا، وهذا ما لم يدركه أو قفز عنه اليساريون الطفوليون وحملوا تصريحات الدكتور جورج حبش؛ أكثر مما تحتمل.

ثانيًا: لم يختلف برنامج هذا المسار عن أدبيات بعض فصائل العمل الوطني اليسارية وتحديدًا الجبهة الشعبية وهو أحد كوادرها، من حيث المنطلقات الفكرية والرؤى السياسية التي حددت سياسيًا برنامجها المرحلي والاستراتيجي ونادت بتحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني وتعبئة الجماهير وقدمت الشهداء والأسرى على مذبح هذا البرنامج النضالي، وكان الأجدر أن يتم النضال من أجل تجذير هذا الوعي في أوساط كافة القوى اليسارية والعمل على توحيد قوى اليسار الفلسطيني المنضوي تحت لواء م. ت. ف ببرنامجها الوطني التحرري – الذي أهدرته القيادة المتنفذة - لا شرذمتها، وكأن الساحة الفلسطينية بحاجة إلى هياكل سياسية جديدة..!

إن الفهم النظري لوحدة الحزب اليساري تفترض التسلح بالوعي والحرص على الوحدة والانضباط الداخلي وعلى كل من يعي دور الحزب اليساري ودوره في تثوير الحزب من الداخل وتوسيع منطلقاته وتثبيت برامجه والعمل في أوساط الجماهير، كقائد ومحرك لها. هكذا؛ أوضح لينين قائد أكبر حزب يساري في التاريخ؛ ناضل داخل الحزب أكثر من خارجه، ليخرج ويقول أخيرًا: هل لديكم حزبا كهذا بعد أن لفظ كل من تعارض مع مسيرة الثورة؟ هذا هو الإنسان اليساري الثوري؛ فعن أي مسار ثوري تتحدثون؟!

ثالثًا: لقد أوضح المشاركون عن نيتهم تشكيل لجنة تحضيرية للمؤتمر وإجراء الانتخابات، فإن كانت هذه الدعوة لتشكيل حزب جديد فهذه مصيبة؛ أوردت آثارها آنفًا، أما إن كانت النية تشكيل إطار بديل لم.ت.ف؛ فالمصيبة أكبر، وكأنهم يقدمون خدمة مجانية لكل أعداء الشعب الفلسطيني الذين عملوا لسنوات طوال على تفكيك هذا الإطار الجبهوي الذي يعتبر إرثًا نضاليًا للشعب الفلسطيني؛ سعوا لاستبداله بسلطة دايتون الهزيلة ويحاولون عبر الترويج لها أنها تمثل الشعب الفلسطيني، من أجل مسح اسم المنظمة من ذاكرة ووجدان الشعب الفلسطيني، وها أنتم بأفقكم الضيق وصبيانيتكم السياسية تقدمون م. ت. ف للأعداء على طبق من ذهب وتستبدلونها باتحادات شبابية ولجان نسوية وأطر طلابية، وكأن الثورة الفلسطينية عجزت عن تقديم هذه الأطر واللجان، والتي سطرت عبر تاريخ الثورة الفلسطينية آيات من الصمود والعنفوان وقدمت الشهداء والجرحى والأسرى وحملوا البنادق التي أهمل بيانكم ذكرها، ودافعوا عن شرف الثورة وجماهيرها في الوطن والشتات.

لقد فرضت حالة التراجع العام التي أوردناها على الصعيدين العام والخاص؛ إعادة تقييم وبحث للأدوات النضالية، لمجمل مسيرة حركة التحرر الفلسطينية وإعادة اتجاه البوصلة النضالية نحو الاتجاه الصحيح ورسم البرامج القادرة على النهوض بمنسوب العمل النضالي، وبما يحافظ على المكتسبات النضالية التي حققتها حركة التحرر الفلسطينية وطرح ما علق بها من طفيليات سياسية طيلة المسيرة النضالية، وهذا بتقديري يرتكز على عدة محاور أهمها:

أولًا: الحفاظ على م. ت. ف بوصفها إطارًا جبهويًا ممثلًا للشعب الفلسطيني وجامعًا لكافة أطيافه وتعزيز مكانتها بوصفها إرثًا نضاليا للشعب الفلسطيني وانتزاعها من بين أنياب سلطة دايتون التي حولتها إلى هيكل ديكوري والفصل المطلق والعملي بين سلطة دايتون وبين المنظمة وأدواتها النضالية: مجلس مركزي ومجلس وطني وغيرها.

ثانيًا: سرعة البدء بحوار وطني شامل لإعادة تقييم المسيرة النضالية؛ يقوم به كافة فصائل العمل الوطني ومؤسسات العمل الشعبي والشخصيات الوطنية وكافة الأطر والأذرع النضالية، وتكون مهمته رسم السياسات والبرامج المشتركة لإنجاز مهمة التحرر والأهداف الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني ووقف حالة التشرذم والتفتيت المتعمد لقوى شعبنا وإعادة توحيد الجهود الوطنية لإعادة بناء م. ت. ف على أسس نضالية، لوقف حالة التمزق والتطاول على م. ت. ف ووقف حالة الفصل المتعمد لقوى شعبنا وتكتلاته السكانية والمكانية بين ضفة وغزة والداخل والشتات وإعادة تعريف منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده واعتبار كل ممثليات وسفارات سلطة دايتون ملك للمنظمة بوصفها ممثلة للشعب الفلسطيني.

ثالثًا: وضع برنامج نضالي حقيقي للعمل على حصار وإسقاط سلطة دايتون واتفاقات اوسلو بوصفها المدمر الحقيقي لنضال الشعب الفلسطيني، والإقرار الكامل أن هذه السلطة قد انتقلت إلى المعسكر المعادي للثورة وإسقاطها أصبح ضرورة ملحة وأساسية لدفع عجلة النضال الفلسطيني، وأعتقد أن هذه المهمة هي الأساس للانطلاق من جديد وشعبنا وقواه الحية ليست عاجزة عن انجازها رغم تهويل البعض لاستحالة تحقيقها.