مأساة العالم السوفييتي كوروليوف


رضي السماك
2021 / 12 / 22 - 20:43     

قبل بضعة أشهر بثت قناة RT الروسية تقريراً وثائقياً مصوراً يتناول شهادة ناتاليا كوروليوف إبنة العالم السوفييتي الكبير سيرجي كوروليوف العبقري الأول في علوم الفضاء والصواريخ والمركبات الفضائية، وشرحت بالتفصيل مأساة أبيها خلال الحقبة الستالينية وما لحق به من ظلم شديد قاس بلا مبرر ، وقد ألفت كتاباً في هذا الصدد بعنوان " الأب"، كما بثت القناة نفسها بعدئذ مقابلة حوارية مستفيضة ضمن برنامج "رحلة في الذاكرة" لخالد الرُشد جرت على حلقتين مع البرفيسور أندريه كوروليوف حفيد العالم كوروليوف، وفي هذه المقابلة كشف جوانب اخرى مهمة من حياة وعبقرية جده المظلوم. ولا أظن أحداً شاهد هذين البرنامجين أو واحداً منهما ولم يصعق ذهولاً من مأساة هذا الرجل العالم أو لم تهز مشاعره من الأعماق؛ سيما أنها جرت في بلد الإشتراكية الأول، وكان كوروليوف واحداً من أهم أصحاب الفضل افي مضاهاة الاتحاد السوفييتي لعدوه الرأسمالي ،الولايات المتحدة، ليس في ريادة الفضاءفحسب بل وفي مضمار اكتشاف وتصنيع الأسلحة الاستراتيجية النووية، لا سيما أن نصف اكتشافاته جرى تصميمها وتطويرها في ظل محنته المديدة داخل المعتقلات العديدة التي أستضافته تباعا !
وقد بدأت فصول مأساته باعتقاله ضمن حملات التطهير الستالينية 1938بذريعة واهية هي أنه ينتمي إلى "منظمة تروتسكية" ومن ثم وصم بأنه "عدو الشعب" " وتعرض أثناء التحقيق لصنوف التعذيب الوحشي وكُسر فكه وفقد كل أسنانه، وحُكم عليه بالسجن عشر سنوات قضى معظمها في معتقلات العمل الإجباري في "كوليما" حيث عمل في منجم الذهب " مالدياك" حيث كاد أن يتعرض للموت فيه .
وفي خريف 1940 نُقل إلى معتقل سري بموسكو خاص يُسمى "مكتب التصاميم" وكان يُحتجز فيه نخبة من العلماء والمصممين مكلفون بمواصلة تنفيذ مشاريع علمية بداخله، بينهم مصمم الطائرات الشهير توبوليف الذي صمم معه قاذفة الخطوط الأمامية 2 ، ثم نُقل إلى سجن آخر عمل فيه على تصميم محركات الدفع النفاث، كما نجح في عام 1944 في تصميم الطائرة الانقضاضية وكوفيء بذلك بالإفراج عنه مع عدد كبير من زملائه العلماء المصممين ، وفي عام 1945 تم تكليفه بإعادة تصميم صنع الصاروخ الباليستي للمرحلة الواحدة الذي سبق أن أستخدمته ألمانيا النازية في أواخر الحرب العالمية الثانية، وفي عام 1947 صمم صاروخاً مشابهاً للصاروخ الألماني R1 . ثم أطلق صاروخ R7 لوضعه في المدار الصناعي وبفضله شاهد الناس الجانب الآخر من سطح القمر، ففي عام 1961صُنعت أول سفينة فضائية مأهولة للفضاء "فوستوك" ، وكوربولوف هونفسه من تدرب على يده أول رائد فضاء في العالم الشهير عالمياً يوري جاجارين، وأختاره لتنفيذ هذه المهمة 1961. ولم يكن العالم حينها يعرف العالم والاستاذ الكبير كورليوف الذي بفضله تحقق هذا الإنجاز؛ إذ كان قد ضُرب على إسمه نطاق من السرية المشددة. ومن المفارقات الساخرة أنه بينما كان يوري جاجارين في الصف الأول من الموكب المتجه إلى الساحة الحمراء في الاحتفال بعودته كان كوروليف في عربة بآخر الموكب وقد أنقطع رتل الموكب ما أضطره لمتابعة الحفل في منزله، أما في الحفل الغنائي الخاص بالمناسبة نفسها فحينما جلس في الصف الأمامي طلب منه الحراس الذين لا يعرفونه بالجلوس في الصفوف الخلفية باعتبار الصف الأمامي مخصصاً للضيوف !
في أوائل الستينيات طلبت لجنة جوائز نوبل أن يتقدم الأتحاد السوفييتي بطلب ترشيح كوروليوف لنيل جائزة نوبل، لكن الرئيس نيكتا خروشوف رفض الاقتراح متعللاً بذلك بأن ما تحقق من انجاز فضائي كان بفضل العلماء السوفييت جميعاً. وكوروليوف هو أيضاً أول من صمم محطة فضائية طويلة الأمد سُميت "سيوز"، وردت الولايات المتحدة على هذا التحدي بمشروع أبولو لصنع مجمع فضائي قمري يتيح هبوط رائدي فضاء على القمر وهو ما تحقق لها 1969، وكان هذا السبق كفيلا بأن يحققه الاتحاد السوفييتي من خلال كورو ليوف لولا أن أعطائه الضوء الأخضر للمضي فيه قُدماً جاء من القيادة متأخراً؛ بل وفي عشية وفاته المأساوية المفاجئة المبكرة عام 1966 عن عمر لا يتجاوز 59 عاماً لتُمنٰى بذلك علوم وبرامج الفضاء السوفييتية بنكسة خطيرة .
في أوائل مثل هذا الشهر، ديسمبر كانون الأول عام 1991، دق المسمار الأخير في نعش الأتحاد السوفييتي رؤساء ثلاث جمهوريات سوفييتية هي روسيا وأكرانيا وبيلاروسيا في غابة بيلوفيجسكايا على الحدود البيلوروسية البولندية بتوقيعهم على بيان يؤكد أنهاء الوجود القانوني لدولة الأتحاد السوفييتي الجبارة بعد نحو ثلاثة أرباع القرن من تأسيسها، وفي 25 من الشهر نفسه أضطر آخر رئيس لها ميخائيل جورباتشوف إلى إعلان أستقالته وتسليم كل سلطاته للرئيس الروسي بوريس يلتسن، وكذلك مفاتيح الأسلحة النووية
وإذ تتجدد في الإعلام الروسي والعالمي هذه الأيام التحليلات في أسباب أنهيار الأتحاد السوفييتي بمناسبة مرور 30 عاماً على ذلك الانهيار فإن قراءة مأساة العالم العبقري الكبير كوروليوف يمكن يستشف منها التنبؤ بمأساة هذه الدولة الاشتراكية الجبارة، وهنا لنا أن نتخيل كيف يمكن لهذه الدولة العظمى أن تواصل قوتها وعظمتها في ظل قيادة دكتاتورية هكذا كانت جرائمها بحق أعظم عباقرتها وعلمائها!