54 عامًا على وعد الشمس

غسان ابو نجم
2021 / 12 / 21 - 20:25     

ليس من اليسير تتبع مسار نهوض وتطور الحركات والتيارات الثورية التي تعمل ضمن حركة التحرر الفلسطينية، بحكم وضعها الخاص الذي عاشته وتعيشه حتى اللحظة؛ فما زال الاحتلال قائمًا مما يفرض حالة من التكتم والسرية على معظم أعمالها على الأرض إلى جانب حالة التشتت الوجودي لهذا التيار بين غزة والضفة والداخل الفلسطيني والشتات، مما يخلق عوائق مرجعية أمام من يطرق باب بحث هكذا دراسات. لقد استطاع المفكر والباحث غازي الصوراني وبمهنية عالية ورؤية علمية راسخة أن يستعرض تاريخ نشأة وتطور الجبهة الشعبية منذ انبثاقها من رحم حركة القوميين العرب حتى يومنا هذا، مستعرضًا أهم مفاصل هذا التطور في إطار الصيرورة التاريخية رابطًا الخاص بالعام أحيانًا ومغلبًا العام على الخاص أحيانًا أخرى، لتجد نفسك في حالة من القراءة التاريخية لماضي وحاضر ومستقبل المنطقة برمتها.

تعتبر مقدمة هذه الدراسة التي وضعها الكاتب، توصيفًا دقيقًا للوضع الفلسطيني وما يعتريه من حالة انقسام وهيمنة وتفرد كل من اليمين السياسي واليمين الديني المتفرد في الضفة وغزة وحالة التراخي النضالي الذي اكتست به كافة فصائل العمل الوطني، ودور الجبهة في معمعان هذا الوضع المعقد والمتردي، مما يكسب هذه الدراسة الموضوعية النابعة من قوة بصيرة الكاتب الذي استعرضها بروح ثورية ورؤية تاريخية شمولية ونقدية وحس عال بالمسؤولية النضالية، مستلهمًا ما أسس له الدكتور جورج حبش ورفاقه المؤسسين.

بناء على ما تقدم، فإنني أدعو كل فلسطيني تتملكه الغيرة على أرضه وثورته، أن يقرأ دراسة الرفيق الصوراني مرتين؛ مرة ليدرك حجم المأساة التي نعيش وكيفية الخروج الآمن منها، والثانية لنأخذ الدروس والعبر في كيفية قراءة الواقع ضمن رؤية علمية مستندة للمنهج الماركسي وقوانين الجدل التاريخي الذي استند إليه الرفيق المناضل غازي الصوراني. لقد استطاع الكاتب أن يوضح العلاقة بين حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والكيفية التي انبثقت منها الجبهة من رحم هذه الحركة التي أوضح الرفيق الصوراني ماهيتها وارتباطاتها مع باقي حركات التحرر العربية، واستنادها لنظام عبد الناصر، مؤكدًا هويتها الفلسطينية وعمقها العربي، وهذه لفتة لم تعالج من قبل، رغم العديد من الكتيبات والدراسات التي تناولت نشأة وتطور حركة القوميين العرب، مما أعطى للحركة وجهها العربي وقلبها الفلسطيني. وما يدلل على ذلك أن جميع الفصائل التي انبثقت عن هذه الحركة كانت فلسطينية بامتياز، ما يؤكد ما ذهب إليه الرفيق الصوراني، من أن الحركة امتازت بهذه السمة. إن حركة القوميين العرب كانت فصيلًا من فصائل حركة التحرر الوطني العربي، كانت في المشرق العربي بالذات الحركة الجماهيرية التي تصدت للأحلاف وساندت القيادة الناصرية ووقفت في وجه الإمبريالية بشجاعة. كذلك أوضح الرفيق الصوراني علاقتها بالجبهة الشعبية (وعلى هذا الأساس، فإن الجبهة الشعبية – حتى اللحظة الراهنة- تعتبر أن تجربتها التنظيمية والسياسية امتدادًا متقدمًا لتجربة حركة القوميين العرب، وأن التاريخ السليم للجبهة بكل ما مثلته لا بد وأن يبدأ من وضع حركة القوميين العرب، ليس لناحية ما تطورت وانتهت إليه فحسب، بل في ما انطلقت منه أصلًا.

وعن ولادة الجبهة الشعبية يقول الرفيق الصوراني (ولادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إذا كان لكل مرحلة ظروفها الموضوعية والذاتية، فإننا نرى هنا أهمية التأكيد على أن الظروف المرتبطة بانطلاقة الجبهة الشعبية، كانت ظروفًا كونية تعج بالرؤى والحركات الثورية التحررية والتقدمية، التي ترى في الماركسية والاشتراكية العلمية وجهتها وبوصلتها الرئيسية، ارتباطًا بالحالة الثورية في معظم بلدان العالم في تلك المرحلة عمومًا، وفي بلدان أوروبا خصوصاً، إلى جانب تفاعل المشاعر الثورية على المستوى الشعبي في كافة الأقطار العربية في سبيل النضال ضد الاستعمار والقوى الرجعية من أجل التحرر والاستقلال من ناحية، وفي سبيل التقدم والتطور الاجتماعي والتنموي والعدالة الاجتماعية من ناحية ثانية. وفي هذا المناخ، جاءت الجبهة الشعبية لتشكل أحد أبرز الفصائل التي تفاعلت مع هذا الحراك الثوري العالمي والقومي العربي).

ويستعرض الرفيق الصوراني مراحل تطور الجبهة الشعبية، من حيث المنطلقات النظرية والتنظيمية والسياسية وحالات الانتكاس التي تعرضت لها، نتيجة للظروف الموضوعية المحيطة بها وحالات الانشقاقات المتتالية التي تعرضت لها، بدءًا بالجبهة الشعبية القيادة العامة والجبهة الثورية والجبهة الديموقراطية التي فند الكاتب وبكل موضوعية أسباب ومنطلقات هذه الانشقاقات، وكشف دور اليمين المتنفذ في إحداث هذه الانشقاقات والطفولية اليسارية والانتهازية التي اتسم بها هؤلاء.

وللحق تعتبر هذه الدراسة وثيقة تاريخية لنشأة وتطور الجبهة الشعبية تفتقد لها المكتبة الثورية، بل أجزم إنها يجب أن تدّرس في مدارس الحركات الثورية العربية والعالمية، لأنها تستعرض مسيرة شعب بأكمله ضمن فهم نظري وعلمي متقدم. فلم يكتفِ الكاتب باستعراض التطور السياسي للجبهة ضمن مسيرتها النضالية ووقوفها إلى جانب طموحات شعبنا في الحرية والاستقلال وتبنيها المنهج الماركسي ال لينين ي، منحازة بذلك للطبقات الشعبية، رغم العثرات التي أخرت تحولها لحزب ماركسي لينيني، وتأخر تحقيقه منذ الإعلان عنه في المؤتمر الأول وانجازه في المؤتمر السادس. كما أوضح الرفيق الصوراني لقد أدركت الجبهة، أن إنجاز المهمة الأساسية الملقاة على عاتقها، وهي استكمال عملية التحول إلى حزب ماركسي وبناء حزب طليعي جماهيري، تتطلب منها إيلاء أهمية فائقة لتمليك القيادات والكوادر ناصية النظرية الماركسية. إن الارتفاع المستمر بمستوى التملك العميق للنظرية الماركسية من قبل الكوادر القيادية، والبناء الكادري المبرمج للكوادر وتمليكها لأساسيات النظرية هي المهمة الأساسية التي علينا الاضطلاع بها على طريق استكمال تحولنا.

وعن التأخير في التحول يقول الرفيق الصوراني (بعد انشقاق الجبهة الديمقراطية دخلت الجبهة الشعبية في المحطة الثالثة من تطورها في صيرورة التحول إلى فصيل شيوعي، إلى حزب ماركسي – لينيني، إلى فصيل للطبقة العاملة، وهذه المرحلة التي بدأت في شباط 1969م تنقسم إلى عدة مفاصل ومواقف لاحقة يمكن قراءتها من خلال المؤتمرات الوطنية العامة للجبهة، لكون هذه المؤتمرات تجسد المحطات التي يمكن أن يقرأ من خلالها المسار الفكري والسياسي للجبهة وبقي الحال على ما هو عليه حتى المؤتمر السادس). كما تستذكر الوثيقة -الصادرة عن المؤتمر السادس- موضوعة التحول – كحزب ماركسي- بقولها "إن إعادة الاعتبار للتحول، بما هو عملية تجديد مستمر، تحفظ للجبهة الشعبية تاريخها وحقوقها، وتسلحها بمبدأ أن يكون التجدد جوهر حياة الحزب ومصدر شبابه، وهذا غير ممكن إلا إذا واصل الحزب تجدده بصورة دائمة كحامل لمصالح وأهداف الشعب الوطنية والاجتماعية العليا، ليس في مرحلة ما، بل في كل المراحل. إن شرط ذلك، وكما هو معروف، تحضير الذات، وعبر التجدد، للمستقبل.

أخيرًا، أعتقد جازمًا أن مجمل ما استعرضه الرفيق الصوراني عن مراحل تطور الجبهة الشعبية منذ نشأتها بعد هزيمة حزيران 1967، وحتى يومنا هذا هي استعراض لمسيرة الثورة الفلسطينية وجردة حساب لما لها وما عليها على الصعيد الفلسطيني والعربي والعالمي، ولكن يبقى السؤال الملح قائمًا وهو: أين نحن الآن في ظل حالة التردي النضالي الذي نعيش وحالة الهرولة غير المسبوقة للنظام الرسمي العربي نحو التطبيع ومحاولات رأس الشر العالمي فرض أكبر مشروع استعماري عرفه التاريخ (الولايات المتحدة الإبراهيمية)، هذا المشروع الذي يعتبر خارقاً للأقطار ويفرض حالة من التطويع الاجباري لكل شعوب المنطقة العربية للتساوق معه، للخروج من حالة الفقر والاضطهاد والحصار التي تعيشها هذه الشعوب، مما يستدعي إعلان حالة الاستنفار القصوى لكل القوى الفلسطينية والعربية للدفاع عن مشروعها القومي العربي؟!