الفلسفة الماركسية ومسألة القيمة


مالك ابوعليا
2021 / 12 / 18 - 01:15     

كاتب المقال: أوليغ غريغوريفيتش دروبنيتسكي*

ترجمة مالك أبوعليا

ان الاشارات بعد الحروف أ، ب، جـ... من عمل المُترجم

في السنوات الأخيرة، طُرِحَ السؤال حول موقف الفلسفة الماركسية تجاه ما يُسمّى بمشكلة القيمة. لا يقتصر الأمر على أن علم القِيَم axiology البرجوازي، الذي كان يتطور على مدى ثلاثة أرباع قرن، يجب أن يُحلل نقدياً. محور المسألة هو ما اذا كان علم القِيَم الماركسي مُمكناً(أ). سيكون ما يلي، مفيداً في هذا الصدد. غالباً ما يطرح المؤلفون الذين يتجاهلون تاريخ الفلسفة ويبدأون في بناء نظرية للقيمة على أساس التعميم المُباشر "لجميع الحقائق المعروفة"، غالباً ما يطرحون المسألة القيمية بالضبط كما تمت صياغتها في وقتٍ مُبكرٍ من القرن التاسع عشر.
كما نرى، لا ينبغي أن ننسى أن نتعلم من درس علم القِيَم البرجوازي. من الأفضل أن نبدأ دراسة هذه المُشكلة ليس فقط من خلال تبيان ظواهر القِيَم وتعريفها، ولكن بتحليل كيف ظهرت المشكلة تاريخياً. لا يُمكن لأحد أن يشك بحقيقة أن أشياء وظواهر العالم الاجتماعي هي ذات خصائص تحتوي على قِيَم مُعينة، مثل الخير والشر، الجميل والقبيح، العدالة والظلم. مما لا شك فيه أن ظاهرة الوعي الاجتماعي، في بعض جوانبها، تشتغل باعتبارها "قيماً روحية"، أي أنها تمتلك طابع معايير التقييم. أخيراً، يُمكن دمج كل هذه الظواهر تحت مفهوم واحد يُسمى القيمة. السؤال، هو كيفية التعامل مع تحليل القِيَم: هل بأخذ حقيقة وجودها كنقطة انطلاق للتفكير النظري، أم مُحاولة اكتشاف ميكانيزم نشوئها. هل باتخاذ وجهة نظر الوعي القِيَمي ووصف العالم انطلاقاً منها، أم مُحاولة توضيح علاقة هذا الوعي بالواقع، لتحديد الى أي درجة يُمكنها بحد ذاتها أن تكشف عن طبيعة الأشياء التي تُقيّمها. سنحاول اثبات أن معيار الوعي بالقيمة غير مقبول بشكل أساسي بالنسبة الى علم يريد دراسة الواقع بشكل موضوعي صارم.

نشوء علم القِيَم (الاكسيولوجيا) البرجوازي
تمت في الفلسفة، منذ أزمان بعيدة، مُناقشة مسألة طبيعة الظواهر المتنوعة، والتي أصبحت تُسمى قيماً. لكن مشكلة القيمة كأحد الجوانب الأساسية للفلسفة وعلم القِيَم قد نشأت فقط في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. هل من قبيل المصادفة أن هذه المُشكلة كانت غائبةً في الفلسفة البرجوازية الكلاسيكية، على الرغم من أن هيوم وكانط قد أشارا الى بعض مُقدماتها الأساسية؟ على العكس من ذلك، يُمكننا أن نقول أن هذا الاتجاه في الفلسفة الحديثة الذي نشأت فيه الاكسيولوجيا قد تبلور في نواحٍ عديدة كنقيض للفكر المُهيمن في الفلسفة البرجوازية الكلاسيكية، وقبل كل شيء، كنقيضٍ لأفكار التنوير.
في هذا السياق، دعونا نتتبع الطريقة التي نظر بها الماديون الفرنسيون الى مسألة النشاط الانساني والنظرة الى العالم. الانسان هو جزء من الطبيعة، وهو بالتالي كائنٌ طبيعي. ان طبيعته هي التعبير المُناسب لقواه الجوهرية-مصالحه الموجهة عقلانياً- التي تكشف عن انسجام تام مع قوانين الطبيعة العالمية. لذلك، فان الدراسة والاستيعاب العملي للموضوع الخارجي ككل مُتطابقان من الناحية النظرية مع الذات واكتشاف الانسان لذاته. وهذا يعني، عند التعبير عنه بلغة العلوم الاجتماعية، أن التحقيق الصحيح للمصالح الشخصية لكل امرئ يؤدي الى تحقيق الرفاهية للجميع. يترتب على ذلك، أن حل جميع المشاكل الاجتماعية يفترض معرفةً موضوعيةً لطبيعة الانسان والعالم. يجب على الانسان أن يجد كل مبادئ التوجه الاجتماعي في داخله. صحيح أن هذا الموقف لا يتم بلوغه الا في مُجتمع عقلاني، لكن يجب أن يُبنى على أساس التطور الموضوعي الحر للطبيعة الانسانية الحقة. يجب أن يُصبح التنوير الشامل وتوضيح مصالح الناس الحقيقية لهم هو مبدأ التنشئة الاجتماعية. ولكن، في هذه الحالة، لا تنشأ أي مسألة خاصة تتعلق بالقيمة. يتم حل المسائل المُتعلقة بالنظرة الى العالم والبرنامج الاجتماعي واختيار أهداف الحياة والمُثُل العليا وحرية الانسان وسعادته من خلال العلم "الطبيعي" والأخلاق "الطبيعية" النابعة من الانسان نفسه.
انتقد كانط وهيغل هذه النظرة الطبيعانية للانسان كما نعلم. بالاشارة الى أن المصلحة الطبيعية العفوية ليست بعد تعبيراً كافياً عن الضرورة العالمية (العقل)، لم يستبعد هيغل مع ذلك امكانية أن ترتقي الذاتية الفردية الى موضوعية عالمية. علاوةً على ذلك، فان الادراك العلمي وسيرورة الاعتياد على منطق الضرورة العالمية، يتوافقان، عند هيغل، مع حرية الانسان. ينطلق كانط، في علم الأخلاق خاصته، من تطابق الارادة الحرة وعقلانيتها، لكنه يكشف عن انفصال تام بين "المشاعر الطبيعية" والضرورة الشاملة التي هي فوق الطبيعة. لذلك، سيبدو أن الانسان عنده، مُمزق داخلياً الى ذلك الكائن غير الحر والحساس (ذو مشاعر) الذي نراه في الواقع التجريبي، والكائن الحر العقلاني الذي أدرك، بشكلٍ قبلي، ضرورة القانون الأخلاقي الذي لا يُمكن تحديه ويقف في مواجهة عالم علاقات البشر الطبيعية (والاجتماعية). هذا القانون، لا يُمكن بطبيعة الحال التحقق من صحته من خلال العلم التجريبي ولا يحمل في ذاته ضمانات التجسدات العملية في التاريخ التجريبي. وقد ثبُتَ أن وجهة نظره الأخلاقية (التي سُميت فيما بعد بوجهة النظر القِيَمية) مُنفصلة عن العلم والخبرة الاجتماعية.
ان التطور اللاحق للفكر البرجوازي بشأن المسألة قيد البحث قد اتبعت المسار الذي خطه كانط وليس ذلك الذي رسمه هيغل. ان التطور التاريخي الفعلي للحياة في ظل الرأسمالية لم يتلائم مع أفكار هيغل حول مفهوم الوحدة العضوية للعالمي والفرد.، ووحدة الضرورة العالمية الموضوعية للكون والذاتية الفردية، سواءاً كان يُنظَر لها على أنها مُعطاة من الطبيعة أو أنها ناتجة عن عملية صعود تاريخية. أظهر التطور اللاحق للحضارة البرجوازية، خاصةً في عصر الرأسمالية الاحتكارية، أن نمط النشاط المُتأصل في الرأسمالية، بعيد عن العالمية الشاملة المنسوبة اليها. في هذا الصدد، تطلبت مشكلة نشاط حياة الانسان اعادة تفسير، أما مبادئ المذهبين الطبيعاني والتاريخي فقد رُفِضا.
يُمكننا أن نوجه الانتباه الى عاملين أساسيين للحياة في ظل الرأسمالية كما دونتهما الذهنية البرجوازية. من ناحية، تتحول ذات النشاط من "رائد أعمال حُر" ينفذ مصالحه الخاصة، الى مُنفذّ للأهداف التي حُدد له من الخارج. في المُقابل، فان حركة المصالح الاقتصادية والسياسية وغيرها في المُجتمع لا تشتمل الآن عن تكشّف الطبيعة الداخلية للانسان ولكنها مجرد تمظهر للمصلحة النفعية الخارجية بالنسبة له. لذلك، ظهر الرأي القائل بأن قوانين النشاط الاجتماعي غير قادرة على الكشف عن معنى الوجود الانساني على هذا النحو، وأنه من الضروري البحث عنه في مكانٍ ما خارج المُمارسة الاجتماعية (تم التعبير عن هذه الفكرة بشكلٍ أوضح في البروتستانتية الجديدة). ومن ناحيةٍ أُخرى، فان الموقف البرجوازي تجاه الطبيعة ليس عالمياً ولكنه وحيد الجانب: نفعي. ان التحويل الرأسمالي للطبيعة ليس بأي حال من الأحوال نشاطاً ابداعياً شاملاً ينفذ تطور العالم وفقاً لقوانينه الجوهرية. تظهر الطبيعة هنا فقط كركيزة سلبية لتتم مُعالجتها في عملية الانتاج. "الحضارة التقنية" لا تُعيد انتاج الطبيعة بل تُدمرها، وتستولي على مواردها وتستحدمها جُزئياً فقط لأغراض المُنافسة الاقتصادية، والتي غالباً ما تتعارض مع قوانين تطور الطبيعة العضوي.
لذلك، تظهر هذه الطبيعة للفيلسوف اللاعقلاني على أنها مادة جامدة تُعالَج وتُعاد صياغتها مرةً أُخرى وفق الاحتياجات النفعية (برغسون). يرى الوضعي في الطبيعة نفس الشيء من حيث الجوهر، ولكن من جهة أُخرى. ان قوانين الطبيعة، المُعطاة في التجربة، قادرة فقط على أن تعمل كقيود خارجية على تعسفية الذات، ولكنها لا تتضمن في ذاتها المنطق العام للنظام العالمي. في هذه الحالة، قد تتكون "موضوعية" العلم فقط من وصف الحقائق الميكروية ونظامها الخارجي بمساعدة قوانين التوحيد والتسلسل العامة. ومع ذلك، فان مسألة جوهر العالم، هي أمر محظور على هذا الفكر الوضعي "العلمي الصارم"، الذي يُريد التحقق من جميع استنتاجاته.
لقد كان هذا الاتجاه نحو ما هو خارجي موجود ليس فقط في العلوم الطبيعية ولكن في العلوم الاجتماعية أيضاً. لم يعد مُنظّر القرن العشرين الوضعي قادراً على ربط قوانين الحضارة المُعاصرة بقوانين عملية التاريخ العالمية وتحديدات جوهر الانسان. نَتَجَ عن هذا الفقدان في الاحساس بالتاريخ و"المعنى الانساني" بأن صارت السوسيولوجيا تصف المُعطيات التجريبية و"وقائع" الحياة الاجتماعية والصلات الخارجية وقوانين الجماهير الاحصائية فقط، ولكنها لم تكن قادرة على قول أي شيء عن الاتجاه العام أو "معنى" التاريخ. لا يُمكن لهذه السوسيولوجيا أن تكون مُمكنة الا من خلال نمط فكري مُختلف جذرياً، انه نمط فكري "فوق علمي": فلسفة التاريخ والتي هي نقيض السوسيولوجيا.
أصبحت تناقضات الواقع الرأسمالي والوعي النظري هذه، التي نضجت تاريخياً، نقطة انطلاق للاعقلانية والوضعية الجديدة، لكنها سبق أن وجدت تفسيراً لها في الكانطية الجديدة، والتي كانت بمثابة أساس لطرح مسألة القيمة. طَرَحَت مدرسة بادن Baden مسألة امكانية الدراسة النظرية لمسألة معنى الوجود الانساني والعملية التاريخية، والتي صنّفَت ادراج كل ظاهرة فردية في الكُل، بطريقة لا تتسبب بضياع فرديتها وتفرّدها. برأي الكانطيين الجُدد، يُمكن حل هذه المشاكل فقط إن تخلى المرء عن منهجية التعميم التي تُمارسها العلوم الطبيعية وبعض العلوم الاجتماعية (مثل السوسيولوجيا وعلم الحقوق والسيكولوجيا)، وهي منهجية تكشف عن انتظامات وقوانين مُجرّدة. يجب على المرء، انطلاقاً من وجهة النظر هذه أن يتبنى منهجية التفريد individualizing في مسألة القِيَم. وبينما اعتبر هينريك ريكيرت Henrich Rickert، على سبيل المثال، أن هذه المنهجية الأخيرة علمية تماماً على مثال علمية العلوم الطبيعية، فانها (أي المنهجية) تتعلق فقط بعلم التاريخ التجريبي، الذي يصلف الأحداث التي وقعت فقط على أنها وصف للحقائق. لكن تفسير السيرورة التاريخية في تكاملها ووحدتها الداخلية التي، كما يفترض ريكيرت، هي امتياز لفلسفة التاريخ فقط، والتي تسير في حدود التفكير ما فوق التجريبي مُفتَرِضةً قيماً مُطلقة ومُتجاوزةً الثقافة. وهكذا، حتى في الكانطية الجديدة، تُوصَف وجهة النظر القِيَمية حول العالم بأنها نقيض للمنهجية العلمية. لكن في وقتٍ لاحق، اتخذت مُشكلة القِيَم معنىً لاعقلانياً بشكلٍ مُتزايد.
دعونا نُحاول تحديد المسائل الرئيسية التي بُنِيَت عليها الاكسيولوجيا. في المقام الأول، وُجِدَ أن العلم الوصفي، الذي يُحدد موضوع المعرفة كشيء مُتعارض مع الذات ومفصول عن المنطق العام للنظام الطبيعي وغير مُرتبط بالذات الانسانية، وبالتالي يمتلك علاقة "مُحايدة" مع الموضوع (وهكذا يصير "الحياد" مُرادفاً للموضوعية)، غير قادر (أي العلم الوصفي) على أن يقول لنا أي شيء عن الانسان نفسه. تبدو التجربة الاجتماعية، بالنسبة الى هذا النوع من العلم، كمجرد شرط خارجي ووسيلة لتهيئة تلك التجربة تقنياً من أجل ايجاد تطبيق نفعي لبياناتها. بقدر ما يمتلك هذا العلم معنىً اجتماعياً، فان نتاجه يضع في أيدي الانسان وسائل قوية للنشاط، ولكنه لا يتضمن أي معرفة حول أهداف الحياة ومعناها ومصائرها. يُمكن استخدام هذه الوسائل (التكنولوجيا، الأتمتة، الطاقة الذرية ووفرة السلع المادية) اما لصالح أو ضد صالح الانسان. على عكس مثل التنوير الأعلى، والذي وفقاً له من المفترض على العلم أن يُساعد الانسان ليس فقط في السيطرة على الطبيعة ولكن أيضاً على تنظيم حياته الاجتماعية بطريقة عقلانية. تم تقديم الاطروحة التي مفادها أنه يجب على الحقيقة القِيَمية (الأخلاق، الدين، الخ)، والتي يتم التأكد منها بطُرُق مختلفة، أن تُكمّل الحقيقة العلمية.
عندما يدرس مثل هذا العلم الانسان، فانه يعتبره، بمقارنته بالطبيعة، كموضوع خارجي، كائن عديم الهوية من نوعٍ مُعيّن، ويُقسمه الى مجالاتٍ قوانين فعل الضرورة الطبيعية، معزولة عن بعضها. ومع ذلك، يُمكن فهم الوجود "الحقيقي" للانسان بتكامله وتفرّده-والذي يمتلك المعنى والحرية، دون اخضاعه للعيانية العلمية-بطريقة لا تخضع للعلم، وفقط في هذا المستوى من الدراسة تكتسب الحياة الانسانية قيمةً في ذاتها وتُصبح قيمة كل القِيَم. بعد أن طَرَحَت الكانطية الجديدة هذه الفكرة قامت اللاعقلانية (كارل ياسبرز على سبيل المثال) بتطويرها بشكلٍ أكبر، ومن ثم قامت الاكسيولوجيا انطلاقاً من هنا، بمتابعتها على طول نفس الخط.
ان المفكرين ذوي التوجه الليبرالي، الذين يتهمون العلم بأنه ينزع الانسانية عن الشخصية، يرون فيه سبب تحول الانسان الى روبوت، الى مُلحقٍ للانتاج الآلي أو آلة بيروقراطية تكنوقراطية، الى موضوعٍ وظيفي شامل وموضوع "للتطويع الجماهيري واسع النطاق". انهم يضعون في مواجهة "عقلانية المُجتمع والعلم عديمتا الهوية" أخلاقاً نقدية تستمد مُثُلها من مثال المشروع الحر أو قرية القرون الوسطى، آخذين كنقطة انطلاق لهم الانثروبولوجيا الانسانوية التي تعتبر الانسان كذات مُنعزلة تقف في مواجهة عالم العلاقات الملموسة. تسعى فلسفة "النشاط" الى ايجاد ما هو "انساني أصيل" في ذلك النوع من النشاط الذي يُمكن تعريفه بالكامل على أنه مشروع حر للفرد ولن يتم تجسيده في نتائج خارجية لا تنتمي له (أي لا تنتمي للانسان)- هذه هي وجهة نظر سارتر في كتابه (الوجود والعدم).
ومع ذلك، فانه لمن المُثير للاهتمام، أنه ليس فقط الفلاسفة اللاعقلانيون فقط، بل والمدافعون عن "العلم الصارم" أنفسهم، غالباً ما يتوصلون الى وجهة نظر لاعقلانية حول النشاط الانساني. ان ذلك العلم التطبيقي-سوسيولوجيا العمل والاستهلاك والرأي العام والاعلانات- والذي له وظيفة "عقلنة" السلوك ووسائل السيطرة عليه، يستخدم تقنيات التطويع السيكولوجي والايحاء الوهمي وزراعة الأوهام بين الجماهير بشكلٍ مُتكرر. ومن خلال وجود هذه الأوهام وأخذها كنقطة انطلاق، ينتقد منظروا العقل الجماهيري مفهوم التطور الاجتماعي للطبيعة الانسانية الذي طرحه أيديولوجيو التنوير الذين يرون أن سلوك الانسان محكوم بدوافعٍ عقلانية. وجدت نظرية التطويع السيكولوجي تركيباً فلسفياً في علم ما بعد الأخلاق الوضعي، مؤكدةً أن الأحكام الأخلاقية (القيم الايديولوجية بشكلٍ عام) لا تحمل أي معلومات عن الواقع، ولكنها مُجرّد وسائل للتأثير على سلوك البشر وقناعاتهم من خلال استخدام العواطف والارادة. من هذا المنظور، لا علاقة للقيم بالحقائق، وأنه لا علاقة للمعايير القِيَمية بالافتراضات العلمية.
في تلك الظروف التي يفقد فيها العقل البرجوازي "احساسه بالتاريخ"، سيكون من المُمكن فهم وحدة السيرورة التاريخية كعملية تطور مُقنونة، وتحديد ماهية الانسان حسب علاقته بالنظام الاجتماعي القائم، وأن يكون حل مسألة توجهه الاجتماعي-السياسي قائماً فقط على دوغما أو ميول سيكولوجية، ولكن ليس اطلاقاً على قاعدة فهم عقلاني للقوانين التاريخية. تمشياً مع هذه الآراء، لا يُمكن تفسير حقيقة وجود نظامين اقتصاديين-اجتماعيين مُتعارضين الا كمؤشر على وجود واقع اجتماعي "تعددي"، ولكن ليس كتعبير عن صراع طبقي على صعيد عالمي. يعتبر مؤيدو هذه الآراء (من الكانطيين الجدد الى الوضعيين الجُدد) أي ادعاء بأن العلم يُمكن أن يتوصل الى استنتاج حول شكل المُجتمع الذي يجب على المستقبل أن يحوزه بمثابة تشويش "قِيَمي" غير مسموح به.
أخيراً، تظهر مسألة القيمة كوسيلة لحل بعض المسائل التقليدية في نظرية المعرفة المُرتبطة بالطبيعة الاجتماعية-التاريخية للمعرفة. حتى كانط، آخذاً كنقطة انطلاق الطبيعة غير المُكتملة للمعارف التجريبية في كل لحظة ملموسة في التاريخ، يستبدل مفهوم لانهائية المعرفة الانسانية بفكرة المبدأ التنظيمي، وهو مثال ideal مُتعالي يُمكنه أن يجعل من المُمكن تخيّل لانهائية الكون ككيان ويوجه تطور الادراك العقلي. التقط تلامذة كانط في مدرسة بادن هذا المفهوم، وسعوا الى اختزال الشيء في ذاته، الى مفهوم القيمة. وظّفَ هوسرل مفهوم القيمة (الضرورة الأخلاقية، القاعدة الالزامية) لمحاولة التعبير عن طبيعة كل المعرفة العلمية على أنها ضرورية موضوعياً وموجهة الى مواضيع ملموسة. لكن يُنظَر الى نشاط الانسان الذي يتعامل مع الاشياء الملموسة، وتطوره الذي يحكمه القانون التاريخي، على أنه ظاهرة نفسية فقط، أي في الشكل المُتحوّل الذي يظهر في فعل معرفي فردي ويتم ادراكه من قِبَل الذات الفردية.
ان كل مجموعة المسائل التي يجد المُنظّر البرجوازي نفسه في مواجهتها ويسعى الى اتخاذ قرار بشأنها بالاستعانة بمفهوم القيمة، تتأسس على قاعدة مُشكلة جذرية عامة واحدة، وهي مُشكلة استيعاب الذات الفردية النَشِطة للثقافة الانسانية. ان الفرد، الذي يحدّه العوامل الطبقية والمهنية والتنظيم الجماعي ويؤدي فقط عمليات معزولة في النشاط الاجتماعي غير قادر على استيعاب قوانين حياة المُجتمع وثقافته ككل، ولا يستطيع استيعاب حركة عملية الادراك التاريخي العام. يميل نظام التقسيم الاجتماعي للعمل في المُجتمع الرأسمالي المُعاصر الى أن يُصبح نشاطاً وظيفياً مُتعدد الجوانب، حيث يندمج الفرد في الحركة المُستمرة للكل الاجتماعي كمُنفّذ سلبي للدور المنوط به وخاضعاً لنظام صارم التنظيم.
في ظل هذه الظروف، تكون الطبيعة الاجتماعية للانسان مواجهةً له كشيء غريب عنه في الأساس: كأنها ضرورة خارجية يجب أن يُنسّق أفعاله معها، والتي لا يستطيع أن يستوعب معناها. انها نشاط اجتماعي يتم تكليفه بها من خارجه، ولا يوجد أي شيء مُشترك بين أهدافه (أهداف الطبيعة الاجتماعية) وأهدافه "الانسانية الصرف"، والتي لا تُمكنه من اكتساب الثروات المادية والفكرية التي يوظفها فقط بما يتناسب مع احتياجاته المُباشرة. ونتيجةً لذلك، فان استيعاب ادماج الفرد في الثقافة يحدث بطريقة خارجة عن نشاط حياته. هذا ليس سوى تعلّم تلقيني للمبادئ العامة للسلوك المقبول وحفظ صِيَغ العلم والعمل المُنتِج والسلوك الأخلاقي وتقديسها كمُطلقات ودوغما لا بديل عنها، أو تطوير قوالب نمطية عاطفية ونفسية توافقها. هذا "الالمام" بالثقافة الذي لا يكشف عن نشأتها التاريخية وأهميتها الانسانية، يحدث حتماً في شكل بناء "مقاييس قِيَمية" تؤدي وظيفة التوجيه الاجتماعي للشخصية في عالمٍ لاعقلاني.
حينها تصبح الاكسيولوجيا هي المكوّن المركزي للفلسفة البرجوازية وتدّعي أنها الموضوع الحقيقي للفلسفة، عندما يصير من الضروري أن يتم حل هذه المسألة الأساسية. حتى نيتشه يعتقد أن حل "مسألة القِيَم" هو المهمة الرئيسية للفلسفة. وبغض النظر عن المُقاربة التي يتبعها المُنظّر البرجوازي لحلها، فانه يعتبر أن حلها يقبع خارج حدود العلم أو حتى الفكر العقلاني بشكلٍ عام. يبدو أن مُقاربة القِيَم بالنسبة له كأنها طريقة أُخرى لرؤية العالم تختلف عن "الوصف" أو "التعميم" أو التصوير "المُحايد" للعالم. على عكس النظرة الوضعية للعلم التي تفصله عن التجربة الاجتماعية، وترى المعرفة بأنها شيء "نقي" محروم من المعنى فيما يتعلق بالنظرة الى العالم، تدخل الاكسيولوجيا التي تطرح "المشاكل الانسانية" الى الفلسفة من الباب الخلفي.
كيف يُمكن فهم طبيعة القيمة ذاتها في هذه الحالة؟ هنا نقترب من المُحتوى الملموس للاكسيولوجيا البرجوازية وتصنيف الاتجاهات الموجودة داخلها. نُلاحظ، دون الخوض في تحليل مُفصّل لها، اتجاهين فقط. بقدر ما تنشأ مُشكلة القيمة على أساس التناقض بين موضوعية التاريخ الطبيعي والذاتية الانسانية، حيث تظهر في أكثر الأشكال تنوعاً (الضرورة الاجتماعية والحرية الشخصية، القانون التاريخي والمُثُل، المنفعة الاجتماعية والأهداف "الانسانية"، الضرورة العلمية الصارمة والابداع الفردي)، فانها في كل الأحوال تحمل بصمة هذا التناقض. في فهمه لطبيعة القيمة، يجب على عالم الاكسيولوجيا أن يختار بين المثالية الموضوعية والمثالية الذاتية. في الحالة الأولى، يتم التعامل مع القيمة كظاهرة كامنة في عالم الجواهر المُتعالية خارج المكان والزمان وهي تقع حارج العالم التجريبي، مثل الواجب الأخلاقي المُطلَق الذي يُعيّن معايير وتقييم السلوك الانساني من الخارج (نظرية القيمة الظواهرية نيكولاي هارتمان وماكس شيلر، وعلم الأخلاق الحدسي لجورج مور وويليام ديفيد روس William David Ross وايدغار كاريت Edgar Frederick Carritt، والتوماوية الجديدة، والواقعية الجديدة لجورج سانتايانا george Santayana). في الحالة الثانية، على العكس من ذلك، تُفهَم القيمة على أنها موقف ذاتي صرف للانسان تجاه شيءٍ خارجي، كاسقاط للسلوك العاطفي على العالم، كنتاج لقرار بشري تعسفي لا يخضع للتحليل العقلاني (الوضعية الجديدة). نجد أن وجهة النظر القِيَمية، في كلتا الحالتين، لا يُمكن ربطها منطقياً ببيانات المعرفة العلمية المُثبت صحتها(1).
هذه بعض الدروس المُستمدة من تحليل الاكسيولوجيا البرجوازية.

* أوليغ غريغوريفيتش دروبنيتسكي 1933-1973. دَرَسَ جامعة موسكو الحكومية عام 1957. صار دكتوراً في الفلسفة عام 1970 برسالته المُعنونة: (الوعي الأخلاقي-مسائل حول عيانية وطبيعة ومنطق وبُنية الأخلاق. نقد المفاهيم الأخلاقية البرجوازية). ودكتوراة في الفلسفة عام 1963: (نقد الاتجاه الحدسي في علم الأخلاق البرجوازي الحديث).
كان باحث في قسم المعلومات العلمية في معهد الفلسفة التابع لأكاديمية العلوم منذ عام 1963-1973، ومُحاضراً في معهد الفلسفة التابع لجامعة موسكو الحكومية. ومن كُتبه: (تبرير اللاأخلاقية-أبحاث نقدية لعلم الأخلاق البرجوازي) 1963، (نقد مفاهيم العلم أخلاقية البرجوازية) 1967. (عالم الأشياء الحية: مسألة القيمة والفلسفة الماركسية) 1967.
ومن مقالاته: (الأُسس الاجتماعية والايديولوجية لمذهب "العلاقات الانسانية") 1960، (حول مسألة مقولة الواجب في علم الأخلاق الماركسي) 1960). (في نقد منهجية الوضعية المنطقية في علم الأخلاق) 1961، (مذهب "العلاقات الانسانية" هو السلاح الايديولوجي للرأسمالية المُعاصرة) 1962، (الاتجاه الحدسي في علم الأخلاق الانجلوأمريكي) 1962، (الفلسفة الماركسية ومسألة القيمة) 1966 وغيرها الكثير.

أ- لم نقم بترجمة المقالة كاملةً
1- يوجد هناك اتجاه ثالث أيضاً في علم الاكسيولوجيا البرجوازي، وهو الاتجاه الطبيعاني، والذي يظهر أنه استثناء في هذا الصدد. يُمكننا، كمثال عليه، كمثال عليه، أن نستشهد بنظرية القيمة لرالف بيري Ralph Barton Perry والتي بموجبها تتأسس أحكام القيمة في أحكام الحقائق. ولكن هنا، لا يتم النظر الى الظواهر القِيَمية الا من جانبها السيكولوجي-كتنظهر لـ"المصلحة" (الرغبات والانجذابات والميول). وفقاً لهذا المفهوم، يُمكن تفسير تمظهر هذه "المصلحة" كحقيقة تجريبية، ولكن لا يُمكن اشتقاقها بنفس صرامة الضرورة العلمية. وهكذا، فان التناقض بين العلم والاكسيولوجيا يظل قائماً: تم فقط "دفعه الى الداخل" وينتقل من مجال الوصف التجريبي للحقائق الى مجال اكتشاف انتظاماتها الأساسية.

ترجمة لمقالة:
O. G. Drobnitskii (1967) Marxist Philosophy and the Problem of Value, Soviet Studies in Philosophy, 5:4, 14-24