السُّلْطَة السِّيَاسِيَة


عبد الرحمان النوضة
2021 / 12 / 17 - 16:12     

الــمُــحْــتَــوَيَــات
1. السُلْطَة السياسية كَظَاهِرَة مُجْتَمَعِيَة 2
2. شرعية نـقْد السلطة السياسية 4
3. شرعية السلطة السياسية 5
4. أهداف السّلطة السياسية 6
5. انحرافات السلطة السياسية 11



1. السُلْطَة السياسية كََظَاهِرَة مُجْتَمَعِيَة
(16). في هذا الكتاب، نَسْتَخْدِمُ الملكَ الحسن الثاني كمثال تَرْبَوِي (بِيدَاغُوجِي)، للتـفكير في مسألة "السلطة السياسية". وَيُشير مفهوم "السلطة السياسية"، في هذا الفصل، على الخُصوص إلى السلطة السياسية للدولة، أو تلك التي تمارسها النُخَب السياسية السَّائِدَة، أو المُهيمنة على المُجتمع. وَيَصْعُبُ تـقديم خِطاب نَظَرِي حول "السّلطة السياسية"، بِشكل مُجَرّد، دُون أن يَدور هذا الخطاب حول مِثَال، أو أَمْثِلَة مَلْمُوسَة.
قد يقول البعض إن السلطة السياسية للملك الحسن الثاني ليست طبيعية، وأنها مُشَوَّهَة، أو مُـفْرِطَة، أو مَدفوعة إلى ذِروتها. لكن تطرّف الملك الحسن الثاني، في ممارسته للسلطة السياسية، هو بالضّبط ما يُسَهِّل تسليط الضّوء، بشكل عام، على الآليات المَخْفِيَة في وظائف، وفي تجاوزات، هذه السلطة السياسية. (…)
(15). يُشَكِّلُ عهدُ الملك الحسن الثاني(1) ظاهرةً سياسية مُفيدة. إنه اليومَ جزء من القائمة الدولية للأمثلة السيّئة التي ينـبغي تـفَادِي تـقليدها. ويسمح تحليل هذا العهد بِإِبْرَاز دروس سياسية قَيِّمَة. وَتَتَجَنَّبُ الطبقة السائدة (في المغرب) النّـظر في هذا الموضوع. لأنه يكشف عن تَشَوُّهِهِ الخُلُقِي. ولأن تحليل الماضي يفضح تناقضات الحاضر؟ (…)
وحتى الآن، لا تُوجد لَدَى الطبقة السائدة أفكار واضحة حول هذه القضايا. ويُشكّل نـقد الملك الحسن الثاني، في نـفس الوقت، نـقْدًا للطبقة السّائدة. ولهذا السبب، فإن هذا النـقد الموجّه للملك الحسن الثاني، يُزعج الكثير من الأشخاص، أو الأعيان، أو السُّلطات، أو المسؤولين في أجهزة الدولة. ويمكن العُثُور على الانحرافات السياسية التي لُوحِظَت في مُمارسة الحسن الثاني، بدرجة أو بأخرى، في جميع أنحاء عَالم الأمس واليوم، في العديد من الملوك، ورؤساء الجمهوريات، وحتى لدى قَادَة سياسيين آخرين ذَوِي رُتَب دُنْيَا في التَسَلْسُل الهَرَمِي المُجْتَمَعِـي. وهذا يؤكد أن هذه الظَوَاهِر، هي ظَوَاهِر مُجتمعية، وَتَتَجَاوز الأشخاص المَعْنِيِّين. (…)
بعد فترة طويلة من الانتهاء من تأليف هذا الكتاب، شعر المؤلف بالارتياح في عام 2011، عندما لاحظ أن "الثورات" التي اِنْدَلَعَت في تونس ضدّ زين العابدين بن علي، وفي مصر ضدّ حسني مبارك، وفي ليبيا ضدّ معمّر القذافي، وفي اليمن ضدّ علي عبد الله صالح، وفي سوريا ضد بشّار الأسد، إلى آخره، أكّـدت تحليل السلطة السياسية الذي قدّمه هذا الكتاب. حيث أن الظّـواهر المُجتمعية، المُرتبطة بممارسة السلطة السياسية، والتي أبرزها الكتاب في حالة الملك الحسن الثاني، تُوجود أيضًا في الحالات المذكورة أعلاه، لَدَى رُؤساء الجمهوريات. ومنها على الخُصوص: ظاهرة اِسْتِلَاب(2) النُخبة المُهيمنة في المُجتمع، وانـقلاب المَنْـطق الأصلي للسلطة السياسية، واللجوء إلى "إرهاب الدولة"، أو إلى استخدام الجيش، لقمع المُعارضين السياسيين. (…)



2. شرعية نـقْد السلطة السياسية
كُلّ شخص يَرغب في مُمارسة سُلطة مُحَدَّدَة، وفي نفس الوقت، يَرفض التعرّض لِلنـقْدِ، سيكون شخصًا مُتناقضًا، وغير مسؤول. (…)
(17). لَا يُبَرِّرُ الاحترامُ الواجب تُجاه أيّ مُوَاطِن، كيـف مَا كان، ولو كان هو الملك، لَا يُبرّر حِرْمَان بَـقِيَّة أعضاء المُجتمع من حَقِّهم في مُناقشة، أو تَحليل، أو نَـقْد، الأحداث، أو الظواهر المُجتمعية، التي شارك فيها ذلك المُواطن. (...) على سبيل المثال، سيكون من العَبَث منع المؤرّخين، أو علماء السياسة، أو الفلاسفة، أو علماء المُجتمع، أو الصحفيين، أو الباحثين الأكاديميين، أو غيرهم، من نـقْد مُمارسات الملك الحسن الثاني، بحجة أن هذا النـقد يَرْقَـى إلى مُستوى «القَذْف»، أو «التَشْهِير». أو «عدم الاحترام» (حتى بعد مُرور سنوات على وفاة هذا الملك). (...) لا سيما أن نَـقد الملك الحسن الثاني هو، في نـفس الوقت، نـقْد لجميع مُـكَوِّنَات المجتمع. (...) إن الغرض من فحص ظاهرة الملك الحسن الثاني، ليس هو تَمجيده، أو التَهَجُّم عليه، أو على أي شخص آخر، وإنما الهدف هو فَهْم كَيْف يمكن لِلْأَنَانِيَة، من خلال مُمارسة السلطة السياسة، أن تَـقُود الـفرد المعني، أو الجماعة، أو الشعب، إلى الضَلَال، أو إلى الشُرُود، في دَهَالِيز شَبَكَة مُعَـقَّدة مِن الاِسْتِلَاب (aliénation). (…)

3. شرعية السلطة السياسية
(18). نَتَـفَهَّمُ رفض الملك الحسن الثاني لِنَزْع "إِرْث العَرْش" منه، من طرف مُنافس لا يستحق ذلك. لكن المُبالغة في شَرعية هذا "الإرث"، إلى درجة تحويل الحفاظ على عَرشه إلى هَدَفٍ مُطلق، هو انحراف لا ينبغي لأي شخص مُتوازن أن يقوم به. لأن السلطة السياسية ليست سَلْعَة قَابِلَة لِلتَمَلُّـك، بل هي وَظيفة مُؤقّتة. واعتـقد الحسن الثاني (مع مُستشاريه وأنصاره) أن شرعية خِلَافَة العَرش تسمح له بالتصرّف كما لو أن «التُراب الوطني»، و«سُـكَّان البلاد»، هُم «إِرْثُهُ»، و«أشياءه الخاصة»، و«رَعَايَاه»، و«مِلْـكِيَتُه الخاصّة». وكان الحسن الثاني لَا يَسمح لِـرَعَـايَـاه سوى بشيء واحد فقط: هو الطَّاعَة. وهذا نظام سياسي يَـقْتَرِبُ مِن نظام العُبُودِيَة. وكان الحسن الثاني يُريد أن تستمر هذه العبودية إلى الأبد. (…)
[قانون 265](3) يُظْهِرُ التاريخ أن المَلَـكِيَّات تأسّـست في الأصل عن طريق انـتخاب بِالتَرَاضِي. ولا تتحوّل هذ المَلَـكِيَّات إلى مَلَـكِيَّات وِرَاثِيَة إلَّا بعد أن تـفْـرِضَ قُوَّتَهَا، أو اِسْتِبْدَادَهَا، بِعُنْف دَمَوِي. وغالبًا ما يبدأ التاريخ الأُسْطُورِي لِلسُّلَالَات المَلَـكِيَة بتحوّل المَلِك إلى إِلَه، أو بالعكس بِتحول إِلَهٍ إلى مَلك. وهذه أسطورة تافهة. لأنها مُنتشرة عبر العالم. (…)
(19). يَحِـقُّ لِرَئِيس الدولة، أو حتى لِأَيِّ مسؤول في التسلسل الهرمي لأجهزة الدولة، أن يحظى بِالاحترام من طرف كل مواطن. لكن بشرط أن يكون هو نـفسه يستحق الاحترام. لذلك، يجب على رئيس الدولة، أو على أيّ مسؤول، أن يحتـرم هو نـفسه العِقْد المُجتمعي (contrat sociétal) الضِّمْنِـي الذي يربطه بالمواطنين. لكن العِقْد المُجتمعي المشار إليه هنا، ليس هو الدستور الذي وضعه الملك الحسن الثاني. حيث كان دستور الحسن الثاني عِـقْدًا غير متـكافئ، وغير عادل. وقد فرض الحسن الثاني دُستوره بالدَّهَاء، والقُوّة، والتَلَاعُب في الاستـفتاءات، وَزَعَمَ أنه فَازَ بِنسبة 95 ٪ من الأصوات(4). (…)
لم يحترم الحسن الثاني المِيثَاق المُجتمعي غير المُعْلَن، والذي يَنُـصُّ على أن «سبب وجود» رئيس الدولة، وحتى «سبب وجود» الدولة ككل، هو خِدْمَة الشعب. لأن الشيء الأَساسي في السياسة، هو خدمة الشعب. فإذا كانـت سلطة سياسية تَسْتَـغِلُّ الشعبَ، أو تَـقْمَعُه، فإنها سَتـفْـقِـدُ شَرْعِيَتَهَا السياسية. وما معنى «خدمة الشعب»؟ ليس مَعنى «خدمة الشعب» هو إسعاد الشعب، على الرغم من رَفْضِ، أو مُعارضة ذلك الشعب. إن مُوافقة الشعب، وَدَعْمَه، ومشاركته، تبقى ضرورية. (...) وإذا فشل العِقْد المُجتمعي، أو إذا اِنْسَحَب أحد الشُركاء في هذا العِقد، فإن رئيس الدولة هو الذي يجب عليه أن يَنْسَحِب، وليس الشعب. لكن الحسن الثاني اِعْتَبَرَ نفسه فوق أيّ عِقْد مُجتمعي. وَظَلَّ الحسن الثاني يُضَحِّـى بمصلحة الشعب، من أجل إِدَامَة سِيَّادة سُلطته الشخصية المُطلقة.

4. أهداف السّلطة السياسية
(21). (...) من المُفيد أن نـعتاد على أن نَـسْأَلَ أنـفسنا : ما هو الهدف من ممارسة السلطة السياسية؟ يجب على جماهير الشعب أن تَعرف ماذا تُريد. هل تُريد دولة (أو رئيس دولة) تَـعيش لِخِدْمَة شَعبها، أم هل تُريد أن يكون الشعب مُجْبَـرًا على خِدمة الدولة، أو على خدمة رئيس الدولة، أو خدمة موظّفيها؟ هل يجوز لِمَن يُمارس السلطة السياسية أن يهدف إلى تحقـيق ذَاتِه، أو إلى إنجاز سعادته الخاصّة، أو إلى التَمَتُّع بالامتيازات، عَبْرَ إِشْبَاع رَغَبَاتِه وَتَخَيُّلَاتِه الشخصية، وذلك على حساب خِدمة احتياجات الشعب؟ (…)
هدف السلطة السياسية ليس هو تحقيق «نظرية مُجتمعية»، أو إنجاز «مُهمة دِينِيَة»، أو تَـغْلِيب مجموعة مُجتمعية ضِدَّ مَجموعة أخرى. فَلَا يَحِقُّ لِمَن يُمارس السلطة السياسية أن يَـسْعَـي إلى جَنْيِ الرِّبح، مِثْل تَاجِر، أو مِثل مُستثمر رأسمالي مُبْتَذَل. فَلْيَنْشَغِل المُهتمون بالرِّبح الشخصي بِمُمارسة الاقتصاد الخُصوصِي، وليس بالمشاركة في السياسة الوطنية ! (…)
وهدف ممارسة السّلطة السياسية ليس هو إسعاد الشعب ضِدَّ إرادته، وإنما هو مساعدة الشعب على تحقـيق سعادته، بطريقة يكون أساسها هو المُوافـقة الطَوْعِيَة، والوَعْـيُ السياسي المُتَنَوِّر، والمَنْطِق العَقْلَاني، والحماسية الحُرَّة. (…)
يجب أن تَـكون مُمارسة السلطة السياسية في قَطِيعَة كَامِلة مع أي منطق للرّبح، أو المَنْـفَعَة الشخصية. لأن هدف السلطة السياسية هو خدمة الشعب كلّه، دون أن يطلب الشخص الذي يخدم الشعب، في مُقَابِل خِدمته، لَا جَزَاءً، ولا اعتـرافًا، ولا مُـكَافَأةً. (...) كما لَا يُـقْبَل أن تُنْجَز خدمة مصالح الشعب على حساب مصالح أيّ جزء من هذا الشعب (سواء كان هذا الجزء من السكّان الأصليين، أو أقلية، أو أجانب). وهذا يعني: تحرير وتطوير طَاقَات الشعب، وتـنمية إمكانات جميع المواطنين، بل حتى المساهمة في تَحرير أو رَفَاه جميع أُمَم العالم. نعم، يجب فعل ذلك، حتّى وَلَوْ كان تَحَرُّر الشعب سَيْنـقَلِبُ ضِدَّ السلطة السياسية التي ساعدت هذا الشعب على تحرير نـفسه ! وإذا لم يُمارس الحُكّام السلطة السياسية طِبْـقًا لِمَبادئ الإِيثَار النـبيلة، سَتَتَحَوَّل السياسة إلى انـتهازية، ونـفاق، وغِشّ، وَغَزْو، ونهب، وجرائم. وسيكون حتمًا المآل النهائي للمُجتمع المعني هو الانحطاط، والخراب.
وبعبارة أخرى، طالما أن الجزء الأكبر من إمكانات البلاد مخصص أَوَّلًا وقبل كل شيء لخدمة الملك، أو لرئيس الجمهورية، أو لخدمة النظام السياسي القائم، وليس لِخدمة الشعب، فإن التَـقدّم (بِمَعْنَى التنمية المُتكاملة والمُستدامة للمُجتمع بأسره) سَيَظَلُّ مُعَوَّقًا، أو مُسْتَحِيلًا. وفي هذه الحالة، سيغرق المجتمع حتمًا في الرداءة، والتخلّف، والاستبداد، والانحطاط.
(22). وإشكالية الغَايَة من مُمارسة السلطة السياسية، لَا تُطرح فـقط على مستوى رئيس الدولة، ولكن على جميع مُستويات هَرَم الدولة، وَهَرَم المجتمع. فَـكَمْ مِنْ وَزير، أو مَسؤول، أو مُدير، أو رَئِيس دائرة، أو إِطَار (كَادِر)، يَـقْـبَلُون تطبيق سياسات تَضُرُّ بشكل واضح بالشعب، وذلك بِـبَسَاطَة لأنهم يريدون البَـقاء في مناصبهم، أو لأنهم يريدون الحفاظ على امتيازاتهم الشخصية، أو لأن رؤسائهم يتلاعبون بهم بسهولة، أو لأن هذه السياسات المعنية هي مفروضة من طرف رئيس الدولة، أو من طرف أقاربه، أو من طرف قِوَى خارجية؟
وَمُهمّة أيّ مسؤول سياسي، أو واجبه، أو مُبَرِّر وجوده، هو أن يُنَـظِّـمَ، وأن يُهَيْـكِلَ، وأن يُحـقّـق، تَلْبِيَة احتياجات الشعب (مثل السيادة الوطنية، والدفاع الوطني، والسلام، والعدالة المُجتمعية، والوُصُول إلى العمل المُنتج والمُربح، والتَـغْذِيَة، والتـعليم، والصحّة، والمرافق المُجتمعية، والرَّخَاء، وَالْإِثْـرَاء، والثـقافة، والانـتـعاش الفكري، وما إلى ذلك). (...) ويجب على كلّ مُرَشَّح لمُمارسة مسؤولية سياسية أن تـكون دَوَافِـعُه نِضَالِيَة، وغير نَـفْـعِـيَـة. ويلزمه أن يُضَحِّـيَ بنـفسه، دون أن يطلب تَشْرِيفًا، أو امتيازًا، أو مَنْـفَعَة. وإذا فعل عكس ذلك، سَيُصْبِحُ انتهازيًا، أو مُسْتَـغِـلًا، أو طُـفَيْلِـيًّا، أو مُسْتَـلَـبًا، حتى لَوْ اِنْتَـخَـبَتْهُ أغلبية الشعب. ويجب عليه أن يَـسْتَـقِيلَ طَوْعًا. وَإِلَّا أصبح مَشْرُوعاً أن يُـقِيلَه الشعب، أو أن يُطيح به، أو أن يَطْرِدَه. وفي الواقع، [قانون 266] إذا ركّزت السّلطة السياسية على ذَاتِـهَا، لِخِدْمَة نفسها، فإنها سَتُصْبِحُ مُعَانَـاةً، أو جَحِيمًا، سواء بِالنِّسْبَةِ لِنَفْسِهَا، أم بِالنِّسبة لِلشَّعب. (…)
(23). (…) مِن بين المَعَايِير التي تُمَـكِّن مِن التَـعَرُّف على الديكتاتورية، أن الدولة تستخدم الشعب، بدلاً من أن تـكون في خدمته. وكلّما تحوّلت السلطة السياسية إلى امتياز، أو إلى مُتْـعَة، أصبحت الثورة مِن جديد شرعية. وحتى بالنسبة لكبار المسؤولين، وأُطُر الدولة الآخرين، فإن واجبهم الأساسي هو أن يكونوا مُخلصين، ليس لرئيس الدولة الذي عَيَّـنَـهُمْ في مناصب المسؤولية، ولكن للشعب. لأن الوَلَاء لرئيس الدولة لا يُبرر خِيَّانة الشعب. ولأن الشعب هو مصدر كلّ سيّادة. ولأن الشعب هو الهدف الأسمى لكلّ السياسات السّليمة. (…)
(24). (...) كان طموح الملك الحسن الثاني فارغًا، وَرَدِيءً. لأنه اقتصر على حماية مصالحه الشخصية الأنانية. ولم يكن يحمل الحسن الثاني أي مشروع مُجتمعي، أو اقتصادي، أو رأسمالي، أو لِيبِرَالِـي، أو تَـقدّمي، أو اشتراكي، أو قَـوْمِي، أو أَمَازِيغِي، أو إسلامي، أو مَغَارِبِـي، أو عربي، أو إنساني. وَلَوْ كان لديه مشروع مُجتمعي، لكان على الأقل قد بدأ في محاولة تحقيقه، خلال فترة حُـكمه الطويلة التي بَلغت تسعة وثلاثين عامًا. وكان العالم كلّه سَيَشْهَدُ على ذلك. بل كان الحسن الثاني مَهْوُوسًا بهدف واحد وَأَوْحَد : وهو إِدَامَة ملكيته الاستبدادية، من خلال القضاء على كل مُعارضة سياسية. وقد عَبَّأَ، وَحَشَدَ، واستـغلَّ، كل وسائل الدولة للحفاظ على السلطة السياسية. (…)
(25). وَتُجاه مُعارضيه السياسيين، كان الملك الحسن الثاني يَتَّخِذُ موقفاً عسكرياً أكثر منه سياسيًّا. (...) لأن السلطة السياسية المُطلقة التي منحها لنـفسه، جعلته يرفض أيّة إمكانية لمَنطق التـنازلات المُتبادَلَة. وكان لا يـقبل أقلّ من سَحْق، أو تَدْمِير، مُعارضيه السياسيين. وكان بإمكان هذا الموقف المُتشدّد أن ينجح مُؤقّتًا، لكنه في النهاية، يَـفشل على المَدَى الطَّوِيل. بل أَصبح هذا الموقف المُتشدّد علامة تَدُلّ على إصابة الحسن الثاني بِالاِسْتِلَاب (aliénation) السياسي. (…)
(26).كان الحسن الثاني يعتبر المعارضة السياسية حَادِثًا مُحرجًا، أو غير مُتوقع، أو عَابرًا، أو استثنائيًا. وكان يعتـقد الحسن الثاني أنه بِاستـعمال قليل من المَـكْر، والقمع العَنيف، يمكنه حَذْف المعارضة السياسية بشكل دائم. (...) وكان يجهل الحسن الثاني أن [القانون 268] المعارضة السياسية (سواءً كانـت مُعتدلة أم جَذْرِيَة، إصلاحية أم ثورية) هي، على العكس من ذلك، ظاهرة مُجتمعية، وموضوعية، ومتكرّرة، وأبدية. وَتُعبّر المEعارضة السياسية عن تناقضات مجتمعية، أو عن تَضَارُب في المصالح. (...)
والهدف من «دَمَقْرَطَة» النظام السياسي، هو أن يَجْرِيَ الصراع السياسي، ليس من خلال إقصاء، أو القضاء على، الخُصُوم السياسيين، ولكن من خلال تَـعَايُشِهِم السّلمي، وتعاونهم المُجتمعي. وماذا سيحدث لو ظلّت «دَمَقْرَطَة» الدولة والمُجتمع مُستحيلة؟ سَـتُـصبح مرّةً أخرى الثورة المُجتمعية، الشَامِلَة والجذرية، شَرعية. (…)
(27). (...) الحَلّ إذن، هو إقامة التناوب السياسي على السلطة، وفتحها لجميع القِوَى السياسية، من خلال انتخابات ديمقراطية. (...)
(28). لكن الحسن الثاني فضّل مسارًا آخر، وهو احتكار السلطة السياسية، والتَحَدِّي، والازدراء، والتَـعَنُّت، والاستبداد، والقمع، وإرهاب الدولة. وهو ما يُسمّيه البعض «الشُمُولِيَة» (totalitarisme). (...) [قانون 269] والقمع السياسي الذي كان الحسن الثاني يُمارسه، بِوَحْشِيَتِه، وَبِخُلُوِّه من كل إحساس بالشَّـفَـقَة، يُؤَدِّي إلى عكس ذلك، أي أنه يُؤَدِّي إلى عدم الاستـقرار، وإلى فُـقْـدَان الشّرعية.
ومن خلال رغبته في إضعاف كل أولئك الذين قد يُعارضون حُـكمه الاستبدادي، كان الأمر يَنـتهي دائمًا بالحسن الثاني إلى إضعاف البلاد بأكملها. ولم يكن الحسن الثاني يعرف كيـف يُـقَوِّي سلطته سِوَى من خلال إضعاف الشعب. وكان يَستخدم الشعب، بدلاً من خِدمته. وكان مَهْوُوسًا بالحفاظ على عَرْشِه، وذلك إلى درجة أنه أصبح مُسْتَلَبًا به (aliéné). وقد أصبح عَرْشُه، بالنسبة إليه، أكثر حَيَوِيَّةً من الشعب نـفسه. وكان يُـقَدِّسُ عَرشه، وفي نفس الوقت، لم يكن يَعرف ماذا يفعل بهذا العرش. والأسوأ من ذلك، أنه كان يفعل عكس ما يجب فعله. فأصبح الحسن الثاني عِبْئًا مُؤْلِمًا على الشعب. (...) وَوَصَلَ الملك الحسن الثاني، وحاشيّته المُحيطة به، إلى حَدّ اعتبار أن أخطر عَدُوٍّ لهم هو الشعب الذي يحمل طُمُوحات ثورية، وأن أصدقاءهم، وحلفائهم، هم القِوَى الإمبريالية، وحتى إسرائيل، الكيان الصهيوني. وبعبارة أخرى، أصبحت الأمور مَقلوبة على رَأْسِهَا في أذهانهم.

5. انحرافات السلطة السياسية
(29). (...) لم يكن الحسن الثاني يمنح أي تَـقْدِير للمناضلين التقدّميّين، وللمقاومين، الذين اِنْبَثَـقُوا من الكفاح الوطني من أجل استقلال المغرب. وعلى العكس من ذلك، كان يُـقَدِّر الإقطاعيين، والأَعْيَان المحافظين، وكان يَعتمد عليهم، حتى لَوْ كانوا قد تَـعاونوا مع المُستعمرين الفرنسيين، وحتى لَو كانوا قد شاركوا في مذبحة الشعب. وكان الحسن الثاني يُـكَافِـئُ الأشخاص الذين يَتَوَدَّدُون إليه، أو يَدَّعُون خِدمته، أو دَعمه. وكان الحسن الثاني يَمنحهم مناصب المسؤولية، والامتيازات، والرِّيع، والتَرَاخِيص، والمُوَافَقَات، والعُقُود العُمومية (marchés publics)، والإيجارات المُجَامِلَة، وشبه الاحتكارات، وقبل كل شيء الإِفْلَات من العِقَاب. (…)
وكان الحسن الثاني يُـفْرِطُ في اِستـغلال سُلطته السياسية. وقد ألغى دستور عام 1962. وأمر بِحَلِّ مجلس النواب. وأسَّـسَ نظامًا سياسيًّا شُموليًّا. وكان يَقُوم بمراقبة الصّحافة. وكان يتحكّم في تدفُّـق المعلومات. وَسَخَّر الإعلام العُمومي (السَّمعي البَصري)، المُمَوَّل مِن الضّرائب المأخوذة من الشعب، لِلتَّـلَاعُب بآراء جماهير الشعب. وكانـت السلطة السياسية تُضَايِقُ كلّ حركة سياسية، أو نـقابية، أو جمعية، لإجبارها على أن تُصبح مَلَـكِيَة خَاضعة، أو أن تَخْتـفِـي. (…)
(30). اعتـقد الملك الحسن الثاني أنه فوق كلّ شيء. ولم يـقـبل الخضوع، لَا للقوانين، وَلَا لِلأخلاق، ولا لِلمبادئ. وَانْتَحَلَ لِنَـفسه حَقَّ احتكار وَضع القوانين، والمبادئ، أو مُخالفتها، وذلك حَسب أهوائه، أو مَصالحه اليومية. وبالنسبة للحسن الثاني ولأنصاره، فإن الـقَوَانِين لَا يُحَدِّدُهَا البحث عن العَدَالَة المُجتمعية، وإِنَّمَا تُحَدِّدُهَا فقط الإِرَادَة الخُصوصية للسّلطة السياسية. ولم يكن الحسن الثاني يَهْتَمُّ بتطلّعات الناس. (...) وبالنسبة للملك الحسن الثاني، حتّـى لو أصبح جميع المواطنين معارضين سياسيين لملكيته الاستبدادية، فهذا لَا يَهُم. وبالنسبة له، كان الأمر الأكثر أهميةً هو ألا يستطيع الشعب الـقِيَام بانتـفاضة، أو ثورة. وكان ذلك كافيا بالنسبة له. (...) وأصبح تَدْبِير الحسن الثاني للدولة مُنَاقِضًا لمنطق المجتمع. وكان عهده يُغْرِقُ المُجتمع في الانحطاط. (...)
(31). (...) وَبِنَـصِيحَة مِن مُتخصّصين فرنسيّين، يتـقاضون رواتب جيّدة، أنشأ الحسن الثاني نظامًا سياسيًا بِحَيْثُ يُصْبِحُ من المستحيل «تَغْيِيرُه من الدّاخل». وكلّ فاعل سياسي يَتَـقَـيَّـدُ بِالإجراءات القانونية الـقائمة في البلاد، يُصبح من المُسْتَحِيل عليه أن يُحدث أيّ تَـغيير جدّي في النظام السياسي، أو في للدولة. فكان الفاعلون السياسيون مُجبرين على اِتِّـبَـاع واحد من بين مَسَارَيْن مُمكنين: إما أن يتنازلوا، وأن يـقبلوا الخضوع لِلْمَلِك بطريقة كاملة ومهينة؛ وإمّا أن يُـقَاوِمُوا، فَيُصبحوا مَدْفُوعين إلى الرَدِّ على التَحَدِّي الاستبدادي بِتَحَدٍّ مُعاكس، عبر اللّجوء إلى تحضير ثورة مُجتمعية. [قانون 270] لكن سياسة التحدّيات المُتَبَادَلَة تُؤدّي بالضّرورة إلى مواجهات مُفرطة، وَمُتَـتَابِعَة، وَمُـعَـقَّـدة، إلى أن يتمّ تَدمير أحد الخُصومين، أو كِلَيْهِمَا. ولا تَتـرك هذه السياسة أيّ أمل في النـقاش، أو التَوَاصُل، أو التـفكير، أو التـَفاهم المُتبادل، أو التَساؤل حول الذّات ومُراجعتها، أو التنازلات المُتبادلة، أو التَـصحيح، أو التـَقاسم، أو التَـضامن. (...)
(32). من خلال احتـكار الملك الحسن الثاني للمُقَدَّسَات (مِن خِلال احتـكار الدّين)، وللجيش (عبر رئاسة الدّفاع)، وللبوليس (عبر رئاسة وزارة الداخلية)، وللدبلوماسية (عبر احتـكار العلاقات الخارجية)، وللسلطة التشريعية (عبر رئاسة البرلمان)، وللسلطة التنـفيذية (عبر رئاسة الحكومة)، وللقضاء (عبر رئاسة الجهاز القَضَائِي)، وللدِّعاية (عبر احتـكار الإعلام)، وللاقتصاد (عبر إِخْضَاعِه للسّلطة السياسية)، فقد تحوّل هذا الملك الحسن الثاني إلى «قَائِدٍ مُؤَلَّهٍ» (chef déifié). (…)
وكان الحسن الثاني يَخْتَصِرُ دَور الدولة في مهمّة رئيسية، أو واحدة، وهي: الـقَضاء على المُعارضين السياسيّين الثوريين. لأن الحسن الثاني كان مَهْوُوسًا بالأمن السياسي. وكانت لهذا الهَوَس نـتيجة واضحة : وهي أنه لم يَـعُد هناك شيء يعمل بشكل صحيح في المملكة، باستثناء أجهزة القمع. وَبِقَدْرِ ما كانت السّلطة السياسية، أو الدولة، عَمَلِيَة، ومنطقية، وفعّالة، في اكتشاف، وقمع الجماعات المُعارضة، أو الثورية، بِـقَدْرِ مَا كانت في مَيادين أخرى ضعيفة، أو رَدِيئَة، أو مُجَامِلَة، أو مُتَسَاهِلَة، أو عَاجِزَة، أو حتى غَائبة. وبَـقِيَت مَهَامّ الدولة في الميادين الأخرى كلّها مُهْمَلَة، ومنها على سَبِيل المِثَال: السيادة الوطنية، والصحّة، والتـعليم، والشُّغْل، والعَدالة، والتضامن المُجتمعي، أو التنمية الاقتصادية. وأصبحت الدولةُ «دولةً بُوليسية»، وَمُجَهَّزَة بِأَجْهِزَة مُخَابَرات، وبأجهزة قَمْعِيَة، هي في نـفس الوقت، مُنْتَـفِخَة، وزَائِدَة عن الحاجة، وَمُـكَلِّفَة. وكانت أُجُور وَامْتِيَازَات المُوظّفين في الأجهزة القمعية، وفي وزارة الداخلية، أَهَمّ من رَوَاتِب المهندسين، والأطباء، والفنيين، والكَوَادِر الآخرين. وَعَمِلَت هذه الأجهزة القمعية التابعة للدولة كما لو كانت جميع الحريات السياسية «مَمنوعة» مُسْبَقًا، على الرّغم من كونها مُـكَرَّسَة رسميًا في الدستور، أو في قوانين أخرى لِلبلاد. نَظَرِيًّا، «كلّ الحُرِّيَات السياسية مَضمونة»، لكن في الواقع، كل الحريات السياسية مَمنوعة، ومقموعة. وهكذا يَتِمُّ حِفظ الصّورة «المُمتازة» للبلاد، أو «العلامة التجارية» للدولة. ويمكن أن يَـعْتَبِرَ مُوَرِّدُو «الاستثمارات الأجنبية المباشرة» (Investissements -dir-ects Étrangers) أن البلاد «آمِنَة»، و«مُسْتَـقِرَّة»، و«ديمقراطية». وَتَـعْشِقُ الفِئَات المُهَيْمِنَة التَـفَنُّنَ في مُمارسة مثل هذا «التَحَايُل»، وَتَـظُنُّ بِسَدَاجة أنه باستطاعتها أن تُغَلِّطُ العالم بِأكمله : «الحُرّيات السياسية مضمونة» ظاهريًّا، لكنها في الواقع مَمنوعة، ومَـقموعة بِـقَسَاوَة. وحتّى إذا إِنْـفَضَح غِشُّ هذه الـفِئات المُهيمنة، فإنها لا تـعبأ بِانْفِضَاحِهَا، بَل تُـفَضِّل صِيَانَة مصالحها الطبقـية، بَدَلًا من صِيَانَة صُورتها في العالم.
(33). كان الحسن الثاني يُدرك أن المواطنين يَشعرون بِأن سلطته الاستبدادية خَانـقَة، وَلَا تُطاق، أو بغيضة. وَدَفَع هذا الشّعورُ الحسنَ الثاني إلى الاعتـقاد بأنه لا يمكن تحقـيق احترام السلطة السياسية إلا بواسطة القمع. كَأَنَّ السّلطة السياسية لَا يُمكن أن تُوجد سِوَى بِوَاسطة القمع. وهكذا وضع الحسن الثاني أجهزة الدولة المُكلّـفة بِالقمع فَوْقَ القانون. وأعطى الحسن الثاني إلى هذه الأجهزة الـقمعية سُلطة مُطلقة، بالإضافة إلى مُكافأة الإِفْلَات مِنَ العِقَاب. حتّى لو ارتـكبت هذه الأجهزة القمعية أخطاء، أو انتهاكات جَسِيمَة لحقوق الإنسان. وَلَمْ يُسْمَح لأي مؤسّـسة حُـكومية أخرى (مثل الحكومة، أو البرلمان، أو القضاء) باستجواب، أو مُراقبة، أو مُعاقبة، أعضاء الأجهزة القمعية، طِبْـقًا لِلـقانون الـقائم في البلاد. (...) واعتبر الحسن الثاني أن سَحق المُعارضين السياسيين، هو أهمّ مِن أيّ شيء آخر. وأصبح قمع المناضلين الثوريين أساسيًّا، وَمُـفْرِطًا، وَمُتَـضَخِّمًا، بالمُـقَارَنة مع تَدبير المصالح المشتركة للمجتمع.
وكان الحسن الثاني (وَمُعَاوِنُوه) يعتبر أيَّ مُعارض مناهض للملكية كَمُجْرِم ضد عَرْشِه، وإهانة لِشخصه، وَتَحَدِّيًا لِسُلطته، وتهديدًا لحياته الخاصة. وكان الحسن الثاني يَرَى أن كل تـفكير نَـقْدِي يُـهَدّد استـقرار المَملكة. (...) وَمُجرّد وُجُود مجموعة صغيرة من المناضلين الثوريين، حتى لَوْ كانوا جماعة صغيرة، أو ضعيـفة، أو رَخْوَة، أو هَامِشِيَة، كان الحسن الثاني يعتبره «تَهديدًا خطيرًا لِلغاية»، ويجب التـغلّب عليه بسرعة، وَمَهْمَا كانـت كُلْفَة قَمعه. وكان الخوف الذي تَشْعُر به السلطة السياسية، تُجاه أيّة مجموعة سياسية ثورية، كان يدفعها إلى مُمارسة "إرهاب الدولة"، ضدّ كلّ مَن بَدَا أنه يُعارض النظام المَلكي. وَمِن المُحتمل أن هذه المُبالغة في تَـقدير التهديدات التي يُمثّلها المعارضون السياسيون نَابِعَة من حقيقة أن السلطة السياسية كانـت تُحِسُّ أن «شرعيتها»، و«استـقرارها»، كانتا هَشَّتَيْن. (...)
وكان «اِسْتِنْطَاق» المُعتـقلين السِّياسيين يُمَارَسُ بطريـقة مُمَنْهَجة، على شَكل تـَعذيب جَسدي عَنيـف. وكان البوليس السياسي، والجَلَّادُون، لَا يعرفون مِن طَرِيـقَة لِـ «اِسْتِنْطَاق» المُعتـقلين السياسيّين سِوَى طَريـقة إِجْبَارِهِم، بِواسطة التـعذيب العَنيف، إلى أن يُـقَدِّمُوا عَنَاصِر كَافِيَة لِإِدَانَتِهِم، وَلِلًحُـكْم عليهم بِسَنَوَات من السِّجن النَّافِذ. وفي كلّ الأنظمة الاستبدادية، فإن إِدَانَة المُعارضين السياسيّين تَـكُون دائمًا على أساس «اِعْتِرَافَات» مُنتـزعة مِن خِلَال «اِسْتِنْطَاق» يُمَارَسُ بِواسطة التَعْذيب، وليس بِواسطة تَحْقِـيقات نَزِيهَة، تُجْرَى في المَيْدَان، لِجَمع الحُجَج الموضوعية. والعُنْصُر الذي يَـفْضَحُ، أكثر مِن غَيره، اِسْتِبْدَاد السّلطة السياسية، هو وُجُود مُغْتَالِين سياسيّين، ومُعتـقلين سيّاسيّين. وعندما يَرَى مُواطنون، أو مُعارضون السياسيون، بِأَعْيُنِهِم، قُضَاةً مُتَحَيِّزِين، في مُحاكمات سِيَاسية ظَالِمَة، يُدِينُونَهُم بِأَحْـكَام سِجْنِيَة طَوِيلَة، دُونَ أَدْنَـى حُجَّة جِدِّيَة، يُحِسُّون بِظُلْمٍ لَا يُـقَاس. وَيَغْدُون مُـقْتَنِعِين بِعَدَالة مُعارضتهم أكثر مِمَّا كانوا من قبل اعتـقالهم.
وفي أذهان ضُبّاط الشّرطة، والجَلَّادين، وحتى الحُـكَّام، يُـعْتَبَرُ التعذيب «عِقابًا مشروعًا»، وَيَسْبِقُ أيّ حُـكْمٍ صَادِرٍ عَن المَحْـكَمَة. وكان الحُـكَّام يَـعتبرون أن هذا التعذيب يهدف إلى «الانتـقام من إِهَانَة التَجَرُّؤِ على التَشْكِيك في شَرعية النظام السياسي القائم». وكان تَنْـفِيذ عَمَلِيَّات خَطْف المُعارضين السياسيين، وَاحْتِجَازِهِم في مُعتـقلات سِرِّيَة، وَتَـعْذِيبِهِم، والحُـكم عليهم بِعُقـوبات سِجْنِيَة مُتَشَدِّدَة، يُعَادِل لَدَى الحُـكّام، وَلَدَى رُؤساء الأجهزة القمعية، يُـعَادِلُ «مُمارسة نضال شَرْعي ضدّ أعداء ثوريين مَـكْرُوهين». وكان الحُـكَّام والبوليس يُمارسون «نضالًا طَبَـقِيًّا مُضَادًّا لِلثَّوْريين». ويتصرّفون كَمِيلِيشْيَا (milice) يَمِينِيَة فَخُورة بِرِجْعِيَتِها. وَلَمْ يَـكُن المُعتـقلون السياسيون يَستـفيدون أبدًا من «اِفْتِرَاض البَرَاءَة» (présomption d innocence)، بل يُعتبرون مُجرمين مُذْنِبِين منذ لَحْظَة اعتـقالهم. وحتى القُضاة، كانوا يَعتبرون أنفسهم كَـ «مُوظّـفين» لَدَى السّلطة السياسية، وَكَـ «مُناصرين مُتَحَمِّسِين» لِمُسَانَدَة النظام السياسي القائم. وكون السلطة السياسية، في نفس الوقت، طَرَفًا وَحَكَمًا في المُحاكمات السياسية للمُعارضين، لَم يَكُن يُزْعِجُ الحُـكَّام. وكانـت السلطة السياسية وَخُدَّامُها يَعتبرون "حقوقَ الإنسان" كَنَظَرِيَّة أَجْنَبِيَة، هَرْطَـقِيَة، وَمُخالفة للإسلام، الذي يَدْعُو، على عكس ذلك، إلى مُمارسة «العَصَى لِمَنْ عَصَى».
وأثناء المُحاكمات السياسية، التي كان يَمْثُلُ فيها معتـقلون سياسيون، استخدمت المَحكمة كُتب كارل ماركس، وفريدريش إنجلز، وفلاديمير لينين، وماو تسي تونغ، وتشي جيفارا، وحتى كتاب المَهْدِي بَنْ بَرْكَة(5)، «كَدَلِيل قَاطع على انتهاك أمن الدولة». وصدرت أحكام بالسجن النافذ، خلال عشرين، أو ثلاثين سنة، أو السجن المؤبد، وحتى الإعدام، ضد أدنى مُيُول ثورية. وحتى النوايا الثورية التي لم تَسْفِرْ بَعْدُ عن أيّ عَمل مُؤَكَّد، عُوقِبَت بِشدّة. حيث سَنَّ النظام السياسي القوانين عَمْدًا بهدف مُعاقبة الجرائم المُحتملة، المَرغوب في ارتكابها، وليس فقط مُعاقبة الجرائم التي تَمَّ ارتـكابها فِعليًّا. وهكذا كانـت السلطة السياسية تُعاقب الرَّغَبَات السياسية، أو المَواقف الفِـكرية. فكان مثلًا مُجَرَّد تـفْضِيل جمهورية «ديمقراطية»، أو «اشتراكية»، أو الرغبة في قِيَّامها، كان يُـعتبر جريمةً لا تُـغْـتـفَـر.
(34). إن انحطاط الدولة، وَرَدَاءَة أداء مُوظّفـي الدولة، هُما ظاهرتان مُتَرَابِطَتَان، وَتُدَعِّمُ كُلّ ظَاهِرَة منهما الظّاهرة الأخرى.
وأدرك المَسؤولون، وَمُوظّفو الدولة، أن ما تطلبه السلطة السياسية منهم، هو أولاً وقبل كل شيء، الوَلَاء المُطلق لِلنظام السياسي المَلَكِي، وليس الكفاءة، أو النزاهة، أو الفَعَالِيَة المِهنية. وكان يُنظر إلى التَـعْيِينَات في المناصب المُهمّة في أجهزة الدولة على أنها مُـكافآت. وكانـت هذه المناصب تَمنح للمُستـفيدين منها فُرَصًا لِلْإِثْرَاء(6). واستـفاد الوُجهاء، والأعيان، والمسؤولون، المقرّبون من السلطة السياسية، من مسؤولياتهم، لتكوين ثَرْوَاتِهِم الخُصوصية. وَلَمْ يَعودوا يهتمّون بكفاءتهم في تنـفيذ مهامّهم. [قانون 271] كُلَّمَا زَادَ قَمع المعارضين السياسيين، أو قَمع النُشطاء الديمقراطيين، أو الجماعات الثورية، تَضاعف الثَرَاءُ غير القانوني في البلاد. وَتَنْـمُو هذه الثَروات في إِطَار الإِفْلَات مِن العِقَاب.
(35). ضدّ الثُوَار، طبّقت السلطة السياسية بقوّة العُقوبات المنصوص عليها في القوانين التي وضعتها خِصّيصًا لهذا الغَرض. لكن تُجاه حُلفائها، أو أعيانها، أو مَسؤوليها، أو مُؤَيِّدِيهَا، أو خُدَّامِهَا، الذين ارتكبوا اختلاسًا للأموال العمُومية، أو سَطْوًا على مُمتلكات الغَيْر، أو كانوا في مَواقع تَضَارُب المَصَالح (conflits d intérêts)، أو قَامُوا بِاستغلال النُـفُوذ، أو بالإثراء غير القانوني، سَعَت السلطة السياسية إلى حِمايتهم من أيّ رَقابة، وَمِن أيّ مُتَابَعَة قَضائية.
وَمُجمل الثروات التي تمّ بناؤها خلال عهد الملك الحسن الثاني، بُـنِـيَـت، على الأقل جُزئـيًّا، بطريقة اِحْتِيَالِيَة. وكان المناضلون غير الأنانيين يُسْحَقُون، بينما كان المقاولون الغَشّاشُون، والموظّفون الفاسدون، يَحْظَوْن بِالحماية، وبالإِفًلَات من العِقاب.
وتتجاوز هذه الظاهرة الـفئوية (المذكورة سابقًا) نوعَ الدولة (سواءً كانـت هذه الدولة مَلكية أم جُمهورية، دِيكتاتورية أم دِيمقراطية). [قانون 272] وهكذا، فإن أيّ سُلطة سياسية تَتِيهُ في مُمارسة الأنانية، تَلْجَأُ إلى وَضْع قوانين، من جِهة أولى، لِسَحْـق مُعارضيها السياسيّين، ومن جهة ثانية، لِضمان إِفْلَاتها، وَإِفًلات أَنْصَارها، من أيّة مُراقبة، أو عُقوبة.
وَكُلَّمَا فَرض شخص، أو أسرة، أو نُخبة، هَيمنتها، فإنها تميل إلى منح امتيازات لِمَن يخدمها، أو حِماية لمن يُدعّمها. وفي الوقت نفسه، تَتجاهل، وَتُهمّش، وَتُـعاقب، وَتَـقمع، من يُـعارضها.
والعائلات التي وصلت إلى «الثروة الاقتصادية»، تَطمح على الفور إلى الوصول أيضا إلى «السلطة السياسية»، من خلال تـقديم دَعم أكثرُ انـتهازيةً، وأكثر نِـفَاقًا، لِلنظام السياسي القائم.
(36). إذا كانـت السلطة السياسية للدولة تَستخدمُ الخُدْعَة، أو الفِخَاخ، أو الحِيَل، أو إرهاب قمع الدولة، لمُمارسة الحُـكم، فهذا يعني أن القوانين، أو لوائح الضَّبْط، أو العَـقْلَانِيَة، أو الأخلاق، أو سُلُوكِيَّات المُواطنة الصالحة، لم تعد كافية لِقـيّادة سكان البلاد. وهذا يَعني بالتالي اِنْجِرَافًا نحو تَـعميم استـعمال وسائل غير مَشروعة. وَمُنْذُئِذٍ فَصًاعِدًا، يُصبح المبدأ الضِّمْنِـي المُستـعمل في المُجتمع هو أن «الغَايَة تُبرّر الوسيلة». وَتُصبح الوسائل غير القانونية مُـعتـرف بها على أنها هي الوسائل الوحيدة الفعّالة في العلاقات المُجتمعية. ويصبح أساس الدولة، ليس هو القانون، بل القُـوَّة (أو مَوَازِين القِوَى). ويُصبح مُحَرِّك المُجتمع، ليس هو التضامن، أو التعاون، بل الأنانية. فَـتُـصبح كل الاِنْحِرافات مُمكنة. ومنها غَوْصُ المجتمع بأسره في الانحطاط، أو حتى في الحرب الأهلية.
في وضع مُجتمعي عادي، تكون السلطة السياسية أقرب إلى وظيفة بسيطة، تتمثّل في تنظيم، أو إدارة، سَواءً الدولة، أم المَنطقة، أم الشّركة، أم العائلة. لكن السلطة السياسية لا تبقى مستـقرّة. بل تَتطوّر في أكثر الأحيان بطريقة مُحَيِّرَة. لأن السلطة السياسية تَبْهَرُ، وَتُثِير الكثير من الأطماع. وَتَمِيل العديد من الفِئات المُجتمعية إلى التنافس فيما بينها، أو التَصَادُم، من أجل الاستيلاء على السلطة السياسية، أو احتكارها. فَـتَـتَـابَـع سلسلة من الصِّرَاعَات، أو الحروب غير النظامية، بين فاعلين مُتناقضين. ويمكن أن تُـؤدّي هذه الصراعات، في بعض الأحيان، إلى دمار سريع، وعلى نطاق واسع. فَيُعانـي مُجمل السكان من معاناة متزايدة، ومُتواصلة. ويَزداد الدَّمار سُوءًا. إلى أن يَختـفـي وَاحِدٌ أو أكثر من بَين الـفَاعِلين المتصارعين.
(37). كان الملك الحسن الثاني يُريد أن يكون له مُناصرون أقوياء، وَمُؤَثِّـرُون. وأقام تَحالفات ضِمنية مع المُلَّاك الإِقْطَاعِيِّين الكبار، ومع كبار الرأسماليين المُسْتَـغِلِّين، ومع القِوَى الإمبريالية، وحتّى مع الكِيَّان الصهيوني في إسرائيل. لقد ضَحّـى الحسن الثاني بالعُمّال، وصغار الفلاحين، والحرفيّين، وصغار التجّار، والعاطلين، والمُهَمَّشِين. وبذلك أظهر الحسن الثاني أنه لا يفهم واجب رئيس الدولة في أن يَظَلَّ حَـكَماً مُحايداً (سياسياً أو مُجتمعياً). حيث أن سكان أيّ بلد هُم مُتناقضون. وَيَتَـكَوَّنُون من سَائِدِين وَمَسُودِين، ومن مُسْتَـغِلِّين وَمُسْتَـغَلِّين، ومن أغنياء وفقراء، ومن مُثـقّـفين وغير مُتـعلّمين، ومن مُحافظين وتَـقدّميّين، ومن نُزَهَاء وَغَشَّاشين، ومن طَيّبين وأَقَلِّ طَيْبُوبَةً، إلى آخره. وكلّهم، كمواطنين، لَهُم حُقوق، وعليهم واجبات. وإذا تحالف رئيس دولة، أو الحكومة، أو أيّ مسؤول سياسي آخر، مع قُطب من السكّان، فإنه سَيَتَـعَرَّضُ لِنـُفُور، أو لِعَدَاء، الـقُطب النـقِيض من السُكان. وإذا فَضَّل الدِّفاع عن مصالح فِئَة مُعيّنة من السكّان، فإنه سَيَضُرّ بمصالح الـفئات الأخرى المُضادّة. وبذلك سَيـفـقـد حِيَادَه، أو استـقلاله. ولن يَعُود هو رئيس الدولة، أو الحكومة، لِجَميع السكان. وسيصبح مُتَحَيِّزًا، وبالتّالي غَيْرَ عَادِل. وستصبحت شَرعيّته مَوْضِع تَساؤل، أو رَفْض، من قِبَل السكّان المُتـضرّرين. [قانون 273] إذا لم تَجْرُؤْ سُلطة سياسية على الإساءة إلى المصالح الخاصة لأصدقائها أو مُؤَيِّدِيهَا، خَوْفًا من تَخْيِيب آمالهم، أو مِن فُـقدان دَعمهم، فإن هذه السلطة السياسية سَتُصبح عَاجِزَة على مُحاكمة ظُلمهم، أو على مُعاقبة انتهاكاتهم، أو على إيقاف تَجاوزاتهم،. وَسَتُجَازِف هذه السلطة السياسية في النهاية بِـفُـقْدَان مِصداقيتها من قِبَل الجميع. (...)
(43). تُـظْهِرُ الدَّساتير المُتـعاقبة التي وضعها الحسن الثاني تصميمًا مَهْوُوسًا على َمنـع أيّ شخص من مُعارضة إرادة المَلك، في أيّ مجال على الإطلاق. وَكُلٌّ من رئيس الوزراء، والحكومة، والبرلمان، والمَجلس الدُّستوري، والمجلس الأعلى للقضاء، وجميع مؤسّـسات الدولة الأخرى، ليس لديهم خيار آخر سِوَى دَعْم، وَتَنْـفِـيذ، تَوجيهات المَلك.
وكان الحسن الثاني يَـفرض كلّ القوانين التي يُريد، لِإِضْفَاء الصِّفَـة القانونية على طريقته الاستبدادية في الحُـكم. ولم يكن يَأْبَهُ الحسن الثاني بِأَن تَـكون هذه القوانين غير مُناسبة، أو مُـفْـرِطَة، أو مُنْحَطَّة، أو خاطئة، أو غير عادلة، أو غير شَرعية. وفي الوقت نفسه، عندما تُصبح بعض القوانين غير مُناسبة له، يَـقُوم بخرقها، دون أن يَشْعُر بأيّ حَرج. وكان هذا السُلُوك جُزءًا من تَصَوُّره للسياسة.
وَمِثل أيّ مُستبد آخر، كان الحسن الثاني يَتـظاهر بجهل أنه عندما يُوجد تَنَاقُض بين قانون مُعَيّن ومبادئ العَدْل، فإن هذا القانون هو الذي يَـفْـقِـد شَرعيته، وليس مَبادئ العَدالة. (…)
كانـت دولة الملك الحسن الثاني تُمارس إرهابًا سياسيًا، وفكريًا. وكان المواطنون مُجبرين على الاستسلام. وكان الاضطهاد يَخْنـق العُـقول. فَلَمْ تـكن العُلوم والتـِكْنُولُوجِيَّات قادرة على الازدهار. ولم تـكن أحزاب المعارضة المَسموح بها تَجْرُؤُ على مقاومة السلطة. وإذا حاولت، يُـقْدِمُ الحسن الثاني على سَحْقِهَا، وَإِذْلَالِهَا. وكانـت السُّلطات التي تُنـظّم الانتخابات تُزوّرها. وكان الناخبون الفقراء يَبيعون أصواتهم لمن يدفع أكبر سِعْر من بين المُرَشَّحين الأغنياء، أو المُـفَضَّلِين لَدَى السلطة السياسية. وكان المواطنون يخشون الدولة، لكنهم في أعماقهم، لم يعودوا يحبونها، ولم يعودوا يحترمونها.
وأصبح المواطنون مُـقْـتَنِـعِين بأن السياسيين، والمؤسسات السياسية، لا تُحَرِّكهم سوى الأنانية، والنـِّفاق. [قانون 276] إذا كان رئيس الدولة، وأعضاء الحكومة، والنُوّاب، والأعيان، والمسؤولون، ومساعدوهم، والمُـقاولون، إذا كانوا يُمارسون الغِشَّ في كثير من الأحيان، فإن الشعب كلّه سيجد نـفسه بِدَوْرِه مَدْفُوعًا إلى مُمارسة الغِشِّ. وَأُسَمِّـي هذه الظاهرة المُجتمعية بِـ "اِسْتِبْطَان النظام السياسي"(7) داخل مُـكَوِّنَات المُجتمع. (…)
لَم يَتسامح الحسن الثاني مع وُجود أيّ سُلطة مُضادّة (contre pouvoir)، سَواء كانت مُؤَسَّـسِيَة أم مُنْشَقَّة، فِعْلِيَة أم رَمزية. وكان الحسن الثاني يُطارد كل مُعارض مُناهض لِلْمَلَـكِيَة. ولم يَـكُن الحسن الثاني يَتسامح سِوَى مع المَلَـكِيِّين الخاضعين. وَقَضَى على مُجمل القادة الثوريين(8) الذين اعتبرهم خطرين عليه. [قانون 275] ومع ذلك، فإن أيّ سُلطة لَا تَـتَـواجد معها "سُلَطٌ مُضادّة"، قادرة على انتـقادها، أو على مُراقبتها، سَتتطوّر حتمًا نحو التَبْذِير، أو المُغَالَاة، أو التَـعَسُّف، أو الظُّـلم، أو الاِسْتِبْدَاد، أو العَبَث.
(42). في النهاية، نجح الحسن الثاني في تَحَدِّي الحِفاظ على عَرْشِه. لكن الحِفاظ على هذا العَرش جاء من خلال اضطهاد الشعب ومُعاناته. (...) وفي هذه المَعركة غَير المُتكافئة، سَحق الملك الحسن الثاني الحركات الثورية، وهزمها عَسْكريًّا، لكن مناضلي هذه الحركات المهزومة هم الذين كانوا على حَـقٍّ، على مُستويات الأخلاق، والسياسة. وإذا كان الحسن الثاني قد هزم الحركات الثورية عسكريًا، فإن هذه الحركات نجحت في إقناع الشعب بأن الديمقراطية شَرعية، وضَرورية. وعلى الرّغم من أن الحسن الثاني كان على ما يبدو المُنتصر المَشْهُود، فإن انتصاره كان يُخفـي في الواقع إساءة المُعاملة، والإِفْرَاط، والفشل الأخلاقي، والإفلاس السياسي. ولم تستـطع السُّلطة السياسية الاستبدادية للحسن الثاني أن تَحُلَّ أَيًّـا مِن مَشاكل المُجتمع الكُبرى، لا السِّيادة الوطنية، ولَا الأُمِّيَة، ولا الفقر، ولا التخلّف، ولا الفَساد، ولا الدَمَـقْـرَطَـة، وَلَا أَيّ شَيْءَ سِوَى إثراء العَائلة المَالِكة، واغْتِنَاء أقلّية صغيرة من العائلات البرجوازية. واعتـقد المَلك الحسن الثاني أنه يُسيطر على كلّ المجتمع، بينما كان هو نَـفْسُه يَخضع لِقِوَى غير مَحسوسة. حيث كان الحسن الثاني يجهل أن "اِسْتِـلَابَـه" هو الذي كان يُحدّد أفكاره الاستبدادية، وَسُلُوكَه غير الشَّرْعِي. (...)
في المظهر، انتصر الحسن الثاني. لكن في نهاية الأمر، ضحاياه، الشهداء مَهْدِي بَنْ بَرْكَة، وَعُمَر بَنْجَلُّون، وَعُمَر دَهْكُون، ومحمد بَنُّونَة، وعبد اللَّطِيف زَرْوَال، وَسَعِيدَة مَنَبْهِي، وَجْبِيهَة رَحَّال، وعشرات آلاف غيرهم، هُمْ الذين كانوا على حقّ في الانـتـقاد، والمُعارضة، والتَـمَرُّد، والرَّغْبَة في إِحْدَاث تَـغييرات جذرية في النظام السياسي، وفي المُجتمع.
وفي بداية عَهد الملك حسن الثاني، كان العديد من البلدان تَـقريبًا على نفس المُستوى من التنمية الذي كان عليه المغرب. مثل إسبانيا، والصين، وكوريا الجنوبية، وتركيا، والهند. وبعد مُرور تِسْعَة وثلاثين عامًا، في نهاية عهد الملك حسن الثاني، أصبحت هذه البلدان أكثر تطورًا بكثير، في حين أن المغرب بَـقِيَ رَاكِدًا في الاِنْحِطاط المُجتمعي، بِسبب أنانية السلطة السياسية، واستبدادها. (…)
يَتَطَابَـقُ تَاريخ بلاد المغرب مع تاريخ قمع المُعارضين السياسيّين. فهل سَيُشْبِهُ عَهدُ المَلك محمد السادس عهدَ الملك الحسن الثاني، أم أنه سيختلـف عنه ؟ لا نـقدر على التَـنَـبُّـؤ. وبداية عهد الملك محمد السّادس تُبَيِّنُ أن النظام السياسي لمحمد السّادس، هو استمرارية للنظام السياسي للحسن الثاني. حيث يختلـف هذان النظامان السياسيان في الشَّكْلِيَات، وليس في النَوْعِيَة. والمُهِمّ هو أن القـوانين المُتحكِّمة في تطوّر المُجتمع تُؤَكِّـد أن كلّ سلطة سياسية لا تُـحَـقِّـقُ الحاجيّات الأساسية للمُجتمع، خلال عُـقُـود مُتَـوَالِـيَـة، سيكون مَآلها، إن عاجلًا أم آجلًا، هو الإفلاس، والزوال. مع كلّ مَا يَـفْـتَـرِضُـهُ ذلك من آلَام، وخراب.
وَمِن خلال مُمارساته وانتهاكاته، مَـكَّـنَـنَـا عهد الملك الحسن الثاني مِن تحليل واستيعاب الجوانب الأساسية في مسألة «السلطة السياسية». نَـتَـمَـنَّـى أن يستـفيد الحُكَّام، والنُخَب، والشعب، من هذه الدروس السياسية الـثَّـمِيـنَـة.

رحمان النوضة
[ مُقتطفات مَأْخُوذة من كتاب رحمان النوضة، المَـكتوب أَصْلًا باللغة الـفرنسية، وعنوانه :
Rahman Nouda, Le politique, publication sur internet en 2010, 476 pages, Version 9.
ورابط هذا الكتاب (بالفرنسية) على الإنترنيت هو التالي:
https://wp.me/p1k2Sf-7H ].

نُــقَــط الــهَــوَامِــش
(1) وُلِدَ الملك الحسن الثاني في 9 يوليو 1929، وتوج في فبراير 1961، وتوفي في 23 يوليو 1999، بعد 38 عامًا ونصف من الحكم.
(2) تَذْكِير: "اَلْاسْتِلَابُ" (أو "الاغتراب") (aliénation) يُعادل المفهوم الفلسفي "Entfremdung" الذي استخدمه G.W.F Hegel. تَمَّ استكشاف هذا المفهوم بشكل أكبر من قبل ل. فيورباخ (Feuerbach) الذي يقول (في كتابه "جوهر المسيحية") أن فكرة الله أدخل في حالة اِسْتِلَاب خصائص "الطبيعة البشرية". وَتَمَّ تطوير هذا المفهوم أيضًا من طرف كارل ماركس. وأوضح هذا الأخير أن الاستلاب هو نتيجة منطقية أو مَنْهَجِيَة للرأسمالية. والمعاني الأخرى المُحتملة لمفهوم الاستلاب، حسب الإطار، هي: الفَصْل بين شيئين يكونان عادةً مرتبطين؛ أو التناقض بين أشياء يُفترض فيها أن تكون عادة في وئام؛ أو أن يصبح الفرد الفاعل غريبًا عن جماعته، أو عن مُجتمعه، أو منفصلاً عن طبيعته البشرية؛ أو حدوث خَلَل، أو تَعطيل مؤقّت، أو جزئي، لِلْمَلَـكَات الفكرية؛ أو حالة شخص محروم جزئيًا من جوهره، أو من إنسانيته؛ أو الذي فَقَد وَعْيَه بعلاقاته المُجتمعية مع الآخرين؛ أو الذي أصبح غريبًا عن نفسه؛ أو الذي يتعرض لعمل قِوَى مُعادية ناتجة عن نشاطه الخاص، وذلك تَبَعًا لِظروف اقتصادية ومجتمعية مُحَدَّدَة. ومن بين نتائج الاستلاب أن الشخص المُسْتَلَب (أو المجموعة المُسْتَلَبَة)، يُمارس نَمَطَ عَيْش يكون متناقضًا، أو متنازع عليه، حيث يبذل فيه طاقات مُعتبرة، للحصول على نتائج يكون مفعولها أكثر ضررًا من نَـفْعِهَا. مع عجز دائم عن تصحيح نفسه.
(3) في الكتاب الحالي، يُشِيرُ الرَّمْزُ [قانون] إلى أن الجُملة (أو الجُمَل) التي تَلِيهَا، هي بِمَثَابَة "قانون"، يَحكم ظاهرة مُجتمعية، أو يَحكم تَطوُّرَ المجتمع. وتكون كلمة "قانون" مَتبوعة برقم تَرْتِيب هذا "القانون" داخل نَصّ الكتاب. وقد بدأ ترقيم هذه القوانين في كتاب "Le Sociétal" ، واستمر في كِتَابَـيْ "Le Politique"، و "L’Éthique politique".
(4) لَا يَدَّعِي بأن سُكّان البلاد صوّتوا، خلال استـفتاء، بالإجماع تقريبًا، أو بِمـا يَقرب من 90 في المِئَة من بين المُصَوِّتِين، لصالح خِيّار مُحدّد، إِلَّا من يجهل الظَوَاهِر المُجتمعية. وفي الواقع، وفي كل مكان في العالم، لا يصوّت أبدًا أيّ شعب حُرٍّ على اقتراح سياسي بِنِسْبَة تَـقْرُب من 90 في المِئَة من بين الأصوات (المُسَجَّلة، أو المُعبّر عنها). لأن الفَوَارِق المُجتمعية، والثـقافية، الموجودة فيما بين المواطنين، هي عَديدة إلى دَرجة أن آرائهم تكون بالضرورة مُجَزَّأَة، ومتنوعة، وَمُتَبَايِنَة.
(5) المهدي بن بركة، الخيار الثوري، الدار البيضاء، كُتب في مايو 1962.
(6) خلال حوالي خمسة عشر عامًا، حصل العديد من الشخصيات، الذين استـفاد العديد منهم من كَرَم الملك الحسن الثاني، على ما يقرب من 1500 مليون درهم من الاعتمادات من "البنك العقاري والسياحي" (Crédit Immobilier et Hôtelier, CIH)، دون أن يُعِيدُوا أبدًا هذه الدُيُون إلى البنك. وفي وقت لاحق، قال المدير العام لـبنك CIH مُولَاي زِين زَهِيدِي «إن الإعفاءات تمّت بأمر من القصر الملكي». انظر: الأسبوعية "La Nouvelle Tribune"، العدد 241، بتاريخ 11 يناير / كانون الثاني 2001. انظر أيضًا: نتائج تـقرير التحقيق البرلماني حول CIH في أسبوعية "Maroc-Hebdo International"، رقم 449، في 26 يناير 2001.
(7) انظر تـفسيراً للظاهرة المُجتمعية "اِسْتِبْطَان النظام السياسي" في النـقطة رقم (208)، في باب "السياسة" من كتاب "السياسي" (Le Politique).
(8) شَهِدَ أحمد بخاري، وهو عضو سابق في جهاز المخابرات الذي يحمل الاسم الرمزي CAB1، شهد بشجاعة، وأظهر أن هذا الجهاز متورّط بشكل مباشر في اختطاف، واغتيال، زعيم المعارضة السياسية مهدي بنبركة. وكانت شهادته سببا في اضطهاده من قبل "المخابرات". أنظر كتابه "السر" (Le secret) المذكور أعلاه.