مرور عام على رحيل الفقيد الكبير اسحاق الشيخ يعقوب


نجيب الخنيزي
2021 / 12 / 17 - 09:24     

في 14 ديسمبر 2020 ، غيب الموت الذي لا مفر منه الشخصية الوطنية والثقافية البارة في بلادنا، وصديق العمر ورفيق الدرب الطويل الأستاذ إسحاق الشيخ يعقوب (أبو سامر) عن عمر ناهز 93 عاما إثر معاناة طويلة مع المرض لازمه في السنوات الأخيرة.
تعود معرفتي بالراحل الكبير إلى حوالي نصف قرن، حيث تعرفت عليه لأول مرة وهو في المنفى خارج المملكة في عام 1971، عندما كنت في الثامنة عشر من العمر، ومنذ ذلك الحين استمرت علاقاتنا بعد عودته إلى أرض الوطن في عام 1975، وقد جمعتنا محنة مشتركة في عام 1982، إثر الاعتقالات التي طالت العشرات من العناصر اليسارية، وحافظت على صلتي القوية به، رغم الانقطاعات نتيجة انتقاله للسكن مع زوجته وعائلته في دولة البحرين الشقيقة.
أتسم الفقيد الراحل بحسن الضيافة والكرم والشجاعة من جهة، وعمق الثقافة والمعرفة الحديثة، كما أمتلك معرفة بالثقافة التقليدية التي أستمدها من والده القاضي المعروف في مدينة الجبيل الشيخ يعقوب بن أحمد اليعقوب حيث ولد فقيدنا الراحل من جهة أخرى.
ينتمي الفقيد الراحل إلى عائلة مهمومة بالشأن الوطني والسياسي والثقافي والإعلامي في بلادنا نذكر من بينهم شقيقاه يوسف الشيخ يعقوب وأحمد الشيخ يعقوب ، حيث أصدرا جريدة " الفجر الجديد " والتي تضمنت المطالب العمالية والإصلاحية ، والتي أشترك في تحريرها العديد من النقابين واليساريين ، ومن بينهم عبد العزبز السنيد ومحمد الهوشان وعبد الرحمن المنصور وعبد الله الجشي والسيد علي العوامي ،غير أنها أوقفت عن الصدور بعد عددها الرابع .
كما طالهما الاعتقال لعدة مرات بسبب نشطاهما في صفوف اليسار ، وقداعتقل شقيقه الأكبر يوسف الشيخ في عام 1956 حيث أمضى أكثر من عام في سجن العبيد الشهير في الأحساء، كما اعتقل مجددا في عام 1964 بتهمة الشيوعية ، وحكم بسبب ذلك بالسجن 15 عاما كما حكم على رفاقه في تلك القضية لمدد متباينة تراوحت ما بين 3 و15 عام ، غير انه خرج من السجن بعد قضاء 10 سنوات بموجب عفو أصدره الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز .
إلى جانب التزامه الوطني وانتماءه الفكري اليساري الذي حافظ عليه طيلة حياته، تنوعت اهتمامات رفيقنا الراحل حيث أصدر ما يقارب 20 كتابا حول قضايا وهموم وطنية وثقافية وفكرية واجتماعية، وقد استمر في الكتابة رغم مرضه حتى أقعده المرض تماما في الشهور الأخير.
أستمرت علاقتي وصلتي الشخصية والعائلية مع إسحاق الشيخ وأسرته ، وفي الواقع كان منزله في الخبر بمثابة منزل ثاني لي ، حيث جمعتنا ذكريات حميمة، ومشتركات وطنية وفكرية، وأمال وتطلعات مشتركة نحو مستقبل بهي لشعبنا ووطننا وللشعوب العربية وشعوب العالم بأسره. أمضينا أوقاتا طويلة وليال عديدة نتناقش ونتحاور، نتفق ونختلف، لكن ذلك لم يؤثرعلى علاقتنا الحميمة .
تواصلت صلتي وعلاقتي الشخصية والعائلية الوطيدة مع إسحاق الشيخ وزوجته نعيمة المرهون وعائلتها التي تعد بحق عائلة تقدمية بأمتياز ، وذلك حين انتقل للعيش في دولة البحرين الشقيقة ، حيث ابتنى منزله الثاني هناك ، كما أصبحت زوجته نعيمة المرهون ( أم سامر) من الناشطات البارزات في المنبر التقدمي والحركة النسائية في دولة البحرين الشقيقة .
و في الواقع كنت أعتبره ليس مجرد رفيق قديم ، يعد بحق من رواد الحركة اليسارية في بلادنا ممن يتسمون بالعمق الثقافي و الفكري ، والإخلاص للقيم والمثل الإنسانية النبيلة ، بل كان بالنسبة لي بمثابة الأخ الأكبرأو الأب الروحي .
أستعيد هنا بعض الذكريات والأحداث التاريخية الهامة التي جمعتني مع الفقيد الكبير الراحل .
اللقاء الأول مع إسحاق الشيخ
في مطلع عام 1971 رجعت إلى أرض الوطن بعد أن أمضيت قرابة العام في العراق مع مجموعة من الرفاق والأصدقاء حيث واصلنا دراستنا هناك ،وذلك إثرأضطرارنا للخروج من السعودية ، إبان الأعتقالات التي شهدتها السعودية في عام 1969 وما بعدها ، وطالت تنظيمات سياسية ( قوميين وناصريين وبعثيين ويساريين ) مختلفة من حيث توجهاتها الفكرية و والأيدلوجية ، وفي حين ذهب البعض من مجموعتنا لتكملة دراسته في الأتحاد السوفيتي آنذاك ، رجع البعض الآخر( وأنا كنت منهم ) ممن أصبحت ظروف عودتهم أمنة .
في منتصف عام 1971 حصلت على جواز سفرجديد ، وكانت أول سفرة لي للخارج في نهاية 1971 حيث عرجت على الكويت والتقيت بعض الرفاق المتواجدين هناك .
من الكويت غادرت إلى دمشق ألتقيت خلالها لأول مرة مع الفقيد الراحل إسحاق الشيخ ، وذلك وفقا للطريقة التنظيمية المعتادة لدينا آآنذاك ،عندما يجري الأتصال الأول (مكان وزمان وهيئة وكلمة سر) بعد تعارفنا رحب بي بحرارة وما لفت انتباهي هو وسامته و شعره الفضي الناصع البياض رغم أنه حينها كان في الأربعينات من العمر.
من خلال احاديثنا ونقاشاتنا في القاء الأول وما تلاها من لقاءات ومهمات حزبية مشتركة ، تنامت علاقاتنا الشخصية الحميمة ، واكتشفت خلالها معدنه الإنساني الأصيل ،ونبل اخلاقه ، وكرمه من جهة ، وعمق ثقافته السياسية والفكرية وقدرته التحليلية وذاكرته القوية من جهة أخرى . كما توطدت علاقاتنا بعد عودته إلى الوطن على الصعيدين الشخصي والعائلي .
كان إسحاق يعمل ويتحرك ويسافرحين كان في المنفى تحت أسم " عبد الله محمد " والذي لازمه منذ خروجه من السعودية سرا في عام 1956 في اعقاب الأعتقالات التي طالت العديد من العمال والنقابيين والمثقفيين بمن فيهم شقيقاه يوسف وأحمد ،واستمر يستخدم هذا الأسم حتى عودته إلى أرض الوطن في عام 1975 في اعقاب العفو العام الذي أصدره العاهل السعودي الراحل خالد بن عبد العزيز إثر تسلمه الحكم في اعقاب اغتيال الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز .
وكما أخبرني فأن زوجته نعيمة المرهون ( أم سامر) لم تتعرف على أسمه الحقيقي إلا قبل فترة وجيزة من عقد قرانهما رغم مضي وقت طويل على تعارفهما .
في عام 1961 سافرإلى ألمانيا الديمقراطية ( الشرقية ) وأنهى دراسته في عام 1965 حيث حصل على عدة دبلومات في الصحافة والعلوم السياسية والقضايا النقابية .
عاد سرا إلى السعودية في عام 1968 حيث قضى فترة وجيزة في العمل الحزبي السري في العاصمة الرياض ، كما التحق بعمل مؤقت فيها ،غير أنه أضطر للمغادرة على إثر أعتقال رابطه التنظيمي وانقطاع صلته بالحزب، واستقربه المقام في العاصمة السورية دمشق .
دمشق آنذاك كانت أحدى المحطات المهمة للتنظيم في الخارج ،حيث كان يقيم فيها بعض الرفاق القدامى والرفاق الجدد وبينهم من اللذين جاؤا من تنظيمات يسارية ( قومية وبعثية ) أخرى عاملة في السعودية والتحقوا فيما بعد بجبهة التحرر الوطني في السعودية ، وكانوا في غالبيتهم من المنفيين واللاجئين السياسيين الذين غادروا إلى الخارج في أعقاب الأعتقالات التي جرت في عام 1969 وما تلاها .
تكررت زياراتي إلى دمشق على مدى سنوات ومع أني أسكن في الغالب في أحد الفنادق أوالشقق المتواضعة في دمشق نظرا للإمكانيات المحدودة في ذلك الوقت ، غير اني أقضي وقتا طويلا ، وأسكن أحيانا مع الفقيد الراحل في شقته الصغيرة المستأجرة و المتواضعة في مساحتها وأثاثها ، والغنية والكبيرة في معانيها ودلالاتها بالنسبة لنا .
الشقة التي كانت بمثابة وقف حيث سكنها لسنوات رفاق من البحرين عبارة عن قبو( تحت الأرض) مكونة من غرفة واحدة وصالة صغيرة وحمام وركن صغير كمطبخ ومخزن وهناك طلة ( بلكونة ) صغيرة تشرف بطريقة ما على الشارع ، واعتقد بأن المساحة الإجمالية للشقة لا تتجاوز 60 مترمربع ، وكنا نطلق عليها تحببا مقرالحزب .
ومع تواضع الشقة غيرانها كانت تقع في أحد الأحياء الراقية في ذلك الوقت، وهو حي أبو رمانة حيث كان يسكنه الصفوة من رجال السلطة والمال والأعمال ، كما يتواجد فيه العديد من المقرات الحكومية والأمنية والحزبية ( البعثية ) ، إلى جانب بعض السفارات والهيئات الأجنبية وكان من بينها المركز الثقافي السوفيتي الذي كان يضج بزواره و بالنشاط الثقافي والسياسي والفني المتعدد والمتنوع ، وقد تسنى لي حضور العديد من فعالياته أثناء تواجدي في دمشق .
مع أن دمشق بالنسبة لنا كانت تعتبر في ذلك الوقت مكانا ومعبرا أمنا للمرور بالنسبة للطلاب السعوديين الدارسين في الإتحاد السوفيتي أولحضور المؤتمرات والفعاليات السياسية و الحزبية في محتلف الدول وفي مقدمتها آنذاك الدول الأشتراكية ، غير ان العلاقة بيننا وبين حزب البعث الحاكم أو أي من الأجهزة السورية الرسمية كانت معدومة . للحديث صلة