الابتعاد عن المألوف في - لَا لَحْدَ لِي - للشاعرة اللبنانية تغريد بو مرعي


غانم عمران المعموري
2021 / 12 / 17 - 00:32     

تكمن براعة الشاعر - الشاعرة الحداثوي التجديدي إلى خوض المجازفة اللغوية عن طريقِ الهدم والبناء من خلال الخروج عن المألوف والتخلي عن الأُطر الضيقة الى فضاءاتٍ مفتوحةS تمنح القارئ الفعلي الولوج إلى عالم النص بما فيه من معانٍ بليغةٍ يستطيع المشاركة الفعالة فيها من خلال السلطة التأثيرية التي يُمارسها الكاتب بقوةِ بلاغته وحنكته في صياغة وتطويع اللغة ..
لم تتقيد الشاعرة بو مرعي بالمعنى المعجمي للعنونة " لَا لَحْدَ لِي " والتي ابتدأت بلا النافية للجنس ونفيها نفياً مطلقاً وإنما أرادت من تلك العنونة ابعاداً فلسفية تتعلق بالأنا وإن ياء المتكلم تشير إلى ذلك لتدفع المتلقي واستدراجه دون شعور إلى دخول دائرة التفكير والتأمل من خلال الوهّج البصّري الخاطف المؤثر في مخيلته منذ الوهلة الأولى ويدفعه إلى التوقف وتحليل المفردات وبذلك تكون الشاعرة قد قدمت عنونة بحرّفية وإبداع ..
تنبثق العنونة من الوظيفة القصدية عن علاقة قائمة بين العنوان والشاعرة تكون قصدية متضمنة لأبعاد ذاتية تتصل بالأنا الفردية والتي تتشظى بدورها إلى الأنا الجمعية حيث أن الكاتبة لم تُردْ من ذلك شخصية مفردة وإنما حالة اجتماعية عامة وتنطوي هذه القصدية على إيديولوجيا وانفعالات وأحاسيس، ذلك أنَّ ( الأنا الإنسانية هي محصلة تفاعل بين البناء البيولوجي للفرد في انفعالاته ومشاعره وقدراته، وبين الدوافع التي تعمل في إطار الظروف الاجتماعية والثقافية والشخصية المحيطة به ) ١.
أمّا الوظيفة التأثّرية فتكون بين العنوان والقارئ مجسدة الضّغط والتأثير الذّي يفرضه العنوان على القارئ يتم من خلالها تحريض المتلقي وتحفيزه لتُشَّكل أولى العتبات الأساسية للتفاعل و الاستجابة مع النص ..
أمّا الوظيفة الاحالية فتحدّد العلاقة بين الرسالة والهدف الذي ترنو إليه الشاعرة والربط المُحْكم بين عنونة تم نسجها بحرفية والنص لتكون الانطلاقة الأولى أي تكون العنونة إشهار وإعلان عن محتوى النّص ومضمونه..
حققت الشاعرة في نصها كثافة رمزيّة من خلال كسر الأطر الجاهرة والانطلاق إلى فضاءات رحبة بالابتعاد عن المألوف بأسلوب انزياحي يتخذ من الصور الشعريّة عملية اثارة لانفعالات المتلقي عند حشد الصورة الذهنية في مخيلته كما في الاستعارات و المجازات والتشبيهات الّتي تعطي للنص جمالية فنية ( عاند القدر جفون التكوين, تسبقني ريح العاديات, قارعةِ الوَجَع, يسكبُني ألمًا, يسكبُني قَرحًا، فيثورُ الرَّملُ والزَّبد, ملحِ الغِياب, محرابِ الوجَع, وسقَطَ وجهي في ظلّي المَكسُور, قمرًا كاد يموت ..)
استطاعت الشاعرة من خلال تجربتها الأدبية الطويلة واحساسها بالموجودات خلق صور شعريّة بأسلوب ابداعي انزياحي حيث أنها جعلت للتكوين جفون بخلاف المعتاد من القول فالجفون تكون للكائن الحيّ وجعلت للوجع قارعة, وصورت لنا الألم كالسائل الذي يُسكب في لحظة الحزن بمفارقة جميلة وأضفت صفة الغضب والتمرد والثوران على الجماد, أما الغياب وما يلحقه من الشوق والحنين وألم الفراق جعلت له الشاعرة طعم الملح بتشبيهٍ رائعٍ يحول الصورة الذهنية لدى القارئ إلى صورةٍ حسيّةٍ " وسقط وجهي في ظلّي المكسور" امتاز هذا المقطع بقوةٍ بلاغية مجازية من خلال عمق الدلالة والانزياح من خلال الصورة الهادفة الّتي تعني بأنها ( نسخة جمالية تستحضر فيها لغة الابداع الهيئتين الحسية والشعورية للأجسام أو المعاني بصياغة جديدة تمليها موهبة المبدع وتجربته وفق تعادلية فنية بين طرفين هما المجاز والحقيقة )2.
مَنْ يشري بقايا مقبرة؟!

مَنْ يشري عصارةَ قمامة؟!
يعد الاستفهام من الوسائل المهمة التي يلجأ اليها الشعراء لتحريك واثارة مشاعر المتلقين وقد اعتمدت الشاعرة التكرار " مَنْ " الذي أضفى على النص قيمة جمالية لإظهار مقصدتيه من خلال التكرار بشكل متجدد وإيقاع موسيقي متصاعد كما في النوتات الموسيقية التي تتدرج في مستوى الصوت ليكشف عن الصراع الداخلي المتأزم التي تُعانيه الذات من خلال التأثيرات الاجتماعية والنفسية الخاصة به وبالمجتمع الذي ينتمي إليه بكل كيانه ووجدانه بتناقضاته وسلبياته ومشاكله العالقة وأثرها البالغ فيه كونها أحد أفراد المنظومة الانسانية التي تُساهم في بنائها ..
اعتمدت البو مرعي على البناء الجملي المكثف والموجز والانزياح عبر تداخل حواري مونولوجي وموضوعي اجتماعي يكشف عن ابعاد تحاكي الواقع اليومي مع تركيز دقيق وقدرة في رسم لوحة تجسد مدى الألم والحزن بلغة رمزية تضفي عليها ابعاداً تأويلية من خلال التكثيف واختزال المعاني المعرفية بصورٍ شعرية تستمد رونقها من خلال الانسجام والتلاحم بين الخيال الخصب والفكر الناضج والتجربة الأدبية ..



لَا لَحْدَ لِي

لأنّه لا لحدَ لي، ولا قرينَ لظلّي..

عاند القدر جفون التكوين

منذ أوّل البدء..
منذ أوّل التكوين..

وأنا الطريد المغيّب في بطن المغيب، وحيدًا أجوبُ الفيافي والقِفار، تسبقني ريح العاديات، يلفَحُنِي صهَد المنتهى، ينخرُ عُنُقي على قارعةِ الوَجَع..

يسكبُني ألمًا
يسكبُني قَرحًا،

فيثورُ الرَّملُ والزَّبد ..

ولأننا بعُمرٍ مُنْهكٍ.. انسكب حبرُ الألمِ في بوتقَةِ الرُّوح ..

مَنْ يشري بقايا مقبرة؟!

مَنْ يشري عصارةَ قمامة؟!

الأسواقُ إلى قعر الهاوية، خاوية إلّا من الأضرحة!

ولأنَّ الرَّمل لا لَحْدَ له؛ لم يبقَ غيرُ ملحِ الغِياب..

سقطَ القدرُ في محرابِ الوجَع؛ وسقَطَ وجهي في ظلّي المَكسُور..

لعلّ الله يصطفي يومًا أُنجِبتُ فيه، لأكتمِلَ قمرًا كاد يموت.




المصادر
١ علي عبد الرزاق الحلبي، علم الاجتماع الثقافي، دار المعرفة الجامعية، مصر، ٢٠٠٢، ص١٣٥.
2- عبد الاله الصائغ, الخطاب الشعري الحداثوي والصورة الفنية, المركز الثقافي العربي, الدار البيضاء, المغرب, ط1, 1999, ص 98.