إشكالية النضال الحقوقي بين قانوني الافقار والاعتقال السياسي


عبد السلام أديب
2021 / 12 / 16 - 09:15     

1 – قد يستغرب القارئ لعنوان هذه الورقة، فيتساءل عن ما هية العلاقة القائمة بين الفقر والاعتقال السياسي. لكن مع بعض التدقيق ومحاولة الإجابة عن عدد من التساؤلات وعلاقتها بالحقيقة الديالكتيكية القائمة بين كل من الفقر أو الافقار والاعتقال السياسي ستتضح لنا شدة الارتباط بين المفهومين.

2 – إن أول تساؤل نطرحه للمناقشة هو ما هو الفقر أو الافقار؟ فالفقر ليس قضاء وقدر حتى وان ولد المرء فقيرا لان والديه فقراء، كما أنه ليس آفة طبيعية كالمرض او العاهات المستدامة التي قد تصيب البعض بينما يفلت منها البعض الآخر وان كانت هذه الأشياء لها مسبباتها الديالكتيكية ايضا. بالنسبة للتحليل الموضوعي الديالكتيكي يعتبر الفقر ظاهرة اجتماعية، تنشأ نتيجة طبيعة النظام الاجتماعي القائم وعن العلاقات الاجتماعية التي يفرزها هذا النظام الاجتماعي. فالفقر إذن، هو قبل كل شيء، علاقة اجتماعية معينة يفرزها النظام الاجتماعي القائم بالارتباط بنمط الإنتاج المعتمد.

3 – فاذا ما قمنا بإعادة قراءة شكل تطور الأنظمة الاجتماعية عبر التاريخ والانماط الإنتاجية المرتبطة بها سنجد التسلسل التالي: المجتمع البدائي حيث لا وجود للإفقار ولا للاعتقال السياسي ولا لحقوق الانسان، ثم المجتمع العبودي وبعده المجتمع الاقطاعي وأخيرا المجتمع الرأسمالي. ففي مختلف هذه الأنظمة الاجتماعية الأخيرة ساد التعايش في ظل التناقض الطبقي بين الأغنياء والفقراء، فالعبيد ظلوا فقراء مغتربون في المجتمع العبودي وأقنان الأرض عاشوا الفقر والاغتراب في المجتمع الاقطاعي كما أن الطبقة العاملة تعيش الاغتراب والفقر اليوم في ظل المجتمع الرأسمالي. ثم ان اشكال الدولة التي نشأت في هذه المجتمعات كانت تعمل على حماية الطبقات الغنية التي تشكل نظام الحكم وتعمل في المقابل على اغتراب وقمع الطبقات المفقرة كلما حاولت الاحتجاج على وضعها البئيس.

4 – التساؤل الثاني الذي يفرض نفسه، هو عن ماهية الاعتقال السياسي؟ حيث نجد أن الاعتقال السياسي عبارة عن اجراء سياسي ملموس تقوم به أجهزة الدولة في مواجهة المعارضين لسياساتها الطبقية. ويطرح سؤال ثاني في نفس السياق، وهو لماذا تقوم هذه المعارضة السياسية؟ وهل تستدعي بالضرورة أشكالا من الاعتقال السياسي بكل تبعاتها، من احتمالات التعذيب والمحاكمات الصورية والاعدامات خارج القانون وإصدار الأحكام بسنوات طويلة من السجون؟

5 – الجواب الموضوعي الديالكتيكي، هو ان الاعتقال السياسي يشكل هو الآخر ظاهرة اجتماعية، وأنه مثل الفقر، ناجم عن شكل ومضمون النظام الاجتماعي القائم، المرتبط بنمط الإنتاج المعتمد، وفي نهاية المطاف فان الاعتقال السياسي عبارة عن "علاقة اجتماعية" يولدها شكل ومضمون النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي القائم. وتحكي الشهادات التاريخية ان كافة الأنماط الاجتماعية السابقة عرفت اشكالا من الاعتقال السياسي والاعدامات والتعذيب والنفي، وحيث يأتي ذلك كرد فعل لأجهزة الدولة الطبقية السائدة على المعارضة السياسية، التي تنتفض على ممارساتها السلطوية المحابية للطبقات الحاكمة الغنية وعلى حساب الطبقات العاملة المفقرة.

6 –ويمكن الربط هنا بين الفقر والاعتقال السياسي، والقول بان الفقر والافقار يشكلان سببا رئيسيا لتشكل المعارضة السياسية التي تنتفض على بؤس الوضع القائم وتحاول تغيير الوضع القائم عبر المطالبة بتغيير السياسات السلطوية المعتمدة. فليست هناك معارضة سياسية تحث بشكل مجاني وبدون حدوث أوضاع كارثية ينتجها عنف سياسات الطبقات الحاكمة، وفي مقدمتها عملية الافقار الممنهجة نتيجة السياسات المعتمدة. فالمعارضة السياسية هي قبل كل شيء نتيجة موضوعية للسياسات الاجتماعية القائمة، وتبدو كقانون موضوعي ينبثق بالضرورة عن البؤس والافقار. كما أن الاعتقال السياسي بكافة اشكاله عبارة عن ردود فعل متلازمة للأنظمة الطبقية القائمة من أجل حماية الثروات التي عملت على نهبها وأصبحت أسلوبا لحكمها، وهذا ما يفرز أنظمة استبدادية، ديكتاتورية، تعمل على اخضاع الجماهير الكادحة المفقرة بالقوة، وفي مقدمتها طليعة هذه الجماهير المنتفضة، التي يتم التنكيل بها بكل قوة، لكي يشكل ذلك عملا رادعا لأية معارضة مستقبلية محتملة تنشأ من داخل الجماهير المفقرة.

النتائج السياسية لمعارضة الفقر والافقار النسبي الذي ينشأ نتيجة نمط الإنتاج الرأسمالي السائد
7 – منذ بداية القرن العشرين اصبح نمط الإنتاج الرأسمالي هو نمط الإنتاج العالمي السائد يشكل مطلق، علما ان النشأة العملية لهذا النمط الإنتاجي انطلق منذ القرن الثالث عشر، حيث عرف سيرورة التعايش مع أنماط الانتاج سابقة عليه كنمط الإنتاج العبودي ونمط الإنتاج الاقطاعي. وقد تمكن النظام الرأسمالي من القضاء على الأنماط الإنتاجية السابقة له عبر الاستعمار والهيمنة الامبريالية على مختلف الشعوب. وقد افرز هذا النظام أشكالا من القهر والافقار والعبودية داخل البلدان الامبريالية الرئيسية وأيضا في مختلف بلدان العالم المستعمرة.

8 – كرد فعل ضروري على هذا القهر والافقار والعبودية برزت اشكالا متعددة من المعارضة السياسية للنظام الرأسمالي، وفي مقدمتها نشأت المعارضة الماركسية التي أصبحت تشكل الفكر العمالي الرئيسي المقاوم لنمط الإنتاج الرأسمالي. كما واكب ظهور المعارضة الماركسية أشكالا من الاعتقال السياسي والنفي والاغتيالات، لم يسلم منها حتى كارل ماركس وفريدريك انجلز اللذان تعرضا للطرد والابعاد من كل من المانيا وفرنسا وبلجيكا.

9 – ومع بداية القرن العشرين، نجحت المعارضة الماركسية رغم مختلف مضايقات الأنظمة الرأسمالية في الثورة على النظام الرأسمالي في روسيا وبالتالي في تصدير الثورة نحو بلدان رأسمالية المجاورة وحتى داخل البلدان المستعمرة، وهذا ما قاد بالضرورة نحو استقلالات البلدان المستعمرة ومحاولة البلدان الرأسمالية معالجة نسبية لمظاهر الفقر والاستغلال والعبودية. فخلال عقدي الخمسينات والستينات من القرن العشرين عرف الفكر الاشتراكي والشيوعي هيمنة مطلقة على مختلف شعوب العالم. كما كان من نتائج الثورة البلشفية في روسيا ظهور عصبة الأمم عقب الحرب العالمية الأولى ثم هيئة الأمم المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية وبالتالي اعتماد الميثاق العالمي لحقوق الانسان سنة 1948، واعتماد العهدين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية سنة 1966.

10 – هذه النتائج السياسية الثورية الناتجة عن المعارضة الماركسية ستتجند لها قوى الثورة المضادة الامبريالية إيديولوجيا وعسكريا واقتصاديا واجتماعيا، هدفها تدمير الفكر الماركسي اللينيني ومبادئ الاشتراكية والشيوعية التي تتضمنه. وقد شهد العالم سلسلة من الاعتقالات والمتابعات والاغتيالات الماكارتية في الولايات المتحدة الامريكية وفي العالم منذ عقد الخمسينات والتي طالت حتى الفنانين والمثقفين والمخرجين السينمائيين. كما اصبحت المهمة الأساسي للمئات من المجلات والقنوات الإذاعية والتلفزية الرأسمالية هو تشويه الفكر الماركسي والشيوعي. كما جندت الامبريالية الإسلام السياسي الراديكالي كالفكر الوهابي لمحاربة الشيوعية في الاتحاد السوفياتي انطلاقا من أفغانستان ومحاربة القوى التقدمية في البلدان المغاربية والعربية وتعميم نمط الدولة العربية الإسلامية الطبقية والشوفينية في هذه المنطقة. كما صاحب هذه الثورة المضادة في المغرب العديد من الاختطافات والاعتقالات والتعذيب خلال ما عرف بسنوات الجمر والرصاص خارج القانون وخارج منظومة حقوق الانسان التي تمت المصادقة عليها وخارج المبادئ التي تم ادماجها في الدستور وفي القوانين الوضعية.

11 – لقد اثمرت الثورة المضادة تدمير الاتحاد السوفياتي منذ اغتيال جوزيف ستالين سنة 1953 وتشويه سمعته وتسييد التحريفية السوفييتية وجعل التلفيقات الايديولوجية مرادفا للماركسية اللينينية وللشيوعية والاشتراكية مما عمق في أذهان الطبقات الكادحة صورة مخالفة لحقيقة هذا الفكر التحرري. كما ساهم تحول القيادات الثورية في البلدان المستقلة بفعل تغير الأجيال وتحت الضغط والافساد الامبريالي، الى بيروقراطيات ومافيات تعمل على تفقير واضطهاد شعوبها باسم مبادئ الثورة نفسها كما حدث في سوريا العراق ومصر وليبيا وقد رأينا نماذج من هذه الثورة المضادة في انقلاب كل من موبوتو سيسيسيكو في الكونغو سنة 1961 على الاشتراكي المنتخب ديموقراطيا باتريس لومومبا وانقلاب أوغيستو بينوشي على الاشتراكي المنتخب ديموقراطيا أيضا سالفادور اليندي سنة 1973، وحيث وقفت الامبريالية بشكل مكشوف وراء الانقلابين، وحيث اخضع النظامين الشعبين لعقود من الدكتاتورية والوحشية والافقار الرأسمالي للجماهير الكادحة.

12 –ويكفي في المغرب التذكير بالاعتقالات السياسية والاختفاءات القسرية خلال سنوات الرصاص لعقدي الستينات والسبعينات، وخاصة تلك التي طالت الحركة الماركسية اللينينية. ورغم التحولات العالمية وانهيار المنظومة الاشتراكية فقد ظل قانون الافقار الاقتصادي والاجتماعي متواصلا والمعارضة السياسية لهذا القانون في تزايد مطرد كما شاهدنا الاعتقالات التي طالت نشطاء حراك الريف على الخصوص كنوع من الاحتجاج على الافقار والتهميش واستمرار تطبيق احكام الظهير العسكري على منطقة الريف، وحيث افرزت هذه الاعتقالات احكاما خيالية بالسجن على نشطاء الحراك تصل الى 20 سنة وهي محاولة لردع أي شكل من أشكال الاحتجاج مستقبلا على مسلسل الافقار والتهميش الذي تعرفه مختلف المناطق بالمغرب.

13 – لم تثمر مصادقة المغرب على العهدين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية سنة 1979 عن أي تحسن في مجال الاعتقال السياسي والحريات المدنية أو في مجال الافقار الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ويكفي هنا الإشارة الى المراتب المتأخرة التي يسجلها المغرب في مجال التنمية البشرية والتخلف الذي يعرفه قطاعي التعليم والصحة. فالعلاقة الجدلية بين الافقار الاقتصادي والاجتماعي والمعارضة السياسية كواجهة للصراع الطبقي ثابتة في بلادنا، وهي نفس المسببات الرئيسية للقمع وللاعتقال السياسي، والتي تجعل منه اعتقالا طبقيا كمحرك للمنظمات الحقوقية الجادة لكي تناضل بشكل رئيسي من أجل دفع الدولة الى احترام تعهداتها في مجال حقوق الانسان. وهذا ما جعل هذه المنظمات الحقوقية الى أن تتحول الى جزء من المعارضة الشعبية المزعجة للتيارات المتحكمة في أجهزة الدولة القمعية، مما يؤدي في المقابل الى عرقلة عمل هذه المنظمات الحقوقية واعتبارها عدوا للطبقات الحاكمة، وهو ما يفسر امتناع مصالح وزارة الداخلية عن تسلم الوثائق القانونية لحوالي سبعين في المائة من هذه المنظمات، خاصة منذ ظهور حركة 20 فبراير سنة 2011 وتنصيب حكومة الإسلام السياسي التي اجهزت على ما تبقى من حقوق وحريات.

النضال الحقوقي في مواجهة الافقار النسبي والمطلق للكادحين
14 – لم يتوقف نمط الإنتاج الرأسمالي المعتمد في المغرب منذ عقد الستينات عن متابعة عملية "التراكم البدائي لرأس المال" وهي العملية التي تتطلب على الخصوص مصادرة أجود الأراضي، كما حدث لأراضي أولاد خليفة سنة 1970 وعدم ارجاع أراضي المعمرين الى أصحابها عقب الاستقلال الشكلي بل تمريرها الى شركتي صوديا وسوجيطا الحكوميتين مرحليا قبل إعادة توزيعها على الاعيان من كبار الملاكين العقاريين. وهي العملية التي تستهدف حاليا 15 مليون هكتار من أراضي الجموع حيث تقطن العديد من القبائل الامازيغية والتي شاهدنا حدوث بعضا من كوارثها في عدة مناطق من المغرب، خاصة في منطقة تارودانت وبني ملال ومنطقة الناضور وغيرها. فهذا الأسلوب من التراكم البدائي لرأس المال يؤدي بشكل مباشر الى الافقار والى الهجرة القروية للفلاحين لتعزيز الجيش الاحتياطي للعمل في هوامش المدن المكتظة بالسكن العشوائي، بعد أن يفقدوا أراضيهم الفلاحية كوسيلة أساسية للإنتاج. فهذا الافقار الممنهج، انتج ولا زال ينتج بالضرورة اشكالا من المعارضة السياسية المعتدلة والراديكالية، وهو بالضبط ما يؤدي الى بالضرورة أيضا الى الاعتقال السياسي وكافة تبعاته وتجاوزاته لمبادئ حقوق الانسان الواردة في المواثيق الدولية المصادق عليها والتي تنص عليها أيضا عددا من القوانين المغربية فيجعلها مجرد حبر على ورق.

15 – هناك إذن شكلان من اشكال الافقار الذي تنتجه السياسات الطبقية، منها أولا الافقار النسبي الذي يتم أولا عن طريق نهب الأراضي وتحويل الساكنة القروية الى جيش احتياطي للعمل في هوامش المدن تعيش ظاهرة العطالة والفقر ثم ثانيا من خلال مرونة القوانين الشغلية التي تحابي اشكال الاستغلال الرأسمالي للطبقة العاملة وحيث لا تتجاوز الأجور المتدنية الموزعة مستوى الكفاية اليومية تكفي فقط لإعادة انتاج قوة العمل المغترب للعامل ودفعه للعودة من جديد الى عبوديته الطوعية المأجورة. ففقدان وسائل الإنتاج وحب المحافظة على الذات خوفا من الموت جوعا تجعل الطبقة العاملة مغتربة خنوعة لمتطلبات الطبقة الرأسمالية التي تعتصر من قوة عملها معدلات مرتفعة من فائضها الإنتاجي المطلق، وحيث يغتني الرأسمالي مع الزمن بينما يفتقر العامل مع الزمن أيضا بسبب التضخم وغلاء الحاجيات الأساسية لمعيشته.

16 – الى جانب هذا الافقار النسبي المنهجي للطبقة العاملة، والذي يشكل قاعدة ضرورية لظهور المعارضة السياسية المعتدلة والراديكالية وبالتالي أساسا حتميا للصراع الطبقي بين البروليتاريا والطبقة الرأسمالية المهيمنة، ويدفع أجهزة الدولة الى مواجهة هذه الاشكال من المعارضة السياسية عن طريق القمع والاعتقال السياسي والاحكام القضائية بالسجن لسنوات طويلة وحيث يمكن في هذا المجال تلفيق التهم وتشويه سمعة المعارضين السياسيين؛ هناك أيضا الافقار المطلق الناجم عن سياسة التراكم البدائي لرأس المال التي شهدنا بعضا من نماذجها، والذي طال مرافق التعليم والصحة والثقافة بشكل عام، سواء عن طريق الخوصصة وتسليع هذه الحقوق الأساسية أو عن طريق الاعلام المبتدل حيث تستفرد القنوات التلفزية ببرامج تمطر العامل واسرته عند عودته منهكا الى بيته والاستلقاء للاستراحة من التعب اليومي امام التلفزة، ببرامج دينية مؤدلجة ومهرجانات غنائية وسكيتشات مبتدلة وافراغ المكتبات ومعارض الكتب من الكتب الفكرية والعلمية واستبدالها بالكتب المائعة أو بالكتب الدينية الرخيصة. فضرب مستوى التعليم والثقافة والمرافق العمومية يشكل ما يسمى بالافقار المطلق، وهو الافقار الذي يخرب ثقافة الشعوب واخلاقها ويرفع من حدة الأمراض العصبية وسط الطبقة العاملة ويدفع نحو تفشي ظاهرة الانتحار أو الجنون كما يدفع نحو ارتفاع نسبة الجرائم أوالسقوط في براثين المنظمات الإرهابية.

النضال الحقوقي في مواجهة الاعتقال السياسي وتبعاته
17 – شكل الاعتقال السياسي والاختطافات والاعدامات خارج القانون أساليب وممارسات سلطوية لتصفية المعارضة السياسية الراديكالية، وهو ما أحدث فراغا كبيرا في الساحة السياسية المغربية أواخر عقد السبعينات، وهو بالضبط تاريخ مصادقة المغرب على العهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أي سنة 1979. كما شكل هذا التاريخ نفسه منطلق تأسيس الجمعية المغربية لحقوق الانسان كملجأ لبقايا المعارضة السياسية التي تم التنكيل بها، لمواجهة الافقار والاعتقال السياسي حقوقيا والعمل على الارتقاء بثقافة حقوق الانسان بين التلاميذ والشباب والجماهير العمالية لتسليحها بإيديولوجية حقوقية لضمان استمرار المقاومة الطبقية. وقد شهدنا بعضا من تأثير هذا الشكل الجديد من الصراع الطبقي الحقوقي خلال الانتفاضات المتعاقبة لسنوات 1981 و1984 و1990 كرد فعل على قوانين الافقار المعتمدة والتي راح ضحيتها المئات من الشهداء المحتجين والمعتقلين السياسيين.

18 – لكن استمرار الاعتقال السياسي والقمع المباشر للمعارضة السياسية الراديكالية وشراء ذمة الأحزاب السياسية والمركزيات النقابية لتحويلها الى مدافع رئيسي عن سياسات الافقار والاعتقال السياسي، حيث شاهدنا سنة 2016 كيف خرجت الأحزاب الحكومية بيمينها ويسارها واسلامييها، ببلاغات تتهم كذبا نشطاء حراك الريف بالعمالة الأجنبية، وهو ما شجع القضاء على اصدار احكام سريالية على هؤلاء النشطاء، الذين طالبو فقط بمستشفيات وبمدارس وبرفع التهميش والبطالة والافقار والقمع عن منطقة الريف. كما لجأت الدولة في مواجهة معارضة المنظمات الحقوقية لانتهاكاتها الى تأسيس المجلس الوطني لحقوق الانسان كجهاز دولتي مهمته تبرير الممارسات القمعية والاعتقال السياسي. بل عملت أجهزة وزارة الداخلية على منع الوصولات القانونية عن الجمعيات الحقوقية وفروعها من اجل رفع الحصانة عن انشطتها الحقوقية وتعريضها بالتالي للقمع والاعتقال المجاني.

19 – ودون السقوط في اعتبار العمل الحقوقي كهدف نهائي للصراع الطبقي أو كوسيلة منفردة لمواجهة الافقار النسبي والمطلق ومواجهة الاعتقال السياسي وتبعاته، ودون تجاهل ان منظومة حقوق الانسان انتجتها الثورة البلشفية من جهة ورغبة المعسكر الرأسمالي حماية نفسه من الثورات العمالية وإيجاد توازن مع المعسكر الاشتراكي، مع المحافظة على اهم آلية لاغتراب العمال واستغلالهم وهي ما يسمى ب "حق الملكية الخاصة" الذي تم اضفاء طابع "القداسة" عليه وتم فرضه داخل الدساتير، فوعيا بكافة هذه الحقائق، لا يمنع من الاستعمال التاكتيكي لهذه الحقوق المعممة عالميا لمواجهة قانون الافقار الممنهج والاعتقال السياسي المرتبط به، من اجل تسليح الطبقة العاملة لمواصلة صراعها الطبقي ضد الطبقة التي تستغلها ومن اجل مواجهة اغترابها في طريق تحررها الفعلي.