مُبادرة يلا نتفلسف: هيا نُسخّف أداة من أدوات التغيير


مالك ابوعليا
2021 / 12 / 15 - 00:20     

مالك أبوعليا

إنطلقت في 28 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، وبمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، مُبادرة "يلا نتفلسف" التي نظمها قسم الفلسفة في الجامعة الأُردنية، لقد تابعت فعالياتها، وكان لا بد من التعليق عليها.

تجلّت في مُحاضرات "يلا نتفلسف" المُقاربة الميتافيزيقية لمفهوم الفلسفة، وبشكل رئيسي في غياب أي مُقاربة تاريخية أصيلة لها، وعدم القدرة على فهم جدل العمليات التاريخية الحقيقي، لتداخل وتفاعل المذاهب من جهة، بين الفلسفة والعلوم الطبيعية والاجتماعية الخاصة من جِهةٍ أُخرى. إن تطور الفلسفة التاريخي هو عملية مُعقدة ومُتناقضة بشكلٍ كبير. كان هناك تغيّر مُستمر في موضوع الفلسفة وأسئلتها وفي طبيعة الإجابات عليها، وهناك من جهةٍ أُخرى تاريخ صراع لا مُنتهٍ بين التيارات الفلسفية المتنوعة، والذي تم التعبير عنه قبل كل شيء في الصراع بين الاتجاهين الفلسفيين الرئيسيين والمتناحرين-المادي والمثالي. وَجَدَ هذا الصراع تعبيراً عنه في نفس التفسيرات التي توضَع لتعريف ماهية الفلسفة.

تجلّت في المُحاضرات كذلك نزعة التعاطي مع الفلسفة كأنها مذهب واحد، أو علم واحد، وكأنها "فلسفة" بوصفها كذلك، دون الإشارة (الإشارة كانت غامضة من قِبَل أحد المُحاضرين) بأن الفلسفة تُعبّر عن مصالح طبقية حزبية في نهاية المطاف.

لم تكن الفلسفة يوماً ما مُحايدة. الفلسفة حزبية، وهي تنطلق في تقييمها للأحداث من مصالح فئات إجتماعية معينة. ولكن هناك كثير من الفلاسفة ممن يجسدون أيديولوجية الطبقة السائدة ومصالحها يحاولون إخفاء انتمائهم الطبقي هذا، فيعلنون فلسفتهم فوق طبقية أو فوق حزبية ويصورونها حقيقة إنسانية مُطلقة.

منذ منتصف القرن العشرين وقفت منظومة الدول الاشتراكية بمؤسساتها السياسية والأكاديمية مُدافعةً عن الطبقة العاملة والشعوب المُضطهدة، وكانت تتزايد حدة الصراع الفلسفي-الأيديولوجي ما بين منظومة اقتصادية-اجتماعية رفعت الإنسان الى ذُرى الحُرية والعدالة الاجتماعية، ونظام رأسمالي استعماري قتل البشر ودمّر الكوكب. ولكن ما لبثت أن إنتصرت الثورة المضادة في دول المنظومة الاشتراكية، وساد العالم بعدها ظلام دامس يلف بظلاله الشعوب المسحوقة، يقفون وسطه يتلقون الهزائم تلو الأُخرى ليس هنالك من يُدافع عنهم من بطش النظام الرأسمالي. وبهذا، كان إنحياز الفلسفة واضحاً وقتها، حيث الفلسفة الماركسية التي أعلنت انحيازها الواضع للشعوب المسحوقة من جهة، والفلسفة البرجوازية أو ظلالها الشاحبة في منطقتنا العربية ولا سِيَما في الأُردن، بشكلها المستورد، والتي حاوت، ولا زالت تُحاول، إخفاء طبيعتها الطبقية، من جهةٍ أُخرى. اليوم وبعد انتشار وسطوة الفلسفة البرجوازية لم يعد هذا الوضوح غالباً، حيث سادت سيطرة النظرة إلى الفلسفة كونها علماً مُحايداً، والتي تعني (أي الفلسفة) حسب الدكتور رامي نفّاع في محاضرته "لماذا نتفلسف" التي أتت في سياق الفعالية المذكورة: " كل ما يفعله الإنسان هو أفعال تفلسفية. إستخدام عقل الإنسان بحد ذاته هو الفلسفة". الفلسفة هنا توضع في إطار جد فضفاض للغاية، وتُفصَل عن الانحياز الطبقي الذي لازمها منذ إنقسام المُجتمع إلى طبقات تاريخياً.

إن المذاهب الفلسفية بوصفها تعبيراً حتمياً عن أيديولوجية ومصالح هذه أو تلك من الطبقات والفئات الاجتماعية، فإنها تُعنى بالبحث عن أسس الحياة الاجتماعية وأسباب تغيرها، فهي تدرس تطور المُجتمع الإنساني والقوانين التي تحكمه وما إذا كانت هذه القوانين موضوعية أم أن التطور الاجتماعي رهن بإرادة الناس ووعيهم أو رهن بمشيئة هذا الفرد أو ذاك.

من المُحبب تماماً لأنصار الفلسفة البرجوازية، وأنصار نسختها المُستوردة الشاحبة في الأُردن كذلك، أن يُظهروا الفلسفة على أنها علم عام، وأنها فكر ينتمي إلى عقل هذا المفكر أم ذلك. إن كل الفلسفات السابقة على الماركسية واللاماركسية تشارك في وهم الحياد. ولذلك من المفهوم تماماً أن "تمرد" الفلسفة الماركسية التي تكشف الانحياز الحقيقي للفلسفة، ومن ثم هي تُعلن انحيازها للطبقة العاملة والجماهير المسحوقة، نقول أن هذا "التمرد" على هذا التقليد الفلسفي القديم قد هاجمه خصوم الماركسية أيما هجوم واعتبروا أن هذا الكشف عن الجوهر الطبقي للفلسفة هو خروج عن "طبيعتها".
إن العِلموية في الفلسفة هي واحدة من أُسس جعلها "علماً عقلياً عاماً"، ويظهر هذا كَسِمة بارزة في مُحاضرات "يلا نتفلسف"، وهي (هذه العِلموية) تتخذ طابعاً خاصاً في تدريسها في الجامعة الأُردنية. يتوجب أن تكون الفلسفة، حسب هذه العِلموية، نظاماً (حيادياً)، وهي بذلك تقف خارج الأيديولوجيا والسياسة، والصراع الطبقي. وينبغي على هذه الفلسفة "العقلية" (حسب وصف دكاترة قسم الفلسفة في الجامعة الأُردنية) أن تخدم جميع الناس بغض النظر عن وجهات نظرهم السياسية والدينية، وبغض النظر عن مصالحهم الطبقية، إلخ -كما تفعل العلوم الطبيعية.

وتتضمن العلموية كذلك أن وسيلة التقدم الحضاري هي في تداول "أحدث" النظريات العلمية في الكيمياء والرياضيات والفيزياء والبيولوجيا وتعليمها دون التعرض للأسس الفلسفية التي تقوم عليه هذه النظريات. ففي الجامعات، لا معنى للتطور البيولوجي للكائنات الحية على سبيل المثال، سوى أنها "تتكيف مع مُحيطها"، وليس أن نظرية التطور قد أثرت على النظريات الفلسفية، وأنها تعارضت بشكلٍ مُباشر مع النظرية الدينية للخلق.

ويُلاحظ المُتابع لمُحاضرات مُبادرة "يلا نتفلسف" غَلَبَة مفهوم كون الفلسفة فعلاً "عقلياً"، وفي أحيان أُخرى، فعلاً "عقلياً نقدياً" عليها. فعلى سبيل المثال أشار الدكتور ضرار بني ياسين رئيس قسم الفلسفة في الجامعة الأُردنية إلى "أن وظيفة الفلسفة الأساسية تتمثل بمساعدتنا على أن نكون أكثر دقة في بناء أفكارنا، وأكثر وضوحًا في استعمالها، وفي مخاطبة الذات، والحوار مع الآخر، والتعبير عن أنفسنا، فهي تتوسط بين العقل والأفكار والمعرفة". وفي افتتاح مُبادرة "يلا نتفلسف" قالت إحدى المُتحدثات أن التفلسف هو "التفكير النقدي واستخدم العقل كحكم على ما نقبل ونرفض. التفلسف هو تحرير الفكر من أساليب التضليل والقبول الأعمى للشائعات. إنه تحررٌ من الجهل، إنه بحثٌ عن الحقيقة. إذًا فالتفلسف ضرورة لكل إنسان، ولكل طالبٍ جامعي". ويقول الدكتور رامي نفاع في محاضرته "أهم وظيفة للفلسفة هي النقد". وبالرغم من هذه "النقدية" ومع الاشارة الى أهمية "العقل النقدي"، كان يَغلُبُ على طابع المبادرة الألقاب السامية من "معالي وعطوفة" وغيرها، ومع أن الفلسفة "عقل نقدي" حسب مفهومهم، إلا أنه في نفس الوقت "هذه الفلسفة لا تتعدى على ثوابتنا الوطنية وتُحافظ على موروثنا الحضاري والإسلامي والمسيحي" حسب الدكتور عبيدات!

ومما يتبين من مُحاضرات مبادرة "يلا نتفلسف" أنها ترى النقد مُجرّد طرحاً لمُشكلة ما، وإيراد حلاً لها، هكذا وببساطة. حيث التناول المُسطّح للمسائل وردها إلى عامل وحيد من بين مجموعة عوامل مُتعددة متساوية في الأهمية، ويجري تكريس هذا العامل الذي أُختير تعسفياً بأنه حل لجميع المشاكل مثل القول بغياب الفكر العلمي، أو الابتعاد عن الدين أو الافراط في استخدام التكنولوجيا، (مثلاً، تقول الدكتورة أماني جرّار أنه "من أهم عوائق التنمية هو انخفاض مستوى الوعي لدى الأفراد" وأن "قلة الاهتمام بالتنمية هي سبب عدم نجاح برامج التنمية والفلسفة في دول العالم الثالث"). وهذا بحث يتبدى على السطح أنه بحث فلسفي "نقدي" ولكنه بعيد كل البعد عن التحليل الشامل للسياق الاجتماعي-الاقتصادي التاريخي، ليستعيض عنه بالتقريع والوعظ.

إن أساس فكرة كون الفلسفة "تفكيراً ناقداً" يكمن في الواقع التالي: منذ منتصف القرن العشرين، انحاز النظام السياسي الأُردني الى جانب القوى الإمبريالية في حربهم الباردة المُعادية لدول المنظومة الاشتراكية. وبذلك، كان لا بد من القيام بإجراءات مُتعددة منها تغيير محتوى النظام التعليمي بما يتلائم مع الفكر الظلامي لقوى الإسلام السياسي التي وَقَفت رأس حربة، من بين القوى السياسية اليمينية الأُخرى، لخوض الصراع ضد قوى التحرر الوطنية والعربية، والتي كانت بنظرهم جزء من النفوذ السوفييتي في المنطقة. تغلغلت قوى الإسلام السياسي في الوزارات التعليمية، وكان يُعبّر عنها الدكتور اسحاق الفرحان، حيث أُلغِيَت مادة الفلسفة من المقررات التعليمية عام 1976. وحين استلم الفرحان رئاسة الجامعة الأُردنية منذ عام 1976-1978 قام بالإضافة الى ذلك، بتعطيل قسم الفلسفة في الجامعة الأُردنية. وعلى هذا، لاحظ نُخبة الأساتذة في الجامعة الأُردنية هذا الواقع، الذي أدى في نهاية المطاف إلى تغلغل الفكر اللاهوتي في المدارس والجامعات، ولاحظوا سطوة السلفية الدينية. دَرَسَ أساتذة الجامعات الفلسفة البرجوازية، ولاحظوا تاريخ الصراع بين العقلانية واللاعقلانية في الفلسفة، ولاحظوا بروز حركات الإصلاح الديني في أوروبا، وعلى أساس هذا كان لا بد لهم من طرح مسألة النقد العقلي في مواجهة ما رأوه من عقلية سلفية في المُجتمع. إن مفهوم الفلسفة بأنها الشك والعقل النقدي هو مفهوم برجوازي تنويري. قال مونتينير وبيير بايل بأن البحث عن الحقيقة حتى النهاية هو مغزى الفلسفة. ولم يكن فرانسيس بيكون وديكارت بعيدين عن هذا المفهوم. فقد اعتبرا أن فلسفة الطبيعة، أو المعرفة حول الطبيعة هي أرقى أنواع المعارف. إن هذا الفهم التنويري لمعنى الفلسفة لهو فهم تقدمي بالمقارنة مع نظرة اللاهوت للعلوم، فما بالك بأم تلك العلوم. ولكن بالاضافة إلى ذلك، هذه النظرة السائدة في مُجتمعٍ أغرقته ذو بناء اقتصادي-اجتماعي مُتخلّف وتابع للإستعمار، لهو دليل على استيراد لا طائل منه للأفكار. ففي سياق تطور الرأسمالية في أوروبا كانت النظرة إلى الفلسفة على أنها نظرة عقلية شكية إلى المُجتمع والطبيعة نابعة من ضرورة الصراع ضد الإقطاع، والكنيسة الكاثوليكية في سياق ثورة برجوازية، ولكن عن ماذا تُعبّر هذه النظرة في سياق مُجتمع طرفي يغرق في التفكير الغيبي حتى أُذنيه؟ إنها مُحاولة سطحية لتنوير الناس بالشك والعقل، بطريقة مُبتذلة، بالانعزال عن مهام الانعتاق للتبعية الإمبريالية، والإصلاح الديني، ومهام تحرير الإنتاج المعرفي من مراكز الهيمنة السياسية، وبعيداً عن الفلسفة المادية الجدلية، والمؤسسات الاجتماعية والقوى المُناضلة ضد الإمبريالية.

ترتأي المُحاضرات الفلسفية لمبادرة "يلا نتفلسف" إلى حث الناس على التفلسف ونشر الفكر "الفلسفي" أي نشر "الوعي النقدي" -حسب مفهوم أساتذة الجامعة الأردنية له- أياً كان نمطه وشكله، فنيتشه وشوبنهاور، هما فلاسفة كما هو الحال بالنسبة الى لوك وهوبز وديكارت، وكما هو الحال بالنسبة إلى ماركس وانجلز ولينين. ونشر الفكر الفلسفي هنا يجب أن يجري كذلك بطريقة تصل حد الابتذال والسُخف. ففي افتتاحية المُبادرة قالت إحدى المُتحدثات "والجدير بالذكر (هل هذا جدير بالذكر فعلاً؟-مالك أبوعليا) أن شجر الجامعة الأردنية قد تزيّنَ بعباراتٍ فلسفية. والجميل أيضاً أن أكشاك الجامعة تبيع قهوتها بأطباق كرتونية تزيّنَت بأقوال فلسفية عليها شعار يلا نتفلسف". ويرى نذير عبيدات في أن يقوم طلبة كلية الفلسفة بالذهاب الى زملائهم وتعليمهم الفلسفة، طريقةً في نشرها، حيث وجّه حديثه للطلبة قائلاً: "اذهبوا وانشروا مقولتكم، وأشيعوا بين زملائكم أيها الطلبة مفهوم الفلسفة التي تُنشّط العقل وتبني جيلاً أكثر وعياً ودراية". وللقارئ وحده أن يحكم على هذا.

وفيما يتعلق بماهية الفلسفة، والتي كان مُعظم أساتذة الجامعة الأردنية يقولون عنها بأنها "نقداً عقلياً"، فإنه ان كانت المسائل الفلسفية الأساسية، والتي كانت خطًأ يتخلل كل تاريخ الفلسفة، هي علاقة ما هو مادي بما هو روحي، والسؤال عن إمكانية معرفة العالم، فإن مسألة (ما هي الفلسفة) هي مسألة متعلقة بعلم تاريخ الفلسفة. هذا السؤال متعلق مبدأياً بالتعرف على الفرق بين الفلسفة والعلوم الطبيعية والاجتماعية الأُخرى. إن الإجابة على هذ السؤال يتطلب إجراء دراسة نقدية وبحث لتطور الفلسفة تاريخياً من أجل تحديد موقعها الاجتماعي في كل فترة تاريخية ومعرفة المسائل التي طرحتها في كلٍ من تلك الفترات. إن المركز الذي تحتله الفلسفة في تاريخ التطور الفكري للإنسان يتحدد بدرجة غير صغيرة بكونها شكلاً من أشكال الوعي الاجتماعي وبحثاً على السواء، وهي في هذا الجانب الأخير تُماثل، من حيث المبدأ، أي علم آخر.
الوعي بالوجود الاجتماعي ينطوي على معرفة به، ولكنه ليس بعد وعياً علمياً. لقد جمعت الفلسفة كل الثروة المعرفية والنظرية للأجيال الماضية والفلسفة تُشكّل انعكاس لمشهدٍ عريض لتاريخ الإنسانية بشكلٍ عام. كما ويُظهِر تاريخ الفلسفة كيف تطورت معرفة العالم، وهذا يُساعدنا في فهم كيف أن الحركة الجدلية للتفكير تتقدم بالترافق مع اتساع المعرفة الإنسانية، وبارتباطها الوثيق بالنشاط العملي وتغير المُجتمع تاريخياً. إن الفكر الفلسفي هو فكر منطقي، يتطلب صيغاً منطقية مُعينة، ويستخدم المقولات والمفاهيم التي تتم من خلالها عملية المعرفة، ويفترض الإلمام بالقوانين التي تحتكم تطور التفكير البشري. لذا، فإن قضايا التفكير المنطقي تدخل أيضاً في عداد أهم المسائل الفلسفية. ولكن الفلسفة لا تقتصر فقط على كونها تفكيراً منطقياً أو أنها تتضمن البحث المنطقي في ثناياها (بالاضافة إلى ذلك كان هناك فلسفات لاهوتية تتضمن عناصر الغيب (اللاعقل) في محتواها)، فهي من حيث الأساس نوع من أنواع معرفة الإنسان للعالم، إنها مُجمل الآراء والتصورات عن القضايا العامة لتطور الوجود الاجتماعي والطبيعي ولتطور الوعي، وهي نظرة مُحددة إلى العالم، تتميز بكونها مأخوذةً في اتساعها الشامل، وتتأثر وتؤثر بمنجزات العلوم الطبيعية، وتتغير تاريخياً تبعاً لتغير المرحلة التاريخية المُعطاة. إن الاجابة عن مسألة ماهية الفلسفة تتطلب دراسةً عميقةً لمجمل تاريخ تطور الفلسفة، ولا يُمكن أن تكون هناك إجابة نابعة ببساطة من تعريف فلسفات مُعينة في هذا العصر أو ذاك لماهية الفلسفة.

وفي سياقٍ مُتصل، كانت هناك مُحاولة إلى تذويب الفلسفة في الوعي اليومي، وهي نابعة من مفهومهم عن الفلسفة بأنها "حضور العقل". إن كل تفكير وأي تفكير يومي هو تفلسف. والفرق بين الفلسفة والتفلسف عند الدكتور رامي نفاع في مُحاضرته المذكورة أعلاه بأن الأولى لاواعية والثانية واعية وأرقى من الأولى". يقول نفّاع: التفلسف هو فعل لا إرداي بوصف الفلسفة جزء رئيس من مكونات طبيعة الإنسان. وهي مُرتبطة بلاوعي الإنسان". وهنا "العقل" حاضر عند الجميع، حتى عند الذهاب إلى السوق: ""عندما ينزل الإنسان الى السوق يستخدم عمليات عقلية مثل المقارنة والتذكر. مقارنة الأسعار وجودة الأشياء، وهذا من ضمنالا الفلسفة"، وما علينا، حسب الدكتور نفاع، إلا أن نجعله واعياً، أي أن نُمارس الفلسفة.

في الحقيقة، كانت السمة النوعية للفلسفة تاريخياً، تفهم على أنها تميزها عن المعرفة المُستقاة من الحياة اليومية والتطبيقية. كان الفلاسفة اليونانيون الأوائل يُعملون فكرهم في بحث كل ما هو ظاهر لهم عن طريق المُلاحظة، وكانوا كذلك، يناضلون ضد أفكار الناس الغيبية. وفي نفس الوقت، لا توجد معارضة مطلقة بين الوعي اليومي والفلسفي والعلمي. حيث أن الوعي اليومي لا يُوجد في عزلة، وهو اليوم ليس كما قبل مئة عام، إنه يتطور، ولكنه لا يختفي، وتنشأ أشكال جديدة منه بنشوء وتطور الحياة الاجتماعية. إنه يتأثر بالثقافة والتعليم، وتجد المفاهيم العلمية المتباينة في مدى دقتها- طريقها إليه للاندماج في بُناه المعرفية والمسلكية، ويظل وعياً يومياً مع ذلك. ينطبق نفس الشيء على الخبرة اليومية الشائعة المحدودة مقارنةً بالخبرة الخاصة بالعلم وبالفلسفة كذلك. يستوعب الوعي اليومي الخبرة والمعارف وأفكاراً علمية وفلسفية معينة، يستخدمها الناس كقوالب نمطية من أجل اختيار طريقهم في مجال مهنهم ومصالحهم اليومية وغير المهنية.

لقد تغير الوعي الديني اليومي في المجتمعات الأوروبية (على الرغم من أنه لم ينقرض طبعاً)، مثلًا، لا أحد يعتقد أن الله خلق العالم في ستة أيام. في منطقتنا المتخلفة، الوضع يختلف، الوعي الغيبي بمؤسساته مقاتل شرس. على الرغم من أن التكنولوجيا والعلم تتغلغل جميع جوانب حياة الناس، إلا أن الوعي الديني لا يزال يسيطر بقوة. وتنتقل المعارف التكنولوجية -بعيداً عن كونها معارف جامعية متخخصة مهنياً- إلى تصنيفات إعلامية مبتذلة، فتوضع أخبار العلوم والتكنولوجيا مع أخبار الترفيه والتسالي في المنتديات، وتصير تلك المعارف جزء من التسلية التي يقرأها الناس بحكم انتشارها (مواقع التواصل الاجتماعي). لقد أدى التعامل مع العلم دون إدراك طبيعته التاريخية إلى أن تحوّل العلم إلى مادة إخبارية ولحظية قائمة بذاتها، وتكون الصفحات العلمية، والقنوات العلمية محملة بشحنة ضخمة من المعلومات التي لا يتم ربطها بالنظرة إلى العالم (النظرة الفلسفية المادية العلمية). وهكذا، فعلم الكونيات والمكتشفات ليس له علاقة بوحدة العالم المادية، والبرامج الوثائقية حول الطبيعة، لا تذكر شيئاً عن التطور. والحديث عن فرضية النيازك التي حملت المياه الى الأرض لا يذكر أي شيء يخص انتقال المادة غير الحية إلى المادة الحية.

وانطلاقاً من مقولة أن الكل يفكر، وبالتالي الكل "يتفلسف"، فإن الأسئلة الفلسفية حسب الدكتور رامي نفاع هي "أسئلة طفولية" تُنغّص على الأبوين حياتهما اليومية... وهي مدخل التفلسف". وليس الأمر أن الدكتور رامي نفّاع ينطلق من حالة المُجتمعات النامية والعربية على الأخص التي لا تسمح فيها التقاليد القديمة السائدة للأبوين بأن يُجيبا على بعض أسئلة ابنهما النابعة من تعرفه على الحياة الجديدة عليه، ويجعل منها نُقطة مُطلقة تنطبق على المُجتمعات كُلها، ان الدكتور نفّاع لا يُدرك أن المسائل الفلسفية تُطرَح من قِبَل الفيلسوف حسب سياق اجتماعي تاريخي مُحدد، ولا تُطرَح اعتباطاً، بل تكون مُرتبطة بمسائل علمية أو تاريخية أُخرى، وتنطلق من مصالح الطبقة الاجتماعية التي يُمثلها الفيلسوف المعني. هذا يختلف تمام الاختلاف عن أسئلة الأطفال أثناء تعرفهم البدائي على العالم. الفلسفة هُنا تُقصَر على كونها دعوة لـ"البحث عن المعرفة"، ولكن أليست الرياضيات والفيزياء والسوسيولوجيا والبيولوجيا والكيمياء والسيكولوجيا بحثاً عن المعرفة كذلك؟

يُمكن للوعي اليومي أن يطرح أسئلة عديدة، ولكن ليس جميعها ذات طابع فلسفي (مقارنة أسعار الخضروات مثلاً حسب الدكتور نفّاع)، فإن التفكير الاستذكاري وتوظيف المُقارنات ليس فلسفة ولا "تفلسفاً"، وليس مُقتصراً على الفلسفة وحتى "التفلسف"، بل هو جزء من عملية المعرفة لدى إشتباكها مع جميع المواضيع الطبيعية والاجتماعية كما هو سمة للفلسفة.

تنشأ الأسئلة حول الذاكرة والموت والحياة والخير والشر وأسباب سلوكيات الناس عن الخبرة اليومية، بمجرد أن يشرع المرء في تحليلها يكون بذلك قد انفصل عن التفسير الديني للأشياء، الذي يستبعد أي تساؤل مستقل وأي إجابات مستقلة. ولكن حينما يبدأ المرء بالإجابة على هذه التساؤلات بناءاً على الخبرة اليومية فإن هذه "فلسفة"، ولكن الخبرة اليومية محدودة للغاية ومن الضروري العودة الى الخبرة التاريخية الإنسانية التي تسلم أجيالها التي لا تُحصى معرفتها المُتراكمة جيلاً إلى الآخر، ويصبح من الضروري العودة إلى العلوم المتخصصة العديدة، لا سيما تاريخ الفلسفة للتعرف على أُسسها التجريبية والقاعدة الاجتماعية المبنية عليها.

وهكذا، صحيح أن المسائل الفلسفية في جزءٍ منها تنشأ عن الوعي اليومي، ولكن ما هو غير صحيح، أن نقوم بمُطابقة جميع مُحتوى الوعي اليومي بـ"التفلسف"، وأن ندعو الناس إلى أن يدرسوا الفلسفة (كطريقة لإعلاء شأن العقل) عن طريق الانتقال من "تفلسفهم" اليومي، إلى دراستها "الواعية"، مُتجاهلين سؤال عن أية فلسفة يجري الحديث؟ فلسفة من؟ لصالح من؟

وبالعودة الى سياق المُحاضرات، كان يدور حديث حول عدم تعارض الفلسفة مع الدين. هذا الاقرار هو جزء لا يتجزأ من وعي بعض المُحاضرين في مُبادرة "يلا نتفلسف". ومن أجل ان "يُطمأن" الناس المُستمعين للمحاضرات الفلسفية، يقول الدكتور نذير عبيدات رئيس الجامعة الأُردنية في افتتاحية المُبادرة: وأنّه لطالما شعر البعض بأنّ الفلسفة لا تتوافقُ مع الدّين، وهذا إن حصل، لا الدين أو الفلسفة مسؤولان عنه، بل إنّ بعض هفوات الفلاسفة شاركت في ذلك، إمّا عن قصد أو بغير قصد، حين قال بعض الفلاسفة إنّ الدين يُستَغلُّ لصالح بعض الفئات من النّاس، فاستغلَّه البعض ليضعوا حاجزا بين الفلسفة والدّين" . من الواضح تماماً أن الدكتور عبيدات لم يقرأ شيئاً في الفلسفة، ولم يدري بأن الفلسفة اليونانية كانت جُزءاً منها مُناهضةً للأساطير الدينية، ولا يعلم بأن كُتب ابن رُشد أُحرِقَت لأنه كان يُناهض التيار الأرثذوكسي السُنّي ويُطالب بإعمال العقل في الدين، ولم يدري بأن فلاسفة التنوير البرجوازيين قد كانوا مُلحدين وناضلوا ضد الكنيسة الإقطاعية الأوروبية.

يقول الفيلسوف الماركسي السوفييتي تيودور أويزرمان: "ويتفق ظهور الفلسفة القديمة مع فترة تشكّل المُجتمع الطبقي، عندما كانت الأساطير لا تزال الشكل السائد للوعي الاجتماعي. والواقع أن الفلاسفة الأوائل كانوا فلاسفة لمجرد أنهم دخلوا في صراع مع النظرة الأسطورية التقليدية إلى العالم ... أدى ظهور الفلسفة إلى الاستعاضة عن الأساطير والنبؤات الكهنوتية، بتفكير الإنسان ذاته في العالم والحياة الإنسانية مستقلاً عن أي سلطة دخيلة". "والمتتبع لتاريخ الفلسفة، يرى اتجاه الفلسفة الأولى-وهذا ما يُميز تطور الفلسفة ككل- لأن تُنزل "الحكمة السماوية إلى الأرض"(1) . وهكذا كانت الفلسفة في بدايتها صراع ضد النظرة الدينية إلى العالم، وصارت اتجاهاً عاماً للفلسفة المادية المُستندة إلى العلم، سواءاً عند ابن سينا والفارابي وابن رشد، وفلسفة التنوير في أوروبا المُناضلة ضد النظام الاقتصادي الاقطاعي.

ان نزعة توفيق الدين والعقل (بما هو فلسفة- برأي أكاديميي الجامعة الأردنية)- مُتأصلة في كل مناحي الحياة الاجتماعية والثقافية الأُردنية. حاول توما الأكويني الذي أعلن انسجام الدين والعقل، أن يثبت أن هذا الأخير، يخلص إلى وجود الله حتماً من خلال حقائق التجربة اليومية. على سبيل المثال، يتحرك الشيء لأن الحركة نُقلت إليه، وبالتالي وفقاً لتوما الاكويني، الاستنتاج المنطقي أنه يستحيل أن يتحرك جسم بدون أن يُحركه جسم متحرك، ولكن المُحرك في حد ذاته في حركة، وهذا أيضاً لديه محرك خاص به. لا يمكن لهذه السلسلة أن تكون بلانهاية لأنه في تلك الحالة لا حركة يمكن إن يكون لها بداية في الوقت. وبالتالي يجب أن يكون هناك شيء ما ينقل الحركة في حين يكون نفسه بلا أية حركة، أي المسبب الأول. ويؤكّد الوعي الشعبي والمحافل الإعلامية بأن "الله ما شفناه ولكن بالعقل عرفناه"، وبأن العقل-وهو العلم وأحياناً الفلسفة- والدين يتوافقان تماماً.
وفي إجابته على سؤال أحد مُستمعي المُحاضرة حول "خطر الإلحاد" يؤكّد الدكتور نفاع أنه لا يوجد أي تعارض بين الدين والعلم. فـ"وجود مستشفيات تعود ملكيتها إلى مؤسسات مسيحية ومسلمة يؤكد عدم تعارض الدين مع العلم"، وأن نشوء "أهم العلوم من خلال علماء عرب ومسلمين مثل الكيمياء والطب والبصريات يؤكد عدم تعارض الدين مع العلم". ولكن ينشأ السؤال، هل كان علم البصريات لابن الهيثم نابعاً من النصوص الدينية، أم أنه كان نابعاً من بحثه حول خصائص الإنارة والضوء المُشتت من خلال المواد الشفافة ومن خلال تشريحه لعين الإنسان ودراسة الزيغ البصري، ودراسته الانكسار والمرايا المقعرة والكروية والعدسات المكبرة؟ هل تقوم تلك المُستشفيات نفسها بمُعالجة الناس بالقرآن والإنجيل أو بالرُقية الشرعية والحُجامة؟ بمعنى آخر، هل تقوم تلك المؤسسات الطبية باستخدام النصوص الدينية أو الطقوس التي تُعلمها من أجل علاج الناس؟ إن مُلكية المؤسسات الدينية للمستشفيات يعود لأغراض استثمارية ربحية، وفيلانتروبية (خيرية) صَرف، وليس لأنه ليس هناك تعارض بين العلم والدين.

في النهاية، وبشكلٍ عام، يُمكن القول أن مُحاضرات مُبادرة يلا نتفلسف" كانت عقيمةً وسطحية للغاية، حتى وان كان على المرء أن يعتبرها مُحاضرات تبسيطية، لأن تبسيط الفلسفة يختلف تمام الاختلاف عن ابتذالها، وفصلها عن تاريخ المُجتمعات الإنسانية، ناهيك عن مهمات التحرر الوطني بالنسبة لمجتمعات الدول التابعة. لم تكن هناك مُحاضرة ثمينة فعلياً ما عدا مُحاضرة الدكتور هشام غصيب (أطروحات حول طبيعة الفلسفة)، والتي لأسباب تقنية لم يستطع الدكتور غصيب أن يُسجلها على موقع المُبادرة، ومع ذلك،، لم تقم الجامعة الأُردنية بمشاركة هذه المُحاضرة على صفحتها على الفيسبوك، ولم تذكر هذه الصفحة أن هناك مُحاضرة يقوم الدكتور غصيب بتسجيلها على صفحته الشخصية يوم 1 كانون الأول عام 2021. بل يُمكن القول، أن هذه المُحاضرة كانت تُجيب على السؤال الذي لم تستطع مُحاضرات المُبادرة جميعها أن تُجيب عليه، وهو "ما هي الفلسفة؟".

تؤدي النُظم التسلطية والسطوة على الحياة الفكرية، إلى أن يكون الفكر الفلسفي تبريراً للوضع القائم، وتأميناً لمكانة أكاديمية ما، على حين يذهب البعض الآخر إلى الكتابة في موضوعات لا تُثير سَخَط السُلطة السياسية الرجعية. وبذلك، تتكاثر مثل الفطر في يوم عاصفةٍ رعدية، الرسائل الأكاديمية التي تتخذ موضوعاً لها التفاصيل الدقيقة والمقارنات السطحية أو تلك التي بُحِثَت بإسهاب في تاريخ الفكر الفلسفي، والتي لا تعني أحداً في بلدٍ يُعاني سُكانه من الجوع والاضطهاد.
إن أساتذة الفلسفة دائماً ما ينظرون إلى الفلسفات على أنها عبارة عن صفوف أفكار متساوية في القيمة من حيث الكم والنوع، ويُعلن التزامه بفكرٍ فاترٍ لا يمس واقع الحال، ولا يُمكنه أن يكون مفيداً لتغيير الواقع، كون أن هنالك فلسفات أُخرى راديكالية ذات مُحتوى سياسي، مثل الماركسية لا تتماشى ومصالح مصالح هؤلاء الأساتذة في تسهيل إنضمامهم الى هيئات التدريس أو مناصب الجامعة.

1- تطور الفكر الفلسفي، تيودور اويزرمان، ترجمة سمير كرم، دار الطليعة-الطبعة الرابعة، ص14.