من أجل بناء فكر قومي متماسك من يوجِّه من: ثوابت الفكر النظري أم متغيرات الخطاب السياسي (الحلقة الأولى) (1/ 2)


حسن خليل غريب
2021 / 12 / 12 - 21:30     

لقد تنوَّعت معالجات المفكرين العرب والحركات السياسية القومية لطبيعة العلاقة بين أصالة الفكر القومي وحداثته، وبين حداثته وعصرنته. فهم، حتى الآن، لم يتجاوزوا حدود التوفيق بالعلاقة بينهما، أي عملوا على تغليب خصوصيات الثقافة التُراثية على ثوابت التشريعات القومية الحديثة، كما عملوا على تزويجهما بشكل لا يؤدي إلى صياغة علاقات سليمة بينهما. بينما الوصول إلى تعريف لا يخضع لمعايير الإيديولوجيا هو الأمر الموضوعي المطلوب، لأن هذه المعايير غالباً ما تتأثَّر بالحركة السياسية والبيئة الثقافية السائدة، فتنتج تعاريف قد تكون قاصرة عن الوصول إلى الحدود الموضوعية. ومن أجل التوفيق بين عناصر الموضوعية والعوامل الإيديولوجية ليتكاملا، لا بدَّ من أن يكون للأيديولوجيا سقف موضوعي يحميها من الغرق في تغليب الذاتي على الموضوعي.
ونحن نحسب أن سبب هذا الخلط يعود إلى الالتباس الحاصل بين حدود ثوابت النظرية القومية وحدود الدور المرسوم لآلياتها السياسية، التي من أهمها يأتي دور الخطاب السياسي.
من أجل ذلك نرى أنه يقع على عاتق رواد الفكر القومي، حركات ومفكرين، مسؤولية تحديد الأولويات، بطرح التساؤل التالي: هل وضوح الفكر يأتي أولاً، والخطاب السياسي في المقام الثاني؟ أم أن تغليب الثاني على الأول، هو ما يجب الأخذ به؟
جواباً على ذلك نجد أنه من المتعارف عليه أن يشكل الفكر النظري المجرد، وما تتوصل إليه جهود المفكرين، البوصلة التي تصوِّب اتجاهات الفكر السياسي. وإذا أردنا أن نبرهن على صحة ذلك فنجد أن ليس من برهان أكثر وضوحاً من الاعتقاد بأولوية القيم العليا، كالعدالة والمساواة مثلاً. فتعريف العدالة والمساواة بمفاهيمهما النظرية المجردة لا تختلف من مجتمع إلى آخر، أما مفاهيم تطبيقها في هذا المجتمع أو ذاك، فتكتسب خصوصيات مرحلية ومجتمعية بشكل لا يتعارض مع مفاهيمها الإنسانية العامة. واستناداً إليه تأتي مرحلية التطبيق السياسي لتضع خصوصيات تطبيقية في مجتمع لا تنسجم مع مجتمع آخر. ولكن مهما اختلفت وسائل التطبيق، باختلاف خصوصيات المجتمعات، فإن المفهوم العام لا يتغير، بل هو مفهوم ثابت، وعلى أساسه كمعيار، يمكن تصويب أي خلل يصيب حالات التطبيق الخاصة ليعيدها إلى مسارها القيمي العام. ولهذا السبب لا يجوز على الإطلاق أن نقول هناك عدالة عربية، وعدالة أميركية، وعدالة صينية... فالعدالة واحدة أينما كانت.
وقياساً على ذلك لا يمكن أن نقول بأن المفاهيم القومية، كنظرية حديثة، تختلف من مجتمع إلى آخر، بل هناك خصوصيات قومية لهذا المجتمع أو ذاك، أي خصوصيات تطبيقية تصلح لهذا المجتمع ولا تصلح لذاك، وهذا الأمر يسمح لنا بالكلام عن قومية عربية وقومية صينية وقومية فارسية...
فالمعيار القومي له أسس وضوابط، من أهمها وحدة الأرض، ووحدة اللغة، والتجانس الثقافي للمجتمع، ووحدة مصالح أفراده، وحقهم بالسيادة الجغرافية والسياسية والاقتصادية على ثرواتهم. وحقهم بالاتفاق على قوانين وتشريعات تنظم شؤون حياتهم الدنيوية على ألاَّ تتعارض مع قوانين القيم العليا أو تتناقض معها.
1-الخطاب السياسي متغير يسترشد بثوابت الفكر النظري
إننا نحسب أن أسباب الالتباس في تحديد الأولويات، بين الدورين، يعود إلى وجود إشكالية معاصرة، تفرضها طبيعة الصراع بين القومية العربية وأعدائها، الذي وصل إلى مستويات دموية بين أطماع القوى الاستعمارية وقوى المقاومة العربية وتياراتها. تلك المواجهة تحتاج إلى جهد كل المقاومين العرب بغض النظر عن أطيافهم الدينية والمذهبية والسياسية، فالمرحلة تحتاج أحياناً كثيرة إلى تغليب الشعور على البرهان، فالشعور القومي هو من أهم عوامل التعبئة للدفاع عن الوجود القومي، فهو يجمع قوى المواجهة سواءٌ أكانت رؤيتها دينية، أم كانت علمانية، أم كانت تنخرط تحت سقف رؤية وطنية أو قومية.
وإذا كانت مراحل النضال القومي، في بواكيرها الأولى، قد احتاجت إلى زيادة منسوب الخطاب التعبوي في بيئة كانت لا تميِّز تماماً بين ثقافتها الموروثة وثقافتها الحديثة، أصبح لا بدَّ، الآن بعد انقضاء أكثر من نصف قرن عليها، من أن نميِّز بين بيئة البواكير الأولى وبين البيئة السائدة الآن. ونرى أن تلك البيئة أخذت تنشدُّ إلى العامل القومي أكثر فأكثر نتيجة تعميق الشعور القومي في المراحل السابقة، هذا إذا لم يكن التغيير فيها قد بدأ فعلاً، وكما أخذ معظم المثقفين يشعرون أن معايير العلاقة السابقة، بين منسوب الوعي النظري ومنسوب الخطاب السياسي، لم تعد تلبي حاجة الأسئلة التي ترتفع لتعيد ترتيب معايير تلك العلاقة إلى طبيعة تخضع للبرهان أكثر من خضوعها للشعور والإحساس.
وهنا يجوز لنا، عندما نريد أن نتصور معايير خاصة للعلاقة بين الثوابت القومية ومتغيرات الخطاب السياسي، أن نضع تلك المعايير على ضوء طبيعة المرحلة السياسية التي يمر بها المجتمع العربي. فهي في مراحل النضال الوطني التحرري من الاستعمار المباشر، غيرها في مراحل النضال الوطني المطلبي. إلاَّ أن هذا لا يعني أن تكون معاييرنا مختلفة بالنوعية، بل هي تختلف بالدرجة. فهي تحتاج إلى جرعات زائدة من تعبئة الشعور والوجدان في الحالة الأولى، بينما في الحالة الأخرى تحتاج إلى جرعات أكثر من البرهان العقلي.
إننا من خلال طبيعة المرحلة، نحدد طبيعة تلك العلاقة بأن نرفع منسوب الشعور والوجدان أو منسوب العقل والبرهان، وبمعنى أوضح نزيد منسوب هذا العامل أو ذاك في خطابنا السياسي. لكن في الوقت ذاته لا يجوز أن نترك تعريفنا للفكر القومي عائماً وغائباً في متاهات الخطاب السياسي، بل العكس هو الصحيح، أي أن تكون لفكرنا القومي المجرد حدوداً واضحة المعالم أولاً، ومنه ثانياً نزيد منسوب الخطاب السياسي لهذا الجانب أو ذاك، أو ننقص منه بما يتناسب مع طبيعة المرحلة.

2-القومية واقع اجتماعي إنساني والنظرية ناظمه الفكري
الشعور القومي ليس نتاجاً فكرياً، بل هو واقع يرقى إلى مستوى الفطرة البشرية، أي هو رابط إنساني أصيل بين أفراد الأسرة الواحدة، اتَّخذ شكله الاجتماعي عندما تفرَّعت الأسرة إلى مجموعات قرابية، واكتسب شكله السياسي بعدما ضعفت المسافة القرابية بين تلك المجموعات، لتتحوَّل إلى نظام في تنظيم العلاقة بينها، ليس على أسس قرابية، بل على أسس مصيرية تحمي فيها وجودها. وعن ذلك تعارفت نتائج الأبحاث على أن من أهم تلك الأسس يأتي العامل الجغرافي واللغة والثقافة المشتركة والتراث المشترك والمصالح الاقتصادية في المقدمة منها على أن تشكل رزمة واحدة، بمعنى أن أي عامل مستقل عن العوامل الأخرى لا يشكل قاعدة ثابتة للعلاقة بين أبناء القومية الواحدة، إلاَّ أنه كلما انتفى وجود عامل منها يُضعف في أواصر تلك الروابط.
وقد أثبتت وقائع نشأة الدول الإمبراطورية تاريخياً صحة هذا الأمر، هذا مع العلم أنه لا رابط بين المجتمعات الخاضعة للسلطة الإمبراطورية إلاَّ وجود عامل القوة. فكلما دالت إمبراطورية في التاريخ تزول معها روابط العلاقة بين المجتمعات غير المتجانسة التي كانت تحكمها، وتشكل تلك الانفصاليات كيانات أخرى مستقلة تجمع ما بينها العوامل التي تشكل أسساً للدولة القومية المشار إليها أعلاه، وتبقى على هذا المنوال إلى أن تأتي إمبراطورية أخرى لتعيد دمجها بالإرغام وقوة الجيش والاقتصاد في إمبراطورية جديدة.
لا تشذ الإمبراطوريات، ذات الطابع الديني، عن هذا السياق العام، ولنا من آخر إمبراطورية إسلامية انهارت بفعل اندلاع الحرب العالمية الأولى، وآخر إمبراطورية مسيحية، انهارت بفعل اندلاع نظرية الانفصال القومي في أوروبا، أكبر برهان.
وبانهيار الإمبراطورية الإسلامية، آخر تلك الإمبراطوريات، انهارت معها إمكانية بناء دولة أممية على الصعيد الديني. وبانهيار تجربة الاتحاد السوفياتي انهار معه حلم بناء دولة أممية تقوم على فكر مادي، أو على الأقل تنطلق من ثوابت ليس للدين فيه حصة.
وبفشل عامل الدين وحده، وعامل الاقتصاد وحده، في بناء دولة واحدة، جاءت نظرية بناء الدولة الحديثة على أسس قومية لتشكل الأنموذج النظري لتلك الدولة، وهي تمر الآن بتجربة تلاقي النجاح بنسب عالية. ويتم الاستمرار في بناء التجربة على الرغم من وجود الكثير من العقبات والمطبات في مواجهة القومية العربية التي تعيق تقدمها، يأتي في مقدمتها عداء التيارين الأمميين، الديني والمادي، الذي يقوده أصوليو الأديان، وأصوليو الماركسية. وقد دخلت النزعة الإمبراطورية المعاصرة، تلك النزعة التي كانت آخر ابتكارات حركة المحافظين الأميركيين الجدد، على خط مواجهة العداء للقومية العربية.

3-وضوح النظرية القومية وشفافيتها عامل ضروري في الحوار مع الأممية الدينية
إذا كنا لن نقف طويلاً أمام عامليْ الأصولية الأممية الماركسية، والنزعة الإمبراطورية الأميركية، فلأنهما لم تحفرا في ذاكرة ثقافتنا العامة الشيء الكثير، وإن حفرتا فحفرهما لا يرقى إلى مستوى الطفرة النوعية التي تثير المخاوف المستعجلة، وإن كانت تتطلب المواجهة معهما وسائل مختلفة: فالمواجهة مع الأصولية الماركسية تخف تدريجياً بعد وعي بعض أحزابها السياسية أهمية العامل القومي واستحالة تطبيق الحلم الأممي بمعانيه السياسية، فهي أصبحت منزوعة الأنياب إلى حد كبير. أما المواجهة مع النزعة الإمبراطورية الأميركية فلا تتطلب جهداً فكرياً وسياسياً بأكثر مما تطلب جهداً مقاوماً عسكرياً بالدرجة الأولى. والأصولية الدينية الإسلامية تخوض تلك المواجهة إلى جانب التيارات القومية، وإن بأهداف مستقبلية أخرى.
تلك الأهداف، أهداف الأصولية الإسلامية، تقف في موقع النقيض مع الأهداف القومية أولاً، وتمنحها قوة الثقافة الشعبية لمعظم العرب التي تنطلق أساساً من الثقافة الدينية الإسلامية ثانياً، وأكثرها خطورة تعميم الثقافة الدينية المذهبية ثالثاً، وبنتيجة هذا الواقع تتعدد أهداف الحركة الإسلامية بتعدد أطرافها وأطيافها واجتهاداتها الدينية لتجعل المثقفين الدينين على حافة الاقتتال الديني – الديني، وهذا السبب يقود إلى احتمالات تفسيخ الأمة إلى دويلات يبلغ تعدادها العشرات.
ونحن إذا وقفنا أمام هذه الإشكالية، وأخذت منا الاهتمام الأول في بحثنا هذا، فليس لأنها الإشكالية الوحيدة، بل هي أكثرها حدة وظهوراً في ترسيم مستقبل حدود أمتنا القومية.
يكفي سبباً في جعل إشكالية العلاقة بين الفكرين الديني والقومي محورنا الأساسي، أن الحركات الإسلامية أقدر على الزرع والاستقطاب في بيئة ثقافية شعبية ذات أعماق وسقوف دينية، كما أننا نعطيها أولوية لكن على أن تنطلق هذه الأولوية من أسس الحوار وليس من محور الصراع.
إن شروط الحوار تتطلب من الطرف القومي المحاور، أن تكون عنده حدود الفكر القومي وآفاقه واضحة وجريئة، لأن الجلوس إلى طاولة حوار مع الآخرين من دون وضوح في أهداف المحاور من جهة، ووضوح أهداف الطرف الآخر من جهة أخرى، ستؤدي إلى الإرباك والتردد. وبالتالي سيؤدي إلى وضع المحاور القومي في موقع الضعف أمام آخر متمكِّن من فهم خياراته، تساعده بيئة ثقافية واسعة قادرة على تقوية مواقعه.
لذلك نحسب أن من أهم القواعد التي على القوميين أن يمتلكوها هي أن يكون فكرهم واضحاً أولاَ، وأن يكون المدافع عنه صلباً لا يتردد في الدفاع عنه مخافة من الاصطدام بالثقافة الشعبية ثانياً، وشرط ذلك أن لا يكون مسكوناً بهاجس اختيار الأسلوب الأسهل الذي يسمح له بالكسب الجماهيري ثالثاً.