ذكريات طفولة.. قصر الرحاب 15


مهند البراك
2021 / 12 / 12 - 01:45     


قصر الرحاب

في ذلك العام تم افتتاح جسر الأئمة الجديد . . من جهة الأعظمية، في حفل جماهيري حاشد التمّ فيه الجميع لمشاهدة الملك الشاب فيصل الثاني و هو يفتتح الجسر تحت طوق خشبي احتفالي كبير ترفرف عليه الأعلام العراقية و اعلام التحيات، بمشاركة الوصي عبد الإله و نوري السعيد و الوزراء و كبار المسؤولين الحكوميين غير المحبوبين و الذين كانوا لاينالون الاّ لعنات الناس، علناً او مكبوتة في النفوس لأسباب متعددة . .
تمّ افتتاح الجسر كاحد فعاليات مجلس الإعمار، في موعده المقرر، رغم عدم اكتمال بناء ملحقاته من الشوارع الجديدة المتصلة به، خاصة الشارع الموصل منه الى رأس الحواش . . حيث بقي الشارع السابق بعد اصلاحه و التهيؤ لإعادة بنائه و بناء الممر الثاني له.
و لابد من القول ان افتتاح الجسر الجديد، ادىّ الى تهديم وازالة قسم كبير من محلة الشيوخ القديمة، و خاصة الحارات المجاورة لمرقد الإمام ابو حنيفة النعمان، و شمل ازالة قسم غير صغير من السوق القديم و قسم من محلة الحمّام . . اضافة الى الأقسام التي شكّلت مكاناً لبناء و إشادة ساحة (فلكة او دوّار) الإمام الأعظم، في بداية شارع الأعظمية الموصل الى راس الحواش و ساحة عنتر، الشارع الذي اعيدت تسميته الى شارع " الإمام الأعظم "، التسمية التي اخذت المحلة اسمها منها و سُميّت به منذ القدم بـ " الأعظمية " . .
و بسبب اعمال الهدم تلك التي ازالت اضافة الى البيوت، ازالت العديد من المتاجر التي جرى تعويض اصحابها و بنوا بها "السوق الجديد" المكوّنة اجزاء منه من طابقين، و الذي صار يقع داخل المحلة و ليس مطلاًّ على الشارع بعد ازالة انواع الخرائب هناك. و حصل مُتغيّر آخر هو كساد شريعة البلاّمة (اصحاب الزوارق ذات المجاذيف و العاملين عليها) الذين كانوا يحملون العديد من زوّار الإمام الكاظم من ضفة الأعظمية الى ضفّة الكاظمية و بالعكس، حين كان البلاّمة يعتمدون على ثريد باقلاء ام مصطفى، في الفطور و الغذاء، حيث كانت وجباتها تلك رخيصة الثمن . .
اما ام مصطفى ذاتها، فبقي رزقها كما كان، بعد ان تزايد الطلب عليه من سكنة البيوت المجاورة، و بقى القدر الكبير الموضوع على طباخ نفطي صغير تحت قيادتها، جنبها سلّة كبيرة يتبرع فيها سكنة الدور المجاورة بخبزهم اليابس و البائت، التي كان يندر ان تكون فارغة و على جنبها الآخر، وضَعَت طبّاخ نفطي صغير ثاني مولع بنار هادئة او مطفئ و عليه طاوة كبيرة سوداء شبه مستهلكة لقلي البيض لمن يرغب مقابل ثمن صغير، او قليه لمن جلبه معه مجاناً، اضافة الى صندوق وضعت فيه انواع من الخل و زيت الزيتون و البطنج . . على ارض مليئة بقشور الباقلاء كانت تُكنس بين حين و آخر . .
و ظهرت مشاكل من نوع آخر بسبب زيادة مرور الباصات الخشبية الشهيرة بإسم (دكّ النجف)
التي كانت في العادة سريعة و كان فيها خللات متنوعة لكونها رخيصة الثمن كما كان يدور بين الناس، الاّ ان المشكلة الكبرى بها، هو ظهور حوادث دهس المارة و خاصة الاطفال، و كانت من اهم الاسباب هو انشغال سوّاق الباصات بينهم لدى مصادفة سيارات بعضهم ببعض، بانواع النقاشات و الشتائم المدويّة و الردود العصبية و نسيانهم مسؤوليتهم في السياقة، اضافة الى استخدامهم انواع الهورنات التي صارت شتائم و فشار و تعديّ، بعضهم ضد بعض كـ ـ فيصل طيـــــــــــ ـ الأمر الذي ادىّ الى صدور تعليمات بمنع مرور الباصات الخشبية . .
اضافة الى ظهور مشاكل من تخوّف عديد من الناس و من زوّار الإمام الكاظم من انهدام الجسر و هم عليه، و المخيف لهم انه كان بذلك الارتفاع و بتلك الخرسانات و الانابيب العملاقة، الجديدة على عقولهم، بعد الغاء جسر الأعظمية القديم (جسر الدُوَبْ) الاليفة الاكثر اماناً بتصورهم، لأنه كان مبنياً على زوارق، و الناس اكثر معرفة و ثقة بها . . رغم انقطاع الجسر القديم عن مرتكزاته و طوفانه مع التيّار الى عدة كيلومترات في مواسم الفيضان لأكثر من مرة، حين تمت ملاحقته بالماطورات النهرية حينها و اعيد الى مكانه . .
فيما كانت اذاعة بغداد مشغولة باذاعة تفاصيل عن قرب خطوبة الملك فيصل الثاني بإذاعة اخبار متنوعة عن الموضوع . . من قرب خطوبته على اميرة مغربية ابنة الملك محمد الخامس هناك و الى اخرى و اخرى و الى استقرارها على خطوبة الملك الشاب على اميرة تركية من سلالة محمد علي باشا الالباني، الأميرة فاضلة . . و أُعلنَتْ انباء على زياراتهما لمرافق بغداد الملكية الهامة، منها زيارتهما للمقبرة الملكية في شارع الشباب المار ذكره في الاعظمية . .
و تم الإعلان عن موعد تلك الزيارة للاعظمية و التأكيد على موعدها من الاذاعة لمرّات، و اهتم الناس بحضورهم على الشارع بفضول طغى عليهم، لرؤية خطيبة الملك، هل هي جميلة ام قبيحة ام ماذا ؟؟ ثم ، من هي لتحكم العراق ؟؟ . .
و هكذا ذهبْتُ حاملاً اختى ذات الثلاث سنوات بدافع الفضول الطفولي و دون معرفة الاهل، الى شارع الشباب و وجدت نفسي بين جماهير ليست قليلة تلوّح لهما و هما يبتسمان ، و اخذنا نلوّح اختي و انا له في الصف الاول للمُحَيين و حدث . . ان توقّفت سيارة الملك المارّة ببطء جنبنا و انحنى الملك من جانب السيارة المكشوفة و لوّح لي بابتسامة جميلة ان اقترب منه، فاقتربت حاملا اختي على ذراعي . . و للمفاجأة حمل الملك اختى من ذراعي و قبّلها على وجنتيها دائراً بها في مكانه على الجماهير المحتشدة على الجهة الأخرى للشارع، كأنما كان يعرض حبه للبلاد و اطفالها . .
و رغم ذلك التغيير العاصف في حياة المحلة . . الاّ ان التنصت على اذاعات موسكو و صوت العرب من القاهرة بتكتّم، ازداد ازدياداً كبيراً، وكان عدد من ابناء الجيران يتناقشون بينهم و قسم منهم يتناقشون مع والدي حول حقيقة ماتذيعه و الأخبار الأخيرة لـ " صوت العرب من القاهرة " التي كانوا يتابعوها سراًّيومياً، اضافة الى اخبار موسكو والـ بي بي سي التي كان والدي يتابعها كلها يومياً من جانبه و بصوت بالكاد يُسمع . . .
حيث كانوا يستمعون اليها بصوت خفيض وبتكتّم شديد، تكتم لعائشين في بيوت شرقية الطراز تطل غرفها مباشرة على الأزقة حيث يسير المارة . . خوفاً من انفضاح سماعهم لتلك الأخبار المبثوثة من محطات ممنوعة لمارّة في الشارع، يمكنهم ان يُخبروا الأمن بذلك و يحدث ما لايحمد عقباه . . اضافة الى تزايد الاستماع الى حفلات ام كلثوم من اذاعات القاهرة في الساعات المتأخرة من الليل و خاصة في ليلة الجمعة، حين كانت اغنية " يا ظالمني " هي اغنية الموسم لعام 1957 . .
و كانت الناس تتبادل بهمس، خبر خوف الوصي و جُبنه و هربه بطائرته المروحية المنفردة تاركاً مرافقيه، من معسكر سعد في بعقوبة، و كيف حدثت و من هو البطل الضابط الشاب سعدون، و يتساءلون بقلق عن مصيره و هو الابن البار لأهالي الاعظمية، وسط انواع التعليقات و التلميحات :
ـ يا اخي، الوصي جبان رغم انواع النياشين على صدره و الهالات و رغم مظاهر التجبّر
ـ الخوف على سعدون الذي اعتقله الجبناء و اضاعوا اخباره
ـ خوفكم من الجبناء ان تولوّا السلطة
ـ انتقام الجبان يكون شنيع
ـ انتقام المأبون يكون اشنع
ـ هسه عرفتوا ليش الناس تحب الملك و تكره عبد الإله ؟
من جهة اخرى احدث خوف الوصي و هروبه من سماع اطلاقات نارية، بل و هروبه حتى من مرافقيه و هو المشرف الفعلي و العملي على الجيش، و اوامره يجب ان تطاع بعيداً عن قوانين و اصول الجيش و الاّ . . !! احدث مفاجأة و تغييراً هائلاً في عواطف العسكريين تجاهه، لأنه سقط بأعينهم و كشف عن كونه جبان و هو يتصنع الوقار و الشجاعة، و هو الذي تسبب بتحطيم اعداد من الضباط الوطنيين لجرأتهم و لرفضهم ايّاه و رفضهم تنفيذ اوامره الفارغة، بدعاوي كاذبة و حجج بقيامهم باعمال تخريبية و اعمال تهدد امن و سلامة البلاد ؟؟ . .
اما ما حدث لريتا ذلك اليوم، فكان التالي كما روته بعد سنين . . بعد ان غادرها سعدون، لم تنس نظراته القويّة المتحديّة و كأنه مقبل على عمل هائل او على مهاجمة وحش او فريسة ما، و اثناء ذهابها الى باب النظام للفرقة سمعت اطلاقات الرصاص و كمنت بين احراش طويلة لمحاولة مراقبة ما جرى و ما يجري آنذاك . . شاهدت ارتباك الطاقم المرافق للوصي الذي هرب بطائرته المروحية المعلّمة بالوان زاهية و بقيت اخريتان جاثمتان على ارض الساحة الواسعة . .
و شاهدت كيف اتى مسلحون بسعدون و هو مكبّل اليدين و يمشي بينهم مرفوع الرأس، ففهمت انه قيد الإعتقال كما اخبرها، و قررت الإسراع بتنفيذ وصيته بإخبار نقيب الإنضباط سعيد المصلوب عن اعتقاله . . حتى وصلت باب النظام و وجدت هناك جارتها و بناتها، فأسرعوا بالعودة الى بغداد بنفس التاكسي الذي جاء بهم الى بعقوبة، الذي كان ينتظرهم . .
و ذهبت بسرعة الى بانسيون ماري و التقت بجوزفين و فهمت منها ان النقيب سعيد سيأتي ذلك المساء نفسه، و التقت به بعد انتظار ليس طويل و اخبرته بما جرى لسعدون و انه بالتأكيد في موقف الإنضباط العسكري كما اخبرها . . و طلب سعي لمحاولة معرفة ماهية التهمة التي أوقف بسببها بالضبط و محاولة اطلاق سراحه، و بعد ان شكرها سعيد اتصل بالرائد ممدوح بضرورة اللقاء به و اتفقا بهدوء على اللقاء في اليوم التالي في كازينو شريف و حداد مقابل النادي العسكري في بغداد، لأن الخروج من وحدات الفرقة الثالثة كان قد مُنع لذلك اليوم بسبب التحقيق الذي بدأ فوراً حول حادث زيارة الوصي . . في اليوم التالي التقى الصديقان و هنّأ احدهما الآخر، بعد ان اخبر ممدوح سعيد بخطة اخافة الوصي التي نجحت نجاحاً كبيراً و قررا التحرك الفوري لمحاولة اطلاق سراحه.
في وقت لم يستطع فيه سعدون من معرفة الى اين يذهبون به بطائرة مروحية . . حتى هبطت على الارض و اقتادوه مكبّلاً بسيارة جيب عسكرية مكشوفة و سيارة حماية بعسكريين شاكيّ السلاح . . . الى بناء كبير خيّل اليه انه قصر من القصور الملكية، و لكنه لم يعرف ايّ قصر حتى قرأ لافتة حديقة من حدائق القصر التي مرّوا بها مكتوب عليها (قصر الرحاب . . الى القبو) و دخل في تفكير انهم سيقابلوه مع الوصي الذي هرب . . و لكن لماذا في القبو ؟؟
انزلوه من السيارة مُقتاداً بعنف كاقتياد اي مجرم خطير و انزلوه الى غرفة منفردة خافتة الضوء من القبو هناك، حيث شمّ روائح عفنه، و اجلسوه على كرسي مثبت بالارض، و سأله احدهم من الخلف عن هويته و عمّا كان يفعل بالمسدس في بنكلة التدريب الشتوي . . و لمّا لم تعجبه اجاباته انهال عليه بالضرب ثم جاء آخرون و اخذوا يضربونه بقسوة تخللتها انواع الشتائم القذرة عن شرفه و شرف زوجته و اخواته . . و ابتدؤا معه بالفلقة ثم باقسى منها و اقسى . . و استمر ذلك يومياً و لم يحصلوا منه الاّ على قول ثبت عليه :
ـ كنت اتدرب على النيشان و لديّ موافقة خطيّة لأني صيّاد ماهر معروف اهديت صيدي دوماً للمعسكر، و لم يخبرني احد عن موعد وصول سيادة الوصي المعظّم بالضبط، لأن الموعد تغيّر عدة مرات . . تستطيعون معرفة ان الرصاصات الثلاث استقرت في بسطال معلّق في البنكلة، باتجاهات غير الاتجاه الذي تتحدثون عنه.
ـ لا نشاط سياسي لي.
ـ ليس لي اي نشاط عسكري منظّم خارج النظام العسكري للجيش او ضدّه.
خلال ذلك الوقت تحرّك النقيب انضباط سعيد المصلوب من موقعه و مكانته في الانضباط العسكري، و تحرّك والده الذي كان قد تم استيزاره حديثاً، اضافة الى الدور الهام للزعيم قاسم من خلال نفوذه في الجيش في اوساط الرتب العالية، الذين كان عدد كبير منهم من ابناء دورته و زملائه في كلية الأركان البريطانية في معرفة اين هو سعدون اولاً، و لمحاولات التأثير بحذر بالغ على سير التحقيق للتوصل الى التخفيف عنه في التحقيق لإنقاذ حياته، و بالتالي لإطلاق سراحه بأية حجة، لكونه من الضباط الأكفاء في الجيش و ارضاءً لعشيرته، التي لم يصلها نبأ اعتقاله بعد . .
الى ان عرف الزعيم قاسم، بان سعدون موقوف في قصر الرحاب، و استطاع معرفة ما ورد في افادته في التحقيق، لتدبير ما يحتاجه وفقها، الامر الذي دبّره الرائد ممدوح . . و توصّلا الى ماهية المحققين و من هم و تقديراتهم . . و صار واضحاً للزعيم قاسم ان افادة سعدون لا غبار عليها و انه سيطلق سراحه بعد اسابيع، مع احتمال توجيه عقوبة عسكرية ادارية له و لآمر فوج حماية المقر الذي كتب له (موافقة التدريب على النيشان في المعسكر) دون تحديد الزمان و المكان.
بعد حوالي اسبوع جرى تحويل سعدون من السجن الانفرادي الى قاعة ضمّت عديد من السجناء الذين رحّبوا به بعد ان عرفوا اسباب اعتقاله، و عرفوا كُبر و امكانات الجهات التي سعت لإطلاق سراحه سواءً من احاديث الحرس او من بعضهم البعض. رحّب بهم سعدون و كان يتصور في البداية انهم جميعاً عسكريون، الاّ انه تفاجأ بكون اكثرهم ضحايا اختطافات و سلوكيات لا تقيم وزناً للقوانين المعمول بها و سخرت منها، بينهم شقاوات و سماسرة و قوادون محليون و دوليون و وكلاء و نصّابون او عشاق سابقون لاميرات غير معروفات، و ابطال مغامرات لااخلاقية انفضحت، و ابطال اعمال لاقانونية انفضحت ، اضافة الى وسطاء و قضاة فاسدين مرتشين من الوصي عبد الإله و انفضحوا، و قضاة حَكَموا في قضايا بما لايُرضي الوصي . .
و توصّل سعدون بعد لقاءات و احاديث مع السجناء . . الى ان السجناء في تلك القاعة، مسجونون في سجن خاص عائد للوصي، و انهم سيقوا دون مذكرات قضائية اصولية كان يُعمل بها، و انما لمصالح شخصية لعبد الإله الذي كانت ثروته و نشاطه المالي يمتدان خارج البلاد بملايين الدنانير العراقية (وفق قيمة الدينار العراقي آنذاك البالغة 3،3 دولار) . . و شعر بالفخر لما قام به لإخافة الوصي و شعر بانه مستعد للقيام باكثر من ذلك، كما تحدّث لاحقاً لأصدقائه المقرّبين. و بعد اكثر من شهر أُطلق سراح سعدون و عوقب هو و آمر فوج حماية مقر الفرقة بحرمانهما من الترقية الاصولية القادمة. .
. . . .
. . . .
من جهة اخرى استمرت نقاشات برهوم و رحيّم في موضوع حماية التظاهرات في خضمّ نشاطات سريّة للتظاهر بمناسبة الذكرى الاولى لإنتفاضة الشعب ضد العدوان الثلاثي على مصر، و فيما كان برهوم يؤيد نشاط القوميين بالمشاركة بالسلاح و الإنتقام بالعنف لضحايا الإنتفاضة في العام الماضي . . قال رحيم :
ـ الاحزاب القومية تسعى للسيطرة على السلطة بالعنف او بانقلاب عسكري بعدد من كبار الضباط، يسيطر على السلطة و بالتالي يسيطر على الدولة لتحقيق اهدافها بالوحدة القومية دون العمل من اجل تهيئة المجتمع اقتصادياً و اجتماعياً و سياسياً لذلك . . و اثبتت تجارب العديد من الدول انهم بذلك سينحرفون الى تكوين دكتاتورية عسكرية لاتختلف عمّا سبق، ان لم تكن اسوأ . .
و ان العديد منها ادخلت العنف و ممارسته في نشاطها اليومي و التعامل به، حتى صار في احيان شغلها الشاغل دون الاهتمام بتوعية الجماهير لتحقق اهدافها بالخبز و الحرية و العدالة الإجتماعية، و اتخذت من غاريبالدي و قضية وحدة الإمارات الايطالية مثالاً و تواصل عدد منها مع افكار موسوليني و هتلر حول تحقيق الوحدة القومية و التطور الاقتصادي الرأسمالي، بالعنف و الحرب . . و ابقت بذلك على نظام الإستغلال القائم في بلادها و اشعلت صراع و حروب كبار الرأسماليين من اجل ارباح اكبر لصالح انانيتها و ليس لصالح شعوبها . . تحت شعارات الوحدة القومية و الرفض و النهوض و اضافوا لها عندنا الاهداف الاسلاموية التي لم ينادي و لم يدعو لها الدين الاسلامي و لانبيه الكريم و حشّوا الاكاذيب بها لكسب البسطاء . .
حتى جاء نمط جديد من الأحزاب التي ناضلت و تناضل ضد استغلال الإنسان لأخيه الإنسان و ضد التمييز العرقي و الديني و من اجل رفاه الشعب بمكوناته، حتىّ انتصرت ثورة اكتوبر العظمى في روسيا القيصرية و هزّت العالم (كانتصار الثورة الفرنسية، الثورة الصناعية في بريطانيا و الثورة الأميركية) و كَشَفتْ حقيقة مايجري و البواطن السريّة للاستغلال و للصراع الطبقي بين الطبقات المُستَغِلة الغنية بانواعها : الزراعية و الصناعية و التجارية، و بين الطبقات المُستغَلّة الفقيرة المحرومة في المجتمع، التي بإمكانها التحرر من قيود الإستغلال، بشرط ان تقدّم بديل واقعي، يحقق المساواة بين البشر و سارت على تلك الأهداف . .
و صار الموقف من ثورة اكتوبر لأحزابنا هو الذي يُسمحْ له من قبل التحالف الرأسمالي العسكري الدولي او لايُسمح . . و بالتالي هو الذي يحدد من الذي يستطيع ان يحكم بإذنهم في بلدان العالم الثالث المتخلّف النامي التي منها بلادنا، بموازين عالمنا الراهن و ما تسمح به او تمنعه تلك الموازين بين قوى الحرية و قوى الحرب و الاستغلال في العالم . . ان ثار شعب على حاكميه و انتصر. و لذلك نادى عفلق كاحد الوجوه القومية، نادى الغرب طالباً الدعم لحزبه، لأنه يعمل على تحقيق برنامجه و على مكافحة الشيوعية، على حد ندائه.
و في ذلك الوقت كانت التقارير تتوالى الى الرائد ممدوح، بأن الأحزاب القومية تسلّح منظمات و مدنيين فيها و تحصل على السلاح وفق خطط لضباط قوميين كبار اعضاء في منظمة الضباط الأحرار، لدعم الثورة التي كانت المنظمة تخطط للقيام بها، للحصول على دعم شعبي مسلح لهم و لتحسين مواقعهم في منظمة الضباط الاحرار ذاتها، و كانوا يحصلون على السلاح من المعسكرات و من مراكز الشرطة بغض نظر من ضباط كبار او من مأموري مراكز شرطة او رجال أمن عائدين لهم . . اضافة الى اسلحة كانت تأتي من الجمهورية العربية المتحدة عبر الحدود السورية مع الموصل . .
و كان ذلك يثير استغراب برهوم الذي كان يلاحظ ذلك يجري بين جيرانه و من الرياضيين في الاعظمية و في علاقاته مع شباب من القوميين . . و كان يتساءل مع نفسه، لماذا لا يُلقى القبض عليهم ؟؟ في حين يُلقى القبض على ابسط ناشطين ديمقراطيين و يساريين و يُقَدّمون لمحاكمات و يُحكمون باحكام ثقيلة تحطّم حياتهم ؟؟ (يتبع)

11 /12 / 2021 ، مهند البراك