نجيب محفوظ .. الولادة المتعسرة وإشكالية التسمية


رضي السماك
2021 / 12 / 11 - 14:45     

في مثل هذا اليوم تحل الذكرى المائة وعشر سنوات على مولد عميد الرواية العربية نجيب محفوظ الفائز بجائزة نوبل للآداب عام 1988، ففي ليلة رعداء ممطرة من منتصف ليل الحادي عشر من ديسمبر / كانون الأول 1911 بدرب قرمز في حي الجمالية الشعبي في القاهرة القديمة حضر المخاض والدته الاُمية السيدة فاطمة قشيشة؛ إبنة أحد مشايخ الأزهر، وكانت عملية توليد والدته من المفترض أن تتم على يد قابلة شعبية لكنها لم تتم العملية حيث بدت لها عسيرة للغاية بما يهدد حياة الاُم وجنينها ما أضطرها لنصيحة والد الجنين السيد عبد العزيز إبراهيم باشا الموظف الحكومي بأن يستعين بطبيب أمراض النساء والولادة الأشهر في مصرحينذاك الدكتور نجيب ميخائيل محفوظ، فأخذ الزوج بنصيحة القابلة مضطراً على خلاف التقليد السائد في البيئات الشعبية التي تحرّم أجراء عمليات الولادة على أيدي الرجال . وهكذا أجرى الطبيب الحاذق المتمرس محفوظ العملية متكللةً بالنجاح التام، وهو ما أسعد الوالد أيما سعادة بنجاة زوجته ومولودها، فقرر على الفور من فرط فرحه أن يُسمي مولوده الجديد " نجيب محفوظ" تيمناً بإسم الطبيب الذي أجرى العملية.
وفي زمن جميل مجتمعه متسامح بسليقته الإنسانية، لم يخطر ببال أبي المولود البتة الوقوف عند مدلول إسم الطبيب الشائع حينذاك بصيغته المركبة في أوساط الطائفة القبطية، ومثلما كانت اُم المولود تحرص على زيارة جامع وضريح الإمام الحسين القريب من حارتها؛ فقد أعتادت أيضاً زيارة الكنائس والأديرة المسيحية مصطحبةً إبنها نجيب في طفولته وصباه معها، وهو ما شكل جزءاً رئيسيا من تكوينه الثقافي حيث جُبل في تنشأته على تلك التربية الشعبية الدينية المتسامحة. وفي العام نفسه الذي وُلد فيه محفوظ وُلدت أيضاً تلميذة عميد الأدب العربي طه حسين النجيبة اُستاذة الأدب العربي الدكتورة سهير القلماوي (20 يوليو / تموز 1911) أي أنها تكبر محفوظ ببضعة شهور فقط. وكان لطه حسين تأثير كبير في تغيير مجرى حياتها العلمية نحو دراسة الأدب العربي في حين كان تعليمها الأساسي باللغة الإنجليزية منذ الطفولة حتى تخرجها في الكلية الأميركية للبنات، وكان طموحها دراسة الطب في لندن على خطى والدها الطبيب الجراح ، ولم يخطر ببالها إنها ستصبح استاذة كبيرة في الأدب العربي ينال تحت اشرافها مئات الطلبة شهادتي الماجستير والدكتوراه ، وكانت القلماوي أول طالبة مصرية تلتحق بالجامعة وتختلط بطلاب الكلية الذكور .كما لم يخطر ببال طه حسين أن يصبح الطالب نجيب محفوظ أديباً روائياً مبدعاً هو الذي كان متمسكاً بدراسة الفلسفة عند التحاقه بكلية الآداب عند ما قابل العميد طه حسين ؛ وأن ينبهر هذا الأخير بعدئذ بإبداعه وعبقريته في فن كتابة الرواية .
على أن للإسم الذي أختاره والد روائينا الكبير نجيب محفوظ دوره في ولوجه عالم الرواية ونبوغه فيه على خلاف رغبته الأصلية التي كانت -كما ذكرنا - دراسة الفلسفة، إذ لاحت الفرصة له مطلع الثلاثينيات إثر ترشيحه لبعثة من عشرة خريجيين جامعيين لدراسة اللغة الفرنسية في فرنسا، وكان ينبغي أن تتضمن إثنين من الأقلية المسيحية حسب توصية شخصيات عليا نافذة ، وبعدما أخذ محفوظ كل أستعداداته من حاجبات وملابس وتجهيز حقيبة السفر فوجيء باستبعاد إسمه من القائمة : " اكتشفتُ أن إدارة البعثات أشتبهت في اسمي وظنت أنني قبطي، وبما أن هناك إثنين من الأقباط … فقد رفعوا إسمي منها اكتفاء بهما". ومما عزز الاشتباه في إسمه بأنه قبطي خلوه كما يقول من إسم والده "عبد العزيز" الدال قطعياً على كونه مسلماً ! فكان أن توجه بعدئذ لكتابة القصة والرواية في ضوء هذه الخيبة غير المتوقعة وأن لكن ظل لشغفه بالفلسفة ودراسته لها في مرحلة الليسانس أثر في عدد من رواياته ذات البُعد الرمزي الفلسفي. ومن محاسن الصُدف أن اُفتتح قبل نحو عامين في وقت شبه متزامن متحفين، الأول للدكتور نجيب محفوظ الطبيب الذي ولّد والدته حينما كان جنيناً في بطنها ويقع في مستشفى القصر العيني ويضم الأجنة المشوهة التي قام بتحنيطها بغرض استفادة أساتذة وطلبة الطب منها، وكان المتحف في الأصل أنشأه الطبيب نفسه ، لكن جرى هذه المرة تطويره . أما المتحف الثاني فهو لنجيب محفوظ الروائي الكبير ويقع في "تكية أبوالذهب" بجوار الأزهر قرب الجمالية الحي الذي وُلد فيه وترعرع ، ويضم كامل مؤلفاته من روايات وقصص وخلافها وما كُتب عنها مع مجموعة كبيرة من الصور الخاصة بحياته والشهادات والأوسمة التي حصل طوال مسيرة حياته وكذلك مقتنيات محفوظ الشخصية .