الخواطر بين العقل والخيال


محمود الرشيدي
2021 / 12 / 5 - 03:03     

شيء من الخواطر يراودني بإلحاح، أعمل على تغييبه في كل مرة فيرتد ، ربما جرأتي لم تنضج بعد لتتحمل انعكاس نسيج افتراضاتي الشقية/البئيسة مِنِّي عليَّ ، وعلى المتلقي. ذاك الذي تأتيني شبه نبوءات  على ردود أفعاله عما يخطر ببالي من أفكار وهي لازالت في حضن السرية، أتقول بيني وبين نفسي على الغير ما لم يقله عني بعد ، وأسرح في الظنون الذاتية والغيرية وكذا الموضوعية الهلامية .
هذه في واقع أمري كالهواجس أثناء نومي ، لا أخرج منها إلا بالإستيقاظ والتنبيه العنيف ، [..........]
في هذه الأثناء بالضبط وأنا أحاول بناء هذا النص غمرتني فرحة المنتشي بالنصر وأنا أستكمل فقرة أحسبها من أروع ماأنتجته أفكاري ضمن هذه الخاطرة عندما لست أدري كيف انزلق أحد أصابعي فوق لوحة الكتابة وعلى أي زر تم الضغط لتغور الفقرة الجميلة ، وانطمست في ذهني ، كما ابتلعها المجهول من أمامي ، ولم أعد أتذكر لا شكلها ، ولا مضمونها ، ولاحتى كلماتها . والأغرب أنني أجهدت نفسي لإسترجاعها ، واجتررت أفكاري اجتراراً ، أو ما أتذكره منها على الأقل ، كما يجتر الحيوان العاشب علفه من معدته ، لكن مسعاي لاجدوى له .
الحادث هذا ، غَيَّبَ عني شحنة أحسستها بهجة ، انشرح لها أو بها حالي ، وانجلت تلك الغيوم الداكنة من صفحة سمائي ، إلا من نتف قليلة ناصعة البياض ، وكأنها رُتِّبَتْ للزينة . كل هذا  وأنا أنسج إشراقاتي في أفكار ، لِأَنْثُرَها كأريج يلامس عبقه أعماق أمثالي ، ممن أرهقهم نصيبهم من المكتسبات المعرفية ، والعرفانية ، والتجارب الحياتية   والإنسانية ؛ من احتمالات وافتراضات وأشباه حقائق ، لايقين لهم عليها ، إلا من صراعات داخلية وذاتية ،  لمْ تَسْتَوِ بَعْدُ إلى رجحان .
إنه بَوْحٌ مات قبل أن يحيى، لمْ يُكْتَبْ له أن يُسْعِدَ أحداً ، أو على الأقل لم تَتَحَسَّسْه سُخُونَةُ الإنتعاش كما تَحَسَّسَتني ،  عندما راودتني تلك الأفكار ، وزَرَعْتُها بذوراً من مداد ، ساح والْتَهَم ما حوله من ألوان زاهية ثم انطفأت .
أفكاري ، أخالها في أحايين كثيرة نتاجا من مخلفات الزمن الجائر ، وهو يغتصب الحيوات،شَديدُ الولع أو البغض ربما للجميل منها ، سواء بطبيعته ، أو على الأقل ما نُجَمِّلُه نحن بدافع الإدمان .
لا أخجل من تناقضاتي ، لأنني لست الوحيد في صنعها ؛ ذلك أنني أعلم أن لي فيها شركاء ومساهمين، وحتى فيما لا أبوح به ، لهم في كتمي له نصيب  .
قد تأتي الخواطر مُجَزَّأَةً ، تتراقص سابحةً ، مُتَناثِرةً ، مُتَلَحِّفةً في ظلام الليل ، كما لو أنها مَدعورةٌ مُرتبكةٌ هاربة . وقد تكون زيارتُها على ضوء النهار  تُسابقُ زمنَها ؛ كأنها نُدَفٌ من الثلج ، تَدْرُوها الرياح على صراط قوس قزح ،  تَتَكَوَّمُ في فوضى بأشكالها وألوانها ، لا يلم شتاتها إلا طفل أو فيلسوف ، لأن الأجزاء  والجزيئات فيها تتطلب دِقَّةَ الفنّان ، وحِنْكَة الحكيم في تركيب إبْداعٍ تَعَدَّدَتْ معانيه وتَرامَى فيه وعلى جوانبه المفهوم ، والمرموز ، والسريالي والمعقد ؛ كأنه نتاج فوضى اللامعنى ، أو نِيَّةٌ شبحيةٌ شَكْلُها هلامي ،  وملامحها خَطٌّ يَنْتَظِر ميلاد من يَفُكُّ رموزه ، ويجوز لمن يَعْبُرُ الرؤى أن يدلو بدلوه .
اللامعنى في قاموسي المُبَطَّن هو أنني غالبا ما أَجِدُنِي مُتَسَلِّلاً ، أو أُرْغِمُ نفْسي على التلصص بعقلي في متاهات خيالي ، ذاك العالم المغلف الأجوف المتعدد الأبعاد : أبعاده لا تستقر على حال ، من المتناهي إلى اللامتناهي ، ومن المعقول إلى اللامعقول ، قَعْرُهُ طحينٌ رمادي ، شديد النعومة في ملمسه ، يُعيقُ التنقل عليه . اللون القرمزي المتدرج يؤثث فضاءه من الأسفل في اتجاه الأعلى ، لست أدري متى تَعلمتُ السباحة فيه بخفة وانسياب ، وبدون عناء . المَشَاهِـدُ فيه أنا من يحاول بناءها ، ولا أتحكم في استقرارها ، هناك تسريع في صور الشريط ، أو تحكمات أخرى لا أُدرِكها ، هل القصور في طاقاتي؟ أم هو ثقب قرمزي على غرار الأسْوَد ؟ يَلْتَهِم داخِلَهُ وكل من يقترب منه بطريقته القرمزية؟
هذا كذلك يُضاف في سلة الجهل التي تؤثث ثرائي .
نادراً جداً ما أنجح في سرقة أو اصطياد لمحة من مخلفات من لا أُبَرِّئُه في أنه هو في واقع الأمر مَن يَستدرجُني لشَلَّالِه المنهمر الفَوَّار ، فقط لِأُسْقِط في بَحْره وفي غفلة مني ما أشعر به ، كما حصل إبان اختفاء الفقرة المفقودة من هذا النص. وصفي هذا يكاد يوحي بأننا نبني بعقلنا ما يشاء في خيالنا، ثم نخفي ما يشاء ونبوح بما نشاء، والعكس ممكن ، وكذلك جميع الإحتمالات .
معادلة المقابلة في هذا البناء  تفرض بقوة المنطق الإستنتاج الحتمي الآخر وهو أننا نبني بخيالنا ما يشاء في عقلنا كذلك .
بناء العقل في الخيال أفكار تبقى في مجملها أقرب إلى البوح والإفصاح. أما بناء الخيال في العقل فحصاده وإن أمكن لا سبيل بعد ولا وسيلة لفهم مجمله ولربما كله ؛ على غرار قصور إدراك العين للمشاهد بسبب وتيرة السرعة عند تدفق الصور ، ليبقى التشوه ميزة الكائن  أو الخاطرة ، إن لم يكن فقط لجانب من شَكْلِهِما أو طَيْفهما ؛ وهو الأصح في اعتقادي .