في الحاجة إلى طوبى عالمية جديدة


ياسين الحاج صالح
2021 / 11 / 30 - 18:50     

تواتر في الغرب في سبعينات القرن العشرين وثمانيناته نقد اليوتوبيا (الطوبى)، بالتوازي مع تخثر الوعد الاشتراكي على نحو ما تجسد في الاتحاد السوفييتي و"المنظومة الاشتراكية" في حينه. كان ضرب من نزع السحر عن "الاشتراكية الواقعية" قد أخذ يجري منذ المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي الذي كشف فيه خروتشوف جرائم الستالينية من مجاعات ومعسكرات اعتقال وسخرة وحملات تطهير قضت على ملايين، منهم معظم الرعيل البلشفي الأول. هناك أمثلة على "انقشاع الوهم" تعود إلى ثلاثينات القرن العشرين، لكنه صارت ظاهرة بعد المؤتمر المذكور الذي سبقه سحق الثورة المجرية بالدبابات السوفييتية في خريف 1956، بعد شهور قليلة من خطاب خروتشوف، وهذا قبل أن يشتد النزيف الفكري والأخلاقي بعد سحق ربيع براغ 1968. أخذ يجري ربط ضروري بين الطوبى وكل من الغولاغ والركود السياسي والاقتصادي، وذلك في سياق كانت تخيم عليه أجواء الحرب الباردة. هذا ما سهل إدراج نقد الطوبى الاشتراكية في تسويغ واقع تسوده الرأسمالية التي أخذت تبدو النظام الاجتماعي الاقتصادي "الطبيعي" أكثر من أي وقت سبق منذ أيام ماركس في القرن التاسع عشر. ولم تكد تنتهي الحرب الباردة بتفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار الاشتراكية الواقعية حتى كان فرانسيس فوكوياما يتكلم على نهاية التاريخ، أو استنفاد الديمقراطية الليبرالية لممكنات التاريخ.
المناخ الفكري الذي ساد بعد نهاية الحرب الباردة تهيمن فيه الليبرالية الجديدة، أو أصولية السوق التي تعول على الأسواق كناظم اجتماعي، وتشجع الخصخصة وتطلق يد أصحاب الثروات في العمليات الاقتصادية وتعادي الوظائف الاجتماعية للدولة. وبسرعة عاد قوياً وغير ملجوم المنزع الاستقطابي للرأسمالية والميل إلى مراكمة الثروات في أيدي أقليات اجتماعية، وجدت نفسها في حل من العقد الاجتماعي الاشتراكي الديمقراطي الذي كانت الاشتراكية اضطرتها إليه قبل هزيمتها. فقد المهزومون معنوياتهم والقدرة على حماية شيء من مشروعهم، فيما استسلم المنتصرون لغرائزهم القديمة في غمرة الاحتفال بالنصر. وبين دوخة الهزيمة وسكرة النصر ضاعت تطلعات التجاوز ومعها البحث عن بدائل أكثر حرية وعدالة.
"نهاية التاريخ"، كنظرية، تراجع عنها صاحبها بعد حين، لكنها استقرت كواقع نهائي بلا بدائل، أي كتكرار للشيء نفسه سياسياً واجتماعياً. وحدها التكنولوجيا ظلت تأتي بالجديد الذي يُستوعَب ضمن النظام الرأسمالي نفسه. وبعد أن كان ماركس يرى أن قوى الإنتاج، ومنها التكنولوجيا، تدخل عند مرحلة معينة من تطورها في تناقض مع علاقات الإنتاج فتفتح السبل لتغيرها، صارت الثورات في قوى الإنتاج مناسبة أكثر للحفاظ على علاقات الإنتاج نفسها، أي تجنب الثورة الاجتماعية والسياسية. ملوك التكنولوجيا الحديثة يملكون ثروات بعشرات أو مئات المليارات، وسياستهم الاجتماعية هي شكل محدث من الإحسان يذهب إلى قطاعات أفقر أو بلدان أفقر، وهو ما يضفي بعض المرونة والخيرية على النظام. وفي النتيجة ستبدو الرأسمالية هي البديل الوحيد عن نفسها.
لكن هذا وهم. لا يوفر أي نظام اجتماعي اقتصادي سياسي عرفته البشرية بديلاً عن نفسه، ينتهي به التاريخ. كانت رأسمالية منقحة اشتراكياً ديمقراطياً هي البديل عن نفسها لأنها استبطنت بعداً طوباوياً ضمنياً هو ما أخذ يجري التخلي عنه بعد الحرب الباردة. ما نحصل عليه هو عالم بلا وعود ولا أمل. البديل في عالم كهذا يجنح لأن يكون مطلقاً أو مجرداً، بقدر ما يكون النظام القائم مغلقاً، مقاوماً لأي جهود إصلاحية، فلا يتحقق بغير العنف والإرهاب. هذا هو مؤدى تحليل هيغل للإرهاب إثر الثورة الفرنسية، وهو ينطبق على "الإرهاب الأحمر" الذي عرفته روسيا البلشفية، كما على الإرهاب الإسلامي. كان التحليل الهيغلي ألهم التحليلات التي تربط بين اليوتوبيا ككناية عن الاشتراكية وبين معسكرات الاعتقال والعمل الإجباري.
على أنه يمكن للبديل أن يأخذ شكلاً تقدمياً، شكل طوبى ضمنية مستبطنة، بقدر ما يكون النظام مفتوحاً وتتاح فرص لإدخال مزيد من التعدد فيه. كان هذا متاحاً في الغرب الرأسمالي، لكن الأمور تتجه اليوم نحو تعدد أقل لا نحو تعدد أكثر. وتشير مقاومة التعدد الجديد الذي يتمثل في المهاجرين واللاجئين، أو رفض إعادة هيكلة الدولة والسياسة حول فكرة مجتمعات ما بعد هجرية، وبالعكس التهويل من سيناريوهات "الإحلال الكبير" ومخاطر أسلمة أوربا، ثم عودة سياسة الحدود وبناء الجدران العازلة، تشير إلى غلبة ميل انكفائي، لا يمكن للديمقراطية أن تصمد في وجهه على المدى الطويل. كانت الاشتراكية إنقاذاً للديمقراطية في زمن سبق، وضرب من الاشتراكية، عالمي، هو ما يمكن أن ينقذها اليوم.
والمسألة راهنة. فبعد ثلاثين عاما من نهاية الحرب الباردة ليس هناك بديل في بلدان الغرب غير منظمات أو أحزاب اليمين القومي الشعبوي (الحزب الألماني اسمه "البديل من أجل ألمانيا")، ولا رؤية للسير إلى الأمام أو باتجاه مشروع مغاير. من جهة يبدو أنه لا مجال لمشروع أو بديل على نطاق قومي أو جهوي، أي لا يكون عالمياً. ومن جهة ثانية، يبدو أن المنتصرين في الحرب الباردة لا يزالون في مواقع قوية جداً، ليس في الاقتصاد والسياسة فقط، ولكن فكرياً أيضاً، بما يحيل البدائل غير القومية إلى هوامش ضيقة غير مؤثرة.
في بلداننا التي يمكن تعريفها سياسياً بوضع اللابديل، أي مشروع الحاضر الأبدي، على ما في هذا التعبير من تناقض، تولدت بدائل ماضوية متوحشة، في صورة الإسلامية المقاتلة أو في صور الجماعات الأهلية المسلحة. خبرنا الاثنتين، وهما الشيء نفسه تقريباً، في سورية. الوضع مماثل بنيوياً في الغرب. هناك حالة من اللابديل منذ أيام مارغريت تاتشر ورونالد ريغان، وهي تقوم على تكرر المنظومة نفسها بما يشكك قطاعات متسعة من الجمهور في السياسة والمؤسسات العامة، فلا تتكرر المنظومة عملياً بل تنحدر وتتفرغ من مضمونها. قد نكون بالفعل في شرط ما بعد ديمقراطي مثلما عبر كولن كرواتش، الأكاديمي البريطاني، في كتاب بهذا العنوان صدر عام 2002. المؤسسات الديمقراطية تبقى، لكن محتواها السياسي النشط يضمحل، وتنتشر السلبية واللامبالاة في أوساط الجمهور. وقد يكون ماكرون في فرنسا وترمب في أميركا من ظواهر فقد الثقة في المؤسسات والمنظومة السياسية. حزب البديل من أجل ألمانيا والجبهة الوطنية في فرنسا يصيران خيارات أكثر وجاهة في منظومة ضمر بعدها الطوباوي.
هذه أوضاع خطرة. وقد نكون على بعد أزمة كبيرة واحدة من تحولات عالمية أشد خطورة. إذا كانت سورية الصغيرة قد غيرت العالم بهذا القدر فإن انهيار بلد أكبر مثل أثيوبيا أو مصر أو السعودية أو إيران أو تركيا قد يتسبب في موجات لجوء وعنف واسعة النطاق، وإلى موجة قومية أقوى الغرب. وقد يحدث ذلك بإيقاع أقل درامية بفعل اللجوء البيئي الذي يتسبب به تسخن الكوكب.
هناك حاجة إلى مشروع جديد، عالمي، طوبى. عالم متجاوز ومتصل بعالم اليوم في الوقت نفسه. ولعل الطوبى لا تكون طوبى إن لم يكن فيها عنصر خيالي، مركب من الأمل والحلم، مستقل عن ديناميكيات اليوم. تبدو متناقضة فكرة طوبى محايثة، حاولتُ من خلالها ألا أكون طوباوياً. لكن لعلنا مهددون اليوم بواقعية بلا أمل أكثر مما بأمل غير واقعي. قفزة الأمل هي ما تلزم.
ولعلنا نعرف وجهة القفزة سلفاً: مجتمع عالمي، نعرف أنه موجود سلفاً بقدر ما على ما يشهد كوفيد 19 وثورة الاتصالات ومشكلات البيئة والإرهاب، لكنه متميز بسويات عالية من اللامساواة والتمييز، وباحتياطيات ناضبة من الأمل. ما ليس موجوداً هو تحويل عالم متضامن، أكثر مساواة وعدالة وحرية، إلى وجهة نضال وعمل اليوم. الإرهاب الذي قد يصدر عن تفكير مجرد، يمكن التفكير فيه كنائب لطوبى غائبة، لمشروع عالمي مغاير.