من المُلام؟ كيف نشأ الخلاف بين قادة الصين الماويين، والاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية الأُخرى (4)


مالك ابوعليا
2021 / 11 / 27 - 14:42     

الكاتب: الصحفي السوفييتي أوليغ ايفانوف

ترجمة مالك أبوعليا

قضية الاختصاصيين السوفييت والتعاون العلمي التكنولوجي

بالاضافة الى سعيها لتقويض السياسة الأممية للحزب الشيوعي السوفييتي والحكومة السوفييتية وتحميل السوفييت المسؤولية عن الاخفاقات الاقتصادية الصينية في زمن سياسة (القفزة) ومُفاقمة الأزمة في العلاقة السوفييتية-الصينية، تستمر الصين في تشويه مسألة الاختصاصيين السوفييت. في هذا الوقت الذي يتم التنديد بتجارب الماويين في أواخر الخمسينيات حتى داخل الصين باعتبارها أخطاء، تجد بكين صعوبةً في ترويج أفكارها الزائفة فيما يتعلق بالاختصاصيين السوفييت، أكثر من أي وقتٍ مضى.
لقد قام الحزب الشيوعي والحكومة السوفييتيين مراراً وتكرارً بتفسير الموقف الحقيقي من مسألة الاختصاصيين. تم ارسال أكثر من 10000 اختصاصي سوفييتي الى الصين بناءاً على طلب الحكومة الصينية قبل عام 1960. هناك قام الاختصاصيون بنقل خبراتهم المهنية الى الشعب الصيني. من الواضح أن عملهم قد أثمر، لأنه تم تقييم هذه الثمار عالياً من قِبَل القادة الصينيين الذين تحدثوا على نطاقٍ واسع الى الشعب الصينين حول الحاجة الى الاستفادة من التجربة السوفييتية. قال تشو انلاي، في خطابه في المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي الصيني عام 1956: "قام الاختصاصيون السوفييت واولئك القادمون من الديمقراطيات الشعبية بتقديم مساهمة بارزة في بناءنا الاشتراكي". أما لي فوتشون Li Fuchun نائب رئيس مجلس الدولة الصيني فقد قال في 29 أيار عام 1959: "ان المشاريع التي صُمِمَت وبُنيت في بلدنا بمساعدة السوفييت تُجسّد بالفعل أفضل وأحدث ما كان يملكه الاتحاد السوفييتي تحت تصرفه. هذه المشاريع هي العمود الفقري لصناعاتنا، ليس فقط من حيث حجمها، بل أيضاً من حيث مستواها التكنولوجي... نحن كنا نعلم من قبل، وهذا ما تؤكده الحقائق، أن جميع الاختصاصيين ومؤسسات التصميم السوفييتة قد بذلوا قصارى جهودهم لضمان أن تُجسّد هذه المشاريع أفضل ما تُقدمه التجربة السوفييتية وأنها هي الأفضل في العالم، وقد نجحوا في ذلك. هذا هو تقييمنا للمساعدات التي قدمها لنا الاختصاصيون والمُنظمات السوفييتية". وأدلى قادة شيوعيون صينيون آخرون بتصريحات مُماثلة.
كان الاتحاد السوفييتي دائماً يأخذ بالاعتبار مسألة أهمية تطوير العلاقة بين المُتخصصين السوفييت والكوادر الصينية المحلية. حَرِصَ الجانب السوفييتي على عدم اعاقة مُبادرة الكوادر الصينية وتطورهم السريع، مع الأخذ بعين الاعتبار النمو السريع للكوادر التكنولوجية الوطنية في الصين. ولهذا السبب سألَ الاتحاد السوفييتي من القيادة الصينية رسمياً في أعوام 1956 و1957 و1958 عما اذا كان الوقت قد حان لعودة الاختصاصيين السوفييت الى بلادهم. ردت الصين على السؤال بأنه يجب على الاختصاصيين أن يظلوا في البلد.
في عامي 1958 و1959 بدأت التقارير تتوالى حول سوء مُعاملة السلطات الصينية للاختصاصيين السوفييت. كان هذا هو الوقت الذي بدأت فيه حملة "الشعارات الحمراء الثلاث" الماوية تُطبّق في الصين. وبقدر ما لم يستطع الشعب السوفييتي دعم هذه الحملة المُغامرة التي تتعارض مع المبادئ الاقتصادية الاشتراكية اللينينية والمعايير التكنولوجية، صار الاختصاصيون السوفييت يُعاملون بازدراء على أنهم "مُتخلفين تكنولوجياً" و"مُحافظين" ولم تعد هناك حاجة لتوصياتهم. أدت المغامرة التكنولوجية والصناعية الى حوادث خطيرة أسفرت عن وقوع اصابات في كثيرٍ من الحالات.
تم التعامل مع الاختصاصيين السوفييت الذين كانوا يؤدون واجبهم الأُممي بأمانة بظلم وانعدام ثقة علني، وتم تفتيش ممتلكاتهم الخاصة سراً، وما الى ذلك. بدأوا بالاحتجاج على السلطة الصينية رداً على هذا النوع من التعامل مُعتبرين أنه يُشكل اهانةً لهم. في مُقابلةٍ مع نائب وزير وزارة الهندسة الميكانيكية وانغ داوهان Wang Daohan، كان لدى الاختصاصي السوفييتي زوسيمينكو Zosimenko الذي كان يحتج على تفتيش في مُمتلكاته الشخصية كل الأسباب ليقول: "كان الأمر مفهوماً عندما كان يتم التفتيش في حقيبة مُمتلكاته الشخصية عندما كنت في ألمانيا عام 1937. لكنني لا أستطيع أن أفهم ما يجري هُنا الآن".
في مُحاولةٍ منهم لحفز استدعاء الاختصاصيين السوفييت من الصين وبالتالي خلق ذريعة أُخرى لمزيدٍ من تفاقم العلاقات السوفييتية الصينية، بدأت القيادة الصينية تفرض على الاختصاصيين السوفييت وجهات نظهرها المُناهضة للينينية بشأن المسائل الأُممية وتحريضهم ضد الحزب الشيوعي والحكومة السوفييتيتان. أثار هذا الاجراء سَخَط الشعب السوفييتي الذي بدأ يتقدم بالحصول على أذون من الحزب الشيوعي والحكومة السوفييتية اما لرفض الأعمال الاستفزازية الصينية أو بباستدعاء الاختصاصيين الى وطنهم.
واجَهَ الجانب السوفييتي خيار اما السماح للاختصاصيين السوفييت بالدخول في مناقشات من شأنها حتماً أن تزيد من حدة الخلافات، أو استدعاؤهم، وبالتالي منع نشوب أي صراع بينهم وبين الجانب الصيني. قبل اتخاذ قرار نهائي، اتصلت الحكومة السوفييتية بالقيادة الماوية وطلبت منها تهيئة ظروف عمل مُلائمة للاختصاصيين السوفييت حيث ذكرت لهم الأولى الحقائق ذات الصلة التي حدثت مهم. وحذرت الحكومة السوفييتية أنه سيتعين عليها استدعائهم الى الاتحاد السوفييتي بخلاف ذلك. نظراً الى أن الجانب الصيني لم يُعر الطلبات السوفييتية المُتكررة أي اهتمام، فقد تم ارسال مذكرة رسمية الى الحكومة الصينية في 16 حُزيران عام 1960 تُبلِغُ فيها الصين أنه لم يتبقى لديها أي خيار سوى استدعاء الاختصاصيين.
ومما يُثير الاهتمام أن الحكومة الصينية لم تعتبر أنه من الضروري الرد على المذكرة عندما تلقتها. فقط بعد أن غادرت المجموعة الأولى من الاختصاصيين السوفييت أصدرت وزارة الخارجية الصينية بياناً رسمياً يطلب بقائهم في البلاد، مُصرّةً طوال الوقت على "حقها" في اخضاعهم للدعاية الموجهة ضد سياسة الحزب الشيوعي السوفييتي والحكومة السوفييتية.
كان هذا السلوك مؤشراً اضافياً على أن بكين لم تكن مُهتمةً بوجود اختصاصيين سوفييت في الصين. بذل الماويون منذ عام 1958 قصارى جهودهم لجعل وجود الاختصاصيين في بلادهم مُستحيلاً. ومن الجدير بالذكر أن الصين لم تقم أبداً بالرد على الاقتراحات السوفييتية اللاحقة من أجل اعادة الاختصاصيين السوفييت بشرط منحهم ظروف عمل مُلائمة. تم تقديم هذه الاقتراحات مراراً وتكرارً وتم ادراجها في رسالة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي الموجهة الى اللجنة المركزية لحزب الصين في 19 تشرين الثاني عام 1963.
ومع ذلك، أثارت آلة الدعاية الصينية ضجةً كبيرةً حول هذا الأمر، مُدعيةً أن "الاستدعاء التعسفي" للاختصاصيين السوفييت من الصين قد خلق صعوبات هائلة.
زعُمَت الرسالة المذكورة أعلاه الصادرة عن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني في 29 شباط عام 1964، ومنشورات صينية أُخرى، أن رحيل الاختصاصيين السوفييت قد أُثّرَ على تنفيذ الخُطط الاقتصادية الصينية. ان الطبيعة التي لا أساس لها من الصحة لمثل هذه التصريحات بديهية لأن الخُطط الاقتصادية الوطنية الصينية، ان كان يُمكن للمرء أن يُطلق عليها هذا، مع أخذ سياسة "القفزة" في الخمسينيات والستينيات بعين الاعتبار، كانت مشلولة على وجه التحديد في تلك القطاعات الاقتصادية-الزراعة وتنجيم الفحم والنقل- حيث لم يتم توظيف اختصاصيين سوفييت على الاطلاق، أو كان هناك عدد ضئيل للغاية منهم.
في صيف عام 1960 كان هناك ما يَقرُب من 1100 أو 80% من العدد الاجمالي للاختصاصيين السوفييت، (أي 1390 مُتخصصاُ)، يعملون في نظام وزارة الهندسة الميكانيكية وفي صناعة الحديد والصلب. بالحكم من خلال الوثائق الصينية، كان الوضع في مشاريع صناعة الحديد والصلب وبناء الآلات في الصين طبيعياً نسبياً. كان الفشل يعتري الصناعات المعدنية "صغيرة النطاق" و"التقليدية" الحِرَفية والتي لم يكن لدى الاختصاصيين السوفييت أي شيء يفعلونه حيالها على الاطلاق.
كم عدد الاختصاصيين السوفييت الذين تم توظيفهم بالفعل في الصناعات التي عانت من أكبر الانتكاسات؟ كان هناك 4 اختصاصيين سوفييت في تنجيم الفحم و4 في وزارة اقتصاد الدولة وواحد في وزارة الزراعة. لم يكن العديد من الاختصاصيين السوفييت مُرتبطين باقتصاد الدولة بأي شكلٍ من الأشكال (140 اختصاصياً). كانوا يعملون في المجالات الثقافية والطبية وغيرها من المجالات غير المُنتِجة. لذلك، لا توجد أي أسباب على الاطلاق للادعاء بأن رحيل الاختصاصيين السوفييت قد أثّرَ سلباً على الاقتصاد الصيني.
زَعمت القيادة الصينية، على عكس كل منطق، بأن الصين لم تكن بحاجة الى اختصاصيين سوفييت. ان كان هذا هو الحال، فلماذا أُثيرَت مثل هذه الجَلَبة حول هذه المسألة ولماذا تم عزو تدهور العلاقات السوفييتية الصينية الى الانتكاسات الاقتصادية التي يُزعَم أن الصين قد عانت منها بسبب رحيل الاختصاصيين السوفييت؟ من الواضح أن الماويين اختلقوا قصة الاختصاصيين السوفييت بهدف اثارة العداءضدهم بين الشعب الصيني وخلق ذريعة لتحويل سياسة الصين العالمية من كونها جُزءاً من منظومة الدول الاشتراكية الى سياسة قائمة على المُغامرة وطموحات القوة العُظمى. زعم القادة الماويون في رسالة من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني في 29 شباط عام 1964، وفي الوثائق اللاحقة، أن الحكومة السوفييتية "ألغت 257 مشروعاً للتعاون العلمي التكنيكي" مع الصين. تقدم السجلات صورةً مُختلفة تماما. انها تُظهِر أن الجانب الصيني في 31 تشرين الأول عام 1960هو الذي قدّم اقتراحاً لمراجعة جميع الاتفاقيات والبروتوكولات القائمة بشأن التعاون العلمي التكنيكي السوفييتي-الصيني. في 12 شباط عام 1961 سلّمَ المُمثلون الصينيون الذين شاركوا في المُحادثات حول التعاون العلمي التكنيكي، مسودة خطاب يحتوي على اقتراح لاعتبار اتفاقية التعاون العلمي التكنيكي بين الجانبين الموقعة في 12 تشرين الأول عام 1956 لاغية، والاتفاقية الصينية السوفييتية الموقعة في 18 كانون الثاني عام 1958 بشأن البحث العلمي التكنيكي المُشترك والمساعدة السوفييتية في هذا المجال، وكذلك الاتفاقيات والبروتوكولات الأُخرى بشأن التعاون العلمي التكنيكي الموقعة من قِبَل الوزرات والادرات التابعة للأطراف المُتعاقدة على أساس الاتفاقات المذكورة أعلاه، كلها لاغية. من خلال هذه الاجراءات، ألغت الحكومة الصينية التزامات الاتحاد السوفييتي بتقديم وثائق تكنولوجية (1129 مشروعاً) الى الصين واستضافة الاختصاصيين الصينيين بهدف تعريفهم بالانجازات السوفييتية في 26 مشروعاُ، وكذلك التزام الصين بتسليم وثائق تكنولوجية لـ159 مشروعاً الى الاتحاد السوفييتي واستقبال الاختصاصيين السوفييت في 68 مشروعاً.
كل هذا يدل على أن الحكومة الصينية هي وحدها التي تتحمل المسؤولية عن تقليص التعاون الاقتصادي والعلمي التكنيكي وأنها فعلت ذلك لنفس السبب: لقد كانت تتخلى عن سياسة الصداقة مع الاتحاد السوفييتي من أجل سياسة العداء والمواجهة.
في تلك السنوات نفسها، قلصت الصين تعاونها الاقتصادي ليس فقط مع الاتحاد السوفييتي ولكن مع الدول الاشتراكية الأُخرى. بحلول عام 1962 انخفض حجم تجارتها مع دول مجلس التعاون الاقتصادي الى ما يقرب الثلث عام 1959، وانخفض بنسبة أكبر عام 1963 ليصل الى 20%.

ترجمة من كُتيّب:
Who is to blame? How differences arose between china s Maoist leaders and the USSR and other Socialist Countries- Oleg Ivanov
Novosti Press Agency publishing House 1981