حول مُشكلة ثورة العصر الحجري الحديث في ضوء البيانات الأركيولوجية الجديدة


مالك ابوعليا
2021 / 11 / 25 - 15:46     

كاتب المقالة: فاديم ميخايلوفيتش ماسون*

ترجمة مالك أبوعليا

كان الانتقال الى حراثة التربة والرعي، أو بالمصطحات المُعاصرة، الى اقتصادٍ مُنتج، من أهم العمليات في تاريخ الانسانية. انجلز نفسه اعتبر "تدجين وتربية الحيوانات وزراعة النباتات" كسمة مُميزة للعصر الجديد، والذي أطلَقَ عليه البربرية مُستخدماً مصطلح لويس هنري مورغان. كَتَبَ انجلز في كتابه الشهير عن المراحل الأولى في التاريخ: "في وسعنا أن نُعمم كما يلي تقسيم مورغان للمراحل: الوحشية، المرحلة التي يُهيمن فيها امتلاك المنتوجات الطبيعية الجاهزة، المنتوجات التي يثنعها الانسان تُشكّل أساساً أدوات تُساعد في هذا الامتلاك. البربرية، مرحلة بداية تربية الماشية والزراعة، مرحلة تحصيل الطرائق لزيادة انتاج المنتوجات الطبيعية بفضل النشاط البشري. الحضارة، مرحلة استمر فيها تعلّم مُعالجة المنتوجات الطبيعية، مرحلة الصناعة بالذات ومرحلة الفن"(1). ومع ذلك لا يجب أن ننسى أن تحقيب انجلز-مورغان يعود الى فجر علم الآركيولوجيا البدائي، وأنه يستند الى درجة كبيرة على المواد الاثنوغرافية. أكّد المزيد من تراكم البيانات الأركيولوجية بقوة أكبر على الاختلاف النوعي الأساسي بين الفترتين، مما جَعَلَ من الممكن للأركيولوجي الانجليزي جوردون تشايلد Gordon Childe (1892-1957) أن يقترح مصطلح "ثورة العصر الحجري الحديث" الذي يُقصَد به الانتقال الى فلاحة التربة وتربية المواشي. تشايلد نفسه لم يُخفِ حقيقة أنه طَرَحَ هذا المُصطلح مثل المُصطلح الآخر "الثورة الحضرية" الذي لن نُعالجه في هذه المقالة(2)، والذي هو مُحاكاة للثورة الصناعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر(3). تم قبول هذا المُصطلح بين الأركيولوجيين والمؤرخين السوفييت بحذر الى حدٍ ما في البداية بسبب الميل السائد في وقتٍ ما الى اعتبار الثورة بمثابة نهوض اجتماعي في المقام الأول(4). ومع ذلك، فقد اكتسب هذا المُصطلح في السنوات الأخيرة قبولاً مُتزايداً في أدبنا أيضاً(5).
بطبيعة الحال، فان الشكوك القائمة على اعتبارات تكنولوجية محضة، يصعب الدفاع عنها. نحن نعلم أن ماركس استخدم على وجه التحديد مُصطلح الثورة الصناعية(6).ترَسّخَت في السنوات الأخيرة فكرة أن ثورةً علمية تكنولوجية ذات جذور عميقة تحدث حالياً في المصطلحات العلمية والاجتماعية والسياسية، ويستخدمها المؤرخون الماركسيون على نطاقٍ واسع. يبدو لي أن البيانات الأركيولوجية الحديثة ستجعل من المُمكن تحديد سمات التغيرات الأساسية التي حدثت في الاقتصاد في فجر التاريخ بدقة.
الاعتراض الرئيسي ضد مصطلح "ثورة العصر الحجري الحديث" في الأدبيات الأركيولوجية الأوروبية الغربية والأمريكية الحالية هو أن البيانات الجديدة تُشير كما يُزعَم الى تغير تدريجي (من جانب الانسان) في مصادر الغذاء والأشكال الاقتصادية الجديدة. بالنسبة للعلماء الذين تُضللهم الفترات الزمنية الطويلة للغاية التي تنطوي عليها هذه العملية، فان الأمر هو تطور تدريجي Evolution وليس ثورة(7).
ان الحقيقة هي أن هذا التغيّر، بناءاً على البيانات المُتاحة، تطلّبَ ما بين ثلاثة أو أربعة آلاف سنة(8) في الحالات التي لم يتم تحفيزه بتأثيرات خارجية مُكثّفة. ومع ذلك، من الضروري تجنب سحب المواقف المُتجّذرة في وضعنا اليوم عندما نتعامل مع مسألة مُعدلات التطور التاريخي. ان ما يبدو طويلاً وبطيئاً من وجهة نظر الحاضر قد يحتاج تقييماً مُختلفاً تماماً ان تمت دراسة نفس الظاهرة من منظور آلاف السنين من تاريخ العصر الحجري القديم والذي استمر لما يَقرُب من مليوني عام، وخصوصاً في ضوء أحدَث الأبحاث. من هذا المُنطلَق، فان الانتقال الى حراثة التربة وتربية المواشي، والذي كان الجوهر التاريخي لثورة العصر الحجري الحديث وحدد أهميته التاريخية، يقع في فئة التغيرات النوعية العميقة والتحولات الحادة والسريعة نسبياً من حالة نوعية الى أُخرى. كانت هذه عملية طويلة ومُعقدة في الحياة العملية للبشر وتسلسل الأجيال، وقد تضمنت، كما لاحَظَ تشايلد نفسه بحق، عدداً من المراحل المُتعاقبة(9). وفي هذا الصدد، ليس من قبيل المُصادفة أن المؤرخين في العصر الحديث قد حددوا عدداً من المراحل في تطور الثورة الصناعية(10).
استناداً الى حقيقة أن تقنيات جديدة مُعينة دخلت حيز الاستخدام في الصيد وصيد الأسماك خلال العصر الحجري الحديث(11)، ظَهَرَ اتجاه يُفسّر ثورة العصر الحجري الحديث على نطاق واسع، ساحبين هذا المُصطلح على جميع المُجتمعات التي أطلَقَ عليها الأركيولوجيين اسم العصر الحجري الحديث بغض النظر عن أساسها الاقتصادي. ينبع هذا النوع من مُعالجة المسألة من السعي الطبيعي لاطفاء طابع تاريخي على التحقيب الأركيولوجي التقليدي المُريح. ولكن، من الواضح تماماً أن المُحتوى التاريخي للفترات التي يُطلَق عليها بشكلٍ تعسفي العصر الحجري الحديث يختلف تماماً في الشرق الأدنى والحزام الشجري في أوروبا الشرقية. لا يوجد هناك مُبررات لتطبيق مُصطلح "ثورة العصر الحجري الحديث" على المُجتمعات التي استمرت في التطور من مُجتمعات قائمة على اقتصاد الجمع والصيد وصيد الأسماك. لا تؤدي أيٌ من التغيرات التي تحدث فيها بأي شكلٍ من الأشكال الى تحولاتٍ نوعية حادة في الاقتصاد ككل.
يبدو لنا أنه يجب على "ثورة العصر الحجري الحديث"أن تُفهَم على أنها تعني التغيرات الأساسية في مجال الاقتصاد المُعبّر عنها في التحول الى حراثة التربة وتربية المواشي باعتبارها الطريقة الرئيسية لانتاج الغذاء سواءاً كانت جمع أو عُزلة لأشكال المُتعددة لهذه الأنماط الاقتصادية.
ان مُصطلح "ثورة العصر الحجري الحديث" هو الى حدٍ كبير مُصطلح اتفاقي، وحتى تشايلد يضعه دائماً بين شارتي اقتباس عند الحديث عن ثورة أو اقتصاد عصر حجري حديث(12). يُفضّل بعض المؤرخين الأجانب الحديث عن "ثورة انتاج الغذاء"(13)، كما طُرِحَ مُصطلح "الثورة الزراعية"، الذي يُضيّق طابع التغيرات الاقتصادية في مُجتمعات العالم القديم. برأينا، فان مُصطلح تشايلد القديم لا يزال هو الأكثر مُلائمةً، شريطة أن يكون مُحتوى المُصطلح مُحدد بوضوح. وليس من قبيل المُصادفة أنه حصلَ على أوسع انتشار في الأدبيات العلمية.
ان أحد أهم المسائل هو تحديد المرحلة الأولية والأخيرة في ثورة العصر الحجري الحديث. كان تشايلد وبعض أتباعه المُباشرين يميلون الى تحديد فترة العصر الحجري الحديث بالكامل حتى فترة استدخال المعادن على أنها تقع ضمن ثورة العصر الحجري الحديث. يزداد هذا السؤال تعقيداً بسبب المستوى غير المُلائم للمعالجة النظرية والنُدرة الشديدة للمواد الوقائعية. من الواضح أن المعيار الرئيسي يجب أن يكون مستوى تطور الفروع الاقتصادية الجديدة المُهيمنة بغض النظر عن بقايا الأشكال الاقتصادية والثقافية القديمة الانتقالية. من الأصح تطبيق مُصطلح ثورة العصر الحجري الحديث على وجه التحديد على العملية التي يتم تتأسس الأشكال الاقتصادية الجديدة بموجبها، والتي وصلت ذروتها في بواكير مُجتمعات زراعة المحاصيل وتربية الحيوانات. من المؤكّد أن تربية الحيوانات وزراعة التربة استمرت في التطور بعد ذلك، كما تطوّرَت العناصر الحياتية والاقتصادية الأُخرى. ومع ذلك، فان هذا التطور لم يحمل طابع التغيرات النوعية الحادة. كانت التغيرات الاقتصادية الأساسية قد انتهت في أثناء هذا التطور، وكان المُجتمع يسير في حقبة جديدة أصلاً.
ان للظهور الأول لدور الأنواع المُستأنسة من النباتات والحيوانات في الاقتصاد ذو أهميةً قصوى لتحديد المرحلة الأولية لهذه الثورة. ان أول ظهور لتلك الحيوانات تُشير الى بداية ثورة العصر الحجري الحديث، تماماً كما كان اختراع جون وايت آلة الغزل عام 1735 بمثابة بداية الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر(14). تجب الاشارة الى نهاية ثورة العصر الحجري الحديث في الوقت الذي سيطَرَت فيه الفروع الاقتصادية الجديدة على النظام الاقتصادي مُؤمنةً ما لا يقل عن نصف المُنتجات الغذائية. وحتى لو كانت هناك امكانات اقتصادية مُرتفعة للصيد وصيد الأسماك والجمع في ظل ظروف مُختلفة أثناء تلك الثورة، فلن تُغيّر جوهرها (جوهر الثورة) على الاطلاق.
دعونا نُعالج الجوانب الرئيسية لثورة العصر الحجري الحديث في ضوء تلك التحديدات التي سبَقَ ذكرها، انطلاقاً من المواد الأركيولوجية في المقام الأول. ستظل الأدوات الأثرية التي اكتُشِفَت في آسيا الصُغرى وأمريكا الوسطى والبيرو (على الأقل حتى يتم ايجاد اكتشافات جديدة) أساس دراسة ثورة العصر الحجري الحديث في بيئات غير مُعقدة تعقيداً ناتجاً عن وجود حضارات مُتطورة قريبة ومتاخمة لها. في الوقت نفسه، يجب أن لا يغيب عن الأذهان أن التجمعات والثقافات الأركيولوجية تعكس عادةً السمات العيانية لتطور المُجتمعات البشرية في مناطق جغرافية مُحددة بكل تعقيدات الخصائص المحلية الطبيعية والتاريخية. لذلك، من أجل فحص الانتظامات العامة لثورة العصر الحجري الحديث، من المُستحسن اعادة بناء المُخططات والنماذج العامة، انطلاقاً من البيانات العيانية. يُمكننا اليوم التحدث بشكلٍ مؤقت عن ثلاثة مسارات أو نماذج لهذه العملية.
1- نموذج آسيا الصُغرى: يتميز باقتصاد قائم على الزراعة وتربية الماشية على أساس اقتصاد صيد والتقاط متطور للغاية. يتمثل هذا النموذج في نوعين رئيسيين: النوع الاقتصادي ذو الهيمنة الزراعية، والنوع ذو الهيمة الرَعوية.
2- نموذج أمريكا الوسطى: يتميز بتشكّل اقتصاد زراعي على أساس اقتصاد جامع للثمار عالي التخصص في ظل ظروف أزمة الصيد بسبب التغيرات المناخية القديمة.
3- النموذج البيروفي: يتميز بتأسيس اقتصاد تُهيمن الزراعة عليه في ظل ظروف لَعِبَ فيها الصيد والصيد البحري دوراً كبيراً بسبب التطور المُسبَق لأسلوب حياة مُستقر. في البداية كان لهذا العامل تأثير ايجابي على ولادة الزراعة، ولكنه لاحقاً مَنَعَ الانتصار الكامل لهذا النمط الاقتصادي الجديد عندما كان يوفر امدادات مُستقرة من المنتجات الغذائية.
دعونا نُعالج بايجاز سياق هذه العمليات في المجالات الرائدة للعالمين القديم والجديد. في العالم القديم، تم ايجاد أهم المُكتشفات في الشرق الأدنى، وقامت بعض المؤلفات العامة بتخصيص مواضيعها لها(15). كانت جبال زاغروس Zagros في غرب ايران وشمال العراق من أهم مراكز ثورة العصر الحجري الحديث. هنا سادت ثقافة العصر الحجري الوسيط للالتقاط والصيد في الألف العاشر الى الثامن قبل الميلاد، في حين أن الحركة على طول الطريق الى الاقتصاد الجديد كانت حينها قد بدأت بالفعل. ان مساكن (شاندار) Shanidar الكهفية (كردستان) ومستوطنات تلك الفترة معروفة جيداً (مواقع: زاوي وتشيمي Zawi-Chemi(أ) وشاندار، معليف M Lefaat(ب)، كريم وشاهرKarim-Shahir(جـ).
تم توفير بيانات مُثيرة للاهتمام من خلال التنقيب في موقع زاوي-تشيمي. كانت المهنة الأساسية لسكانها هي صيد الحيوانات ذات الحوافر الكبيرة (الأغنام والماعز والغزلان) بالاضافة الى جمع الحلزونات البرية والقواقع البحرية. ولكن فان العدد الكبير لصغار الأغنام قد أدت بعلماء الحيوانات الى استنتاج أن اولئك السكان كانوا يمرون بالمراحل الأولى لتدجين الحيوانات. من المُحتمل أن تكون أجران الحبوب المتنوعة والمدقات الجرسية bell pestles تُستَخدَم في معالجة الأطعمة النباتية، وكما تم العثور على شفرات صواتية للمناجل. يبدو أن الطبقات الأرضية الدُنيا من منطقة علي كوش Ali Kosh(د) تقع في نهاية تلك الفترة. هنا يشهد تحليل النسبة المئوية لعينات أفراد النوع المعني أن تدجين الماعز كان حاضراً، بينما من بين العديد من البقايا الخضرية توجد حبوب القمح والشعير المزروع. وهكذا، لدينا آثار واضحة تماماً للمرحلة الأولى من ثورة العصر الحجري الحديث. ولكن على العموم، كانت الثقافة لا تزال تحتفظ بسماتها القديمة والذي تشهد عليه مواقع المُدن غير المُحصّنة المُتكونة مما يُشبه المخابئ الأرضية semidugout dwellings، وغياب الفخار والفقر النسبي، وهذا واضح في حالة مدافن شاندار. ومع ذلك، فقد توفرت هنا الى هذا الحد أو ذاك، حتى مع هذا الاقتصاد المُختلط بكُلٍ من عناصره القديمة والتقدمية، حالة من الانتاج المُستقر والمتوسع، مما أدى الى تكثيف عناصر الحياة المُستقرة حيث تراكمت طبقات ثقافية ذات سماكة مُعتبرة في المواقع الأركيولوجية المعنية.
اتسم انتصار ثورة العصر الحجري الحديث في المناطق الجبلية في زاغروس zagros على ما يبدو بتجمعات من مثل تلك في جرمو(هـ) Jarmo (الألف السابع الى السادس قبل الميلاد). يُعرَف في الوقت الحاضر عن عدد من المُجتمعات من هذا النمط (جرمو سراب Sarab، غوران Guran، شمشير Shamshir). تم تدجين الماعز والأغنام والخنازير في هذه المرحلة. تم العثور حواف المناجل الصوانية بكثرة مصحوبةً بنوعين من الحبوب المزروعة وهما القمح والشعير. أدت الحاجة الى مُعالجة وطهي الطعام النباتي الى انتاج عدد كبير من الأواني الحجرية أولاً، ومن ثم الفخارية. كما تم صنع أشكال بشرية وحيوانية من الطين بأعداد كبيرة. تتكون الطبقات الثقافية التي يبلغ سُمكها عدة أمتار من بقايا منازل طينية وتُشكّل دليلاً على حياة مُستقرة. في الوقت نفسه يبدو أنه يُمكن للمرء أن يرى عناصر من التخصص الاقتصادي داخل منطقة جغرافية وثقافية واحدة. وهكذا، فان مستوطنة سراب الواقعة في منطقة المراعي الجبلية العالية تختلف عن منطقة جرمو التي تقع على ارتفاع منخفض حيث لا تحتوي على عمارة من الطوب ولا عظام الخنازير. يسمح عمر الماعز المذبوحة هنا باستنتاج أن هذا كان مُجتمعاً موسمياً من الرُعاة. بعبارةٍ أُخرى، كان يُمكن أن يوجد أنماط مُجتمعات يغلب عليها اما الطابع الزراعي لوحده أو الطابع الرعوي لوحده في منطقة جغرافية واحدة من ثورة العصر الحجري الحديث. من المُحتمل تماماً أن يكون التطور الشامل لنمط الاقتصاد الجديد قد حدث في المقام الأول بفضل انتشار المزيد من مُجتمعات تربية الماشية التي كان لديها معرفة بالزراعة ولكنها لم تُمارسها كمهنة أساسية.
ان قبائل حسونة Hassunaالتي سيطرت على منطقة شاسعة من شمال بلاد ما بين النهرين في الألفية السادسة قبل الميلاد، هي مثال حي على مُجتمعات ثورة العصر الحجري الحديث، وهي ليست بعيدة عن المستوطنة التي اكتشفها الأركيولوجيين العرب مؤخراً والتي تعود الى نفس الفترة: تل الصوان(و) Tell es-Sawwan (16). كل شيء هُنا يشهد على مستوىً عالٍ من الازدهار الثقافي. كانت المُستوطنة مُحاطة بجدارٍ من الطوب وخندق مائي. بالاضافة الى المساكن توجد آثار لمبنىً كبير، ربما كان معبداً. وُجِدَت أغراض مثل الخرز والأواني الحجرية الأنيقة والتماثيل النسائية في كل مقبرة من الـ200 قبر. تُدهشنا مجموعة المنحوتات الحجرية التي يبلغ عددها أكثر من 100 عيّنة والتي تعود الى مثل هذه المستوطنة الصغيرة جداً. تم العثور على كميات بالكيلوغرام لحبوب النباتات المزروعة: الكتان وثلاثة أنواع من القمح وأربعة أنواع من الشعير. يبدو أنه تم بناء السدود على طول شواطئ الجداول الموسمية من أجل الري، وهذه هي المرحلة الأولى من الزراعة المروية(17).
تتمظهر النتائج المُباشرة لثورة العصر الحجري الحديث بشكل أكثر وضوحاً في مواد منطقة أُخرى في الشرق الأدنى، في آسيا الوسطى. من الصحيح القول أن المراحل المُبكرة مثل تلك في زاغروس لم تتحدد بوضوح. يعود تاريخ مستوطنة شايونا-تيبيسي Çayönü-Tepesi في جنوب شرق تركيا الى النصف الثاني من الألفية الثامن والنصف الأول من الألفية السابعة قبل الميلاد. هناك سبب للاعتقاد بأن شظايا العظام التي عُثِرَ عليها تعود الى الحيوانات الأليفة والخنازير الصغيرة المُستأنسة، لكن هذا ليس مؤكداً. وينطبق الشيء نفسه على حبوب القمح البدائية المُكتشفة هنا. يعود تاريخ مستوطنة سوبيردي Suberde حيث يُعتَقَد أن 90% من اللحوم تعود الى صيد الأغنام البرية والماعز والغزلان، على الرغم من وجود علامات لتدجين الخنازير أيضاً، الى الألفية السابعة قبل الميلاد.
يُمكن مُناقشة التنويعة الزراعة الأساسية لثورة العصر الحجري الحديث بقدر أكبر عندما يتعلق الأمر بآسيا الصُغرى. تم العثور على المناجل Sickle inserts في الطبقة الميزوليثيكية (العصر الحجري الأوسط) للقرنين العاشر والتاسع قبل الميلاد في مغارة بيلديبي Beldibi Grottoعلى الساحل التركي الجنوبي. لا تحتوي طبقات العصر ما قبل الفخاري preceramic strata في هاليجار Halijar (جنوب شرق تركيا) على القمح البري والشعير فحسب، بل تحتوي أيضاً على حبيبات الشعير المنخولة، ولم يُعثَر الا على الكلب كحيوان مُستأنس. من المُرجّح أن تكون شاتال هايوك Çatalhöyük الزراعية المُستقرة (النصف الثاني من من الألفية السابعة الى النصف الأول من الألفية السادسة قبل الميلاد) قد نشأت على أساس مُختلط من الصيد وجمع الثمار والزراعة على هضبة قزوين(18). لدينا هنا، بالاضافة الى مثال ثقافة حسونة في بلاد ما بين النهرين، أمثلة حية لمُجتمع ثورة العصر الحجري الحديث.
اجمالاً، هناك أكثر من 20 مستوطنة من هذا النوع معروفة في الأناضول، والتي كانت شاتال هاويك أكبرها، حيث كانت مساحتها حوالي 126 دونماً. كان هُنا يُزرَع حوالي 14 نوعاً من النباتات بما في ذلك نوعين من القمح والشعير والبازلاء. كان مستوى ازدهار هذا المُجتمع القديم عالياً جداً. كان هناك لكل ثلاثة أو أربعة مساكن مزار Shrine، صحيح أنه كان صغيراً، لكنه كان مُزيناً ببذخ بلوحات جدارية ونقوش طينية. أخيراً، تم العثور على أكثر من 50 مزاراً من هذا النوع. تُعتَبَر الأشياء الأثرية بما في ذلك الأواني والحُليّ وأدوات النظافة الشخصية، من سمات هذه الثقافة. هنا على وجه التحديد، تم العثور على ما يُمكن أن يكون أقدم مرايا بيضاوية oval mirrors في العالم مصنوعة من حجر الاوبسيديان black obsidian ((يُستَخدم في صناعة رؤوس الأسهم والأدوات الحادة).
المركز الثالث المُهم لثورة العصر الحجري الحديث في الشرق الأدنى هي المنطقة الأُردنية-الفلسطينية. حَظيَت ولادة عناصر من اقتصاد حضارة العصر الحجري الوسيط النطوفية Natufi السائدة هناك في الألفيتين العاشرة والتاسعة قبل الميلاد باهتمام الباحثين(19). كان أساس الاقتصاد هناك قائم على اللقاط والصيد وصيد الأسماك. يشهد وجود أجران ومدقّات والمناجل التي تستخدم في الحصاد (تم العثور على أكثر من 1000 منها في مغارة الواد (شقبا) في رام الله) على أن الثقافة النطوفية كانت تُمارس الحصاد المُنتظم للنباتات البرية ان لم يكونوا أصلاً يقومون بالزراعة مُنتظمة. في الوقت نفسه، يدل الدور الكبير الذي لعبه صيد السمك في بعض المستوطنات الذي أدّى الى تطوير مُبكر للمستوطنات الدائمة وظهور منازل ذات أرضية مُستديرة round floor-plans(20)، يدل على وجود عناصر من نموذج العصر الحجري الحديث البيروفي.
وعلى أساس الثقافة النطوفية على وجه التحديد، تشكلت ثقافة العصر الحجري الحديث في منطقة أريحا في الألفيتين الثامنة والسابعة قبل الميلاد. كانت أريحا نفسها مستوطنة نموذجية دائمة تحتوي على منازل من الطوب وكانت مُحاطة بجدار من الحجارة خام المصقولة بدائياً على شكل طوب quarried stone. كانت الحيوانات الأليفة تشمل بلا شك الماعز والثور ox والأغنام والخنازير(21). تم العثور على حبوب بعض النباتات البرية والقمح والشعير في احدى المستوطنات(22).
تُعتَبَر رحلات ريتشارد ماكنيش Richard MacNeish الى شمال شرق المكسيك(23) ومن ثم الى وادي تيهواكان Tehuacán Valley في الجنوب، ذات أهمية كبيرة لدراسة عملية ثورة العصر الحجري الحديث. أسفرت الحفريات الأركيولوجية ذات النطاق الواسع ودراسة المُخلفات النباتية وتحديد النظام الغذائي الذي كان سائداً هُناك عبر تحليل البُنية البُرازية، عن بيانات ذات أهمية من الدرجة الأولى لدراسة مصدر الزراعة في أمريكا الوسطى. حدثت هذه العملية في ظل ظروف ساد فيها اقتصاد اللقاط بشكلٍ كبير. أدت التغيرات المناخية التي نتجَ عنها موت الحيوانات الكبيرة الى أزمة في الصيد مما قاد الى الى الاتجاه الاقتصادي الذي سبق وذكرناه قبل قليل(25). وهكذا، كان نصف النظام الغذائي في الفترة من الألفية العاشرة الى الألفية الثامنة قبل الميلاد يتشكّل من عناصر نباتية في تيهواكان. كانت الظباء والخيول مُتضمنة في الحيوانات الكبيرة التي كان يتم اصطيادها، لكن الحيوانات الصغيرة هي التي كانت الأساس في نظم الصيد: الأرانب والسناجب Gophers والجرذان والسلاحف والطيور. يقترح ماكنيش تسمية هذه القبائل بـ"مُلتقطي النباتات والحيوانات". أدى الاستخدام المُكثّف للموارد النباتية في ظل هذه الظروف الى الوصول بشكلٍ طبيعي الى المراحل المُبكرة للزراعة. تم استخدام القرع الصالح للأكل بين أعوام 7200 و5200 قبل الميلاد. ارتبط ظهور الأجران والمدقّات بالاستخدام المُكثّف للأطعمة النباتية. ازداد عدد النباتات التي تتم زراعتها بين أعوام 5200 و3400 قبل الميلاد. بالاضافة الى القرع، كان هناك الفلفل والفول والشمندر والأفوكادو وعلى ما يبدو الذرة. وهنا ظَهَرَت أيضاً الأواني الحجرية، بعد ذلك تراكمت هذه العناصر التقدمية. أصبحت الذرة بين 3400 و2300 قبل الميلاد العنصر الرئيسي في الزراعة. بدأت عملية الانتقاء وظهرت أشكال الذرة الهجينة. وكان القطن قد بدأ يظهر آنذاك. ومع ذلك، كان اللقاط والصيد لا يزالان يوفران 70% من النظام الغذائي آنذاك. وفقاً لماكنيش، كانت الزراعة هي المُهيمنة بحلول 2300-1900 قبل الميلاد، ثم ظهر الفخار ثم التماثيل الطينية.
حتى الأواني نفسها في البداية كانت من صنع نباتي، حيث تم تحضيرها من نوعٍ خاص من القرع Gourd عند اولئك البشر الذين كانوا ذوي تخصص عالٍ في الجمع في شمال شرق المكسيك. هنا ظهرت الزراعة تدريجياً في الألف السادس الى الثاني قبل الميلاد، ولكن يبدو أنه تمت استعارة الذرة من مناطق أُخرى في الجنوب(26). قد يُفتَرَض أن ثورة العصر الحجري الحديث في جنوب غرب الولايات المتحدة اتبعت نفس مسار أمريكا الوسطى، حيث وصل الأوروبيون الى قبائل بويبلو Pueblo التي أصبحت مثالاً كلاسيكياً للمزارعين المُستقرين في الاثنوغرافيا. ومع ذلك، من الصعب حتى الآن الحُكم الى أي درجة يُمكن أيضاً العثور على مسار التطور المُتميز هذا في بيانات العالم القديم.
الوضع يختلف فيما يتعلق النموذج البيروفي لثورة العصر الحجري الحديث. على الرغم من أنه تم التعبير عن رأي مفاده أن ثورة العصر الحجري الحديث تعود بالكامل الى الألفية الأولى قبل الميلاد(27)، فمن وجهة نظرنا فقد كان ذلك مُجرّد تتويج لعملية كانت قد بدأت في وقتٍ سابق لهذا بكثير. كما هو الحال في المناطق الأُخرى، تجلّت العناصر الجديدة هنا في البداية في ظل ظروف هيمنة اقتصاد اللقاط.
كانت شواطئ البحيرات ومصبّات الأنعار الصغيرة على الساحل البيروفي مأهولةً بقبائل تعمل في جمع المحار الصالح للأكل وصيد الأسماك والثديات البحرية مثل أسود البحر والفقمات والدلافين، خلال الألفية الرابعة، والنصف الأول من الألفية الثالثة قبل الميلاد. ان مستوطنة شيلكا Chilca هي نموذجية فعلاً(28). يشهد الحفر في الموقع والذي وصل الى طبقات ذات عمق 300 متر، على تطور شكل معين من الحياة المُستقرة، وقد حدد الباحثون ذلك، كما يُفتَرَض من خلال وجود مصادر مستقرة للغذاء ناتجة عن استغلال المحيطات والموارد الساحلية. كانت المساكن عبارة عن أكواخٍ من القصب مُغطاة بأعشاب الجانكو Junco، لكن أولى المباني الحجرية والطينية كانت قد ظهَرَت أيضاً آنذاك. بشكلٍ عام، تُذكرنا تلك اللُقى الأركيولوجية ذات الطابع الاقتصادي والثقافي في كثيرٍ من النواحي بشعب تييرا ديل فويغو Tierra del Fuego خلال القرن التاسع عشر، ولكن على عكس الأخير، فقد أولى اهتماماً كبيراً لاستغلال الموارد النباتية. تطوّر اللقاط على نطاقٍ واسع، وذهب جزء من النباتات الى الاحتياجات "الصناعية". وهكذا، تم استخدام قرع الكالاباش calabash gourd في صنع الأواني وعوّامات الشِباك Net floats، بينما استُخدِمت ألياف الصبّار والجانكو لنسج الشِباك. وبالتالي، عمِلَ البحر جُزئياً على حفز التطور المُكثّف للقاط في ظل ظروف الانتقال الى زراعة النباتات. كان نمط الحياة المُستقر بالاضافة الى الأشكال المُحددة من اقتصاد اللقاط من بين الأمور التي سهّلَت ولادة الزراعة. وبطبيعة الحال، تم استخدام جزء من النباتات، مثل الفاصولياء والبطاطا الحلوة بشكلٍ أساسي في النظام الغذائي، ويبدو أنه تم استخدام مجارش الحبوب الحجرية التي تم العثور عليها لمعالجتها. تم السير في الخطوات الأولى على طول المسار الجديد في "مجال اللقاط" الاقتصادي هذا على وجه التحديد: على حد تعبير الأركيولوجي فريدريك انجل Frédéric André Engel، يُظهِر القرع وأحد فصائل الفاصولياء علامات وجود الزراعة.
شهدت هذه الثقافة المُتميزة نهوضاً كبيراً من النصف الثاني من الألفية الثالثة الى منتصف الألفية الثانية قبل الميلاد، حيث كانت اللُقى التي تعود الى مستوطنة هوكا بريتا Huaca Prieta شائعة جداً. على الرغم من "القِطاع الاقتصادي البحري" استمر على ما يبدو في لعب دور قيادي كما كان من قبل، الا أن أهمية الزراعة كانت تزداد بشكلٍ ملحوظ. ظَهَرَ القطن بالدرجة الأولى من بين المحاصيل "الصناعية". كما تمت زراعة ثلاثة أنواع من القرع وأربعة أنواع من الفاصولياء، والأتشيرا Achira والفلفل الأحمر. كانت النباتات البرية جزءاً من النظام الغذائي. وبالأدلة، كانت اقتصادات صيد السمك-اللقاطي-الزراعي مُجتمعين بمثابة قاعدة يُعتمد عليها لاعادة الانتاج الموسعة. كان هناك أكثر من 40 مستوطنة معروفة مما يدل على نمو السكان. تم تطوير صناعة الطوب، ومن المُمكن انه تمت بناء أول المباني الدينية. احتوت القبور على أقمشة تُصوّر الأفاعي وطائر الكوندور Condor وسلطعون البحر والبشر. تم العثور على أول المنتجات الطينية: مخاريط وتماثيل طينية غير مُجففة (لم تُشغل في الفرن). ومع ذلك، من أجل الانتصار النهائي للأشكال الاقتصادية الجديدة، كانت هناك حاجة الى نبات يُمكن أن يكون محصوله وقيمته الغذائية منافساً للبحر. أثبتت الذرة أنها تمتلك هذه الخائص، وانتشرت في بيرو في احدى الأوقات ما بين 1400 و1200 قبل الميلاد. سهّلَت خبرة العمل الزراعي المتراكمة التمكن السريع من زراعة هذا النبات. سرعان ما ظَهَرَ الفخار. انتشرت منحوتات terracotta الصغيرة، وزاد حجم المستوطنات وصارت تتمركز حول المعابد الصغيرة. الآن توارى المُحيط، الذي لَعِبَ دوراً مُهماً في الزراعة، الى الخلفية، وترسّخَ الاقتصاد الزراعي المستقر في كل مكان. انتصر ثورة العصر الحجري الحديث أخيراً بشكلٍ لا رجعة فيه.
يُمكن مُلاحظة النموذج البيروفي لثورة العصر الحجري الحديث بمكوناته المُترابطة التي تتشكل من صيد الأسماك (صيد الثديات البحرية) والعيش المُستقر والزراعة وأي عناصر لمثل هذا النموذج على أي حال، في عدد من مناطق العالم القديم الأُخرى. تحدثنا عن هذا سابقاً لأنه يتعلق بالثقافة النطوفية. ربما كان وجود حياة مستقرة مرتبطة بصيد الأسماك هو الذي سهّلَ، في حالاتٍ كثيرة، المسيرة الناجحة لثورة العصر الحجري الحديث عبر القارة الأوروبية. يُتيح الدور الكبير لصيد الأسماك في كُلٍ من اقتصاد وايديولوجية (الطواطم السمكية) لثقافة يانغشاو Yangshao الزراعية بالحديث عن نماذج بيروفية موجودة أيضاً في الصين.
ان تم توجيه الانتباه الى المراكز الثلاثة الأقدم للاقتصاد المُنتِج على أراضي الاتحاد السوفييتي، فيمكن مُلاحظة أن عملية ثورة العصر الحجري الحديث هنا اتبعت بشكلٍ اساسي نفس مسار نموذج آسيا الصغري في كلا نوعيه.
استناداً الى البيانات المتوفرة، كان كلا هذين النوعين موجودين في اقليم آسيا الوسطى، والذي يقع في منطقتين واسعتين: الشمالية والجنوبية(29). ان ثقافة جايتون Jayton الزراعية المُستقرة هي سمة النوع الرئيسي الكلاسيكي لثورة العصر الحجري. كما كشفت أعمال الحفريات في جايتون ان العمارة المبنية من الطوب قد انتشرت على نطاقٍ واسع في جنوب غرب آسيا الوسطى في وقتٍ مُبكرةٍ من الألفية السادسة قبل الميلاد. تمت زراعة الشعير ونوعين من القمح، وتُشكّل المناجل الى ما يصل الى 30-40% من أدوات العمل التي عُثِرَ عليها. كانت الأواني الفخارية المطلية وتماثيل تيرا كوتا Terra Cotta بأعداد وفيرة. كانت هذه هي الحدود الشمالية الشرقية القصوى لمنطقة الشرق الأدنى للزراعة المُبكرة. في الوقت نفسه، ظهرت علامات تدل على أن تربية الماشية ظهرت في وقتٍ مُبكر خارج مناطق هؤلاء الزراعيين المُستقرين والصيادين المُتخلفين ثقافياً. يعود تاريخ بقايا الماشية الصغيرة المُستأنسة في الكهوف على طول بحر قزوين (غاري كامارباند Gari-Kamarband، دام تشاشمي Dam- Dam-Chashme) الى الألفية السابعة قبل الميلاد. تعود آثار مُماثلة لكهف غاري مار Gari-mar في شمال أفغانستان الى الألفية السادسة قبل المسلاد. هناك بيانات مُماثلة من أماكن أُخرى. ومع ذلك، فان النوع السائد الذي كان سمته الرئيسية تربية الماشية لثورة العصر الحجري الحديث، على الأقل في المناطق الجبلية، لم يُسفر عن نتائج مُهمة مثل الزراعة المُستقرة. كان يُمكن لهذا النوع أن يؤدي الى تغيرات أساسية وانتصار نهائي لنوع الاقتصاد الجديد فقط في مساحات السهوب الواسعة.
في المركز الثاني الأكبر للاقتصاد المُنتج في مناطق الاتحاد السوفييتي، في القوقاز، أصبحت أقدم المعالم الأثرية لقبائل تربية المواشي المُستقرة معروفةً فقط في العقد الماضي(30). ومع ذلك، فهي وحسب كل الأدلة، بعيدة كل البُعد عن تمثيل المراحل الأولى لأشكال النشاط الاقتصادي الجديد.
هُنا يُمكن التمييز بين مجموعتين من اللُقى، وربما ثقافتين، أولاها لشومو تيب Shomu-tepe وثانيهما كيومو تيب Kiul-tepe.
هذه كلها مُجتمعات مستقرة ذات أبنية متطورة من الطوب، تعود الى منتصف الألفية الخامسة الى الرابعة قبل الميلاد. تسود الحيوانات الأليفة بشكلٍ أساسي بين بقايا العظام. تظهر على نطاقٍ واسع بذور عدد كبير من النباتات المزروعة (نوعين من الشعير، ثلاثة أنواع من القمح والحنطة). في الوقت نفسه تشهد عدد من الحقائق على أنها تأثرت بثقافات حلف عبيد Halaf Ubeid المتطورة التي تعود الى الشرق القديم. على ما يبدو اتبعت ثورة العصر الحجري في حالة جنوب القوقاز مسار النمط الزراعي في المقام الأول، ولكن مع بعض التأخر مُقارنةً بمراكز آسيا الصُغرى. تشهد سلسلة كاملة من العناصر القديمة لا سيما في أدوات شومو تيب على الأساس المحلي لهذه العملية، ولكن كان التواصل مع آسيا الصغرى بمثابة حافز لتطورهم.
كان الشكل الرَعَوي لثورة العصر الحجري الحديث (على الأقل في بدايته) في مركز اقتصاد اللقاط الثالث على الساحل الشمالي للبحر الأسود ذو أهمية كبيرة. كان هذا بسبب الظروف الطبيعية المحلية: نقص تنوع أنواع الحبوب البرية التي تُميّز الشرق الأدنى ووجود أشكال من الحيوانات الأليفة مثل الخنازير (البرية) والماعز (الجبلي). على سبيل المثال، في شبه جزيرة القرم، في ظل ظروف الصيد المُتخصص للخنازير البرية، تعود عملية التدجين الى العصر الحجري الوسيط(31). كان أول حيوان تم تدجينه، في مناطق السهوب المفتوحة، هو الثور. يقدم البحث في مجموعة من المستوطنات على طول المسار الأوسط لنهر الدنيستر Dniester صورةً مُثيرةً للاهتمام لنهوض الاقتصاد المُنتِج(32). هنا، كانت قبائل الثقافة القديمة موجودةً في الألفية السادسة قبل الميلاد. كانوا يعملون في صيد الأسماك على نطاقٍ واسع وجمع المحار الصالح للأكل. وعلى الرغم من ذلك، مُقارنةً بالنسبة المئوية لمجموع نظامهم الغذائي، فقد كان الصيد يوفر معظم الغذاء اللاحم، وكانت قد ظهرت الخنازير المُستأنسة حينها، والثور المُستأنس بعد ذلك بوقت قصير. ازداد دور الزراعة في الألفية الخامسة قبل الميلاد. ظهرت الأواني الفخارية. في ذات الوقت، كان عدد الأدوات الزراعية والمناجل، قبل كل شيء، صغيراً جداً (أقل من 1% من اجمالي عدد الأدوات). صحيح أنه تم العثور على كميات من حبوب الشعير والقمح، على الرغم من أن زراعة القمح لم تك موجودةً بعد هي ليست أمراً مفروغاً منه. يُمكن مُلاحظة الروابط بين القبائل الزراعية ومُربّي الماشية في البلقان مع ثقافة كوكوتيني تريبيليا Cucuteni–Trypillia المعروفة والتي وصلت الى شكلها النهائي في الألفية الرابعة قبل الميلاد. ان المُكتشفات في شمال مولدافيا هي في الأساس مجموعة محلية من ثقافة باغ دنيستير Bug- Dniester التي تمتد الى أوكرانيا غرب نهر الدنيبر.
وهكذا، نُلاحظ هنا مزيجاً من النمط الرَعَوي لثورة العصر الحجري الحديث مع عناصر من النموذج البيروفي. يبدو أن نشوء اقتصاد مُنتج من النمط الرَعَوي بالتحديد بدأ هنا في وقتٍ مُبكرٍ جداً، في زمن لا يتجاوز الألفية السابعة أو السادسة قبل الميلاد. كانت الحيوانات الرئيسية المُستأنسة، في هذا التطور، مثل الخنازير والثور، هي من الحيوانات السائدة في الاقليم لفترةٍ طويلة في مجموعات قبائل كوكوتيني-تريبيليا. في الوقت نفسه، أدى التطور المُكثف للصيد في عدد من المناطق الى نشوء مُجمّع للحياة المستقرة والذي شجّعَ، في مراحله الأولى، على نشوء أشكال جديدة من الحياة الاقتصادية. في ظل هذه الظروف، أدت الاتصالات المُكثفة مع القبائل الزراعية ومُربية الماشية المُستقرة الى تبنّي عوامل جديدة مثل حرث التربة وتربية المواشي الصغيرة ذات القرون. كانت ثقافة كوكوتيني-تريبيليا ذروة عمليات الاستيعاب المُتبادل لهذين المبدأين، على الرغم من أن انتصار ثورة العصر الحجري الحديث يبدو أنها حدثت في عصور ما قبل التريبيليانية.
في الوقت نفسه، لا يعني ان كل هذا التنوع في المسارات الملموسة لتطور ثورة العصر الحجري الحديث والتي قُمنا بتجميعها في ثلاثة مسارات، لا يعني على الاطلاق أنه لا يُمكن العثور على الانتظامات العامة التي تنطبق عليها جميعها. يتضح هذا حتى في دراسة مسألة مقدمات ثورة العصر الحجري الحديث. كان الانتقال الى الاقتصاد المُنتج يعود الى أسباب الظروف الطبيعية المواتية والعوامل الناشئة داخل المُجتمع الانساني نفسه. هناك وحدة دياليكتيكية لا تنفصم بين هاتين المجموعتين من المُقدمات.
دعونا أولاً نتوقف للنظر في عوامل المجموعة الاجتماعية. هنا من الضروري تضمين المستوى التكنيكي المُرتفع الى حدٍ ما، والبدايات الأولى للمعرفة الايجابية ونمط اقتصاد لقاطي متطور بتنويعاه المُختلفة والكثافة السكانية الكبيرة التي تجعل التوسع المُكثّف للانتاج ضمن حدود المصادر الطبيعية التي يتم استغلالها بالطرُق المعروضة آنفاً.
لسوء الحظ، لم يتم بعد، دراسة أدوات عمل كُلٍ من البيرو وأمريكا الوسطى للفترات ذات الصلة بشكلٍ كاف. الوضع أفضل الى حدٍ ما في الشرق الأدنى، حيث كان صُنع شُحَف الصوان مُنتشرة في ذلك الوقت. تُظهِر مواد الشرق الأدنى بوضوح أن تقنيات وأدوات العمل المُميزة لثورة العصر الحجري الحديث ظهرت أساساً في الفترة التي سبقتها. ان صناعة الشُحَف الصوانية والتركيز على رؤوس الرماح Microlithic وتكنيكات الشحذ، هي خصائص للُقى ثقافات كريم-شاهر والنطوفية تأخذ أصولها من تقاليد العصر الحجري القديم العلوي. ان سكين الحصاد الذي يعود الى هذه الثقافات، هو في شكله، الأداة التقليدية المشحوذة المُستخدمة في وظيفة جديدة. تستمد المجرفة وعصا الحفر والتي هي الأدوات الأساسية للزراعة القديمة، أصولها من أدوات حفر الأرض المُستخدمة في بناء المساكن في العصر الحجري القديم العلوي. وصل تطور تقنيات ومجموعات أدوات العمل المُميزة للمجتمعات الزراعية المُبكرة خلال المراحل الأولى من ثورة العصر الحجري الحديث الى كمالها النسبي. يتعلق هذا أيضاً بتقنية شحذ الأحجار التي اكتُشِفَت في آثار زاغروس من الألفية العاشرة الى الألفية الثامنة قبل الميلاد. ما حدث لاحقاً كان مُجرد تطور تغيرات كمية في حدود المصنوعات التي نشأت. كان أحد أهم الابتكارات هو ابتكار المنجل المُنحني على الرغم من احتفاظ العديد من المُزاعين الأوائل بسكين الحصاد المستقيم التقليدي (مثل مواقع جيتون Jeitun في تركمانستان، سيالك Sialk في ايران، الفيوم Faiyum في مصر).
كانت بدايات المعرفة الايجابية في العصور الحجرية التي أولى لها الأركيولوجي جوردون تشايلد اهتماماً خاصاً، ذات أهمية كبيرة أيضاً(33). في هذا الصدد، تطلبت الزراعة، حتى في المراحل الأولى من تطورها، أساساً "علمياً" أكثر من الرعي. ان المعرفة المُمتازة التي يمتلكها الاستراليون الأصليون بالحياة النباتية، الذين كانوا على عتبة ثورة العصر الحجري الحديث، معروفة جيداً(34). كانت الدورات الموسمية لمخيمات القبائل المكسيكية المؤقتة العائدة الى الألفية الثامنة الى الخامسة قبل الميلاد والتي حددها ماكنيش، نقول كانت قد تأسست على هذه المعرفة بالذات. ومع ذلك، لم تكن المُلاحظات البديهية للبيئة وحدها التي تدخل كعنصر في عملية الحصول على الغذاء، تُلبي الحاجة الى المقدمات "الفكرية" للزراعة. تفترض عملية الغرس والزراعة بأكملها في حد ذاتها توقعاً لنتائج هذا الفعل، مستوىً كبيراً من تطور الفكر المجرد. لم يكن لهذا أن يحدث الا كنتيجة لتطور معقد للعقل البشري، الذي، كما تُظهر الأعمال الفنية، حقق قفزةً نوعيةً خلال العصر الحجري القديم العلوي.تحدد الانتقال الى الزراعة والرعي من خلال الحاجة الاقتصادية الماسة. من الواضح أن التناقض بين أعداد السكان المُتزايدة (وان كانت تتزايد ببطئ) والقدرات الانتاجية للأشكال القديمة للاقتصاد قد لعب الدور الرئيسي في تحسين واتقان الطرق التقليدية للحصول على الغذاء. أصبح البحث عن أشكال جديدة لتحصيل مصادر الغذاء ضرورةً مُلحةً في الحالات التي كان فيها مستوى السكان مصحوباً بمشاكل أو حتى منَعَ تدفق السكان عن طريق الهجرة. يبدو أن مثل هذا الوضع قد طرأ بالقرب من نهاية العصر الحجري القديم العلوي في عدد من مناطق الشرق الأدنى. كان من المُمكن أن تحدث أزمات مُحددة بوضوح للأشكال الاقتصادية التقليدية، كما يتضح من حالة تراجع الصيد بين القبائل المكسيكية في الألفية العاشرة الى الثامنة قبل الميلاد.
ولكن، لم تكن أزمة الصيد، ولا الزيادة السكانية النسبية، ولا أدوات العمل الأكثر كمالاً، بقادرة، في ظل ظروف تلك الفترة، على انشاء اقتصاد مُنتج ذو تعقيد أكبر. كان العامل الطبيعي هو أهم مُقدمة وشرط لثورة العصر الحجري الحديث علاوةً على ذلك، وعلى المستوى الذي نحن بصدده، يجب النظر الى الظروف الطبيعية من جانبين مُختلفين: الشروط التي تُحدد بشكلٍ مُباشر الحاجة الى الانتقال الى اقتصاد من نمط جديد، والظروف المواتية لمزيد من تطور الزراعة وتربية الماشية. يتوافق هذين الجانبين مع مرحلتين مُختلفتين في ثورة العصر الحجري الحديث: نشأتها، وانتصارها النهائي.
في المرحلة الأولى، لعبت الأشكال البرية الأصلية لتدجين الحيوانات والنباتات ومنطقة استيطانها وتطورها دوراً رئيسياً. تم العثورفي الشرق الأدنى، على الآثار التي تجعل من المُمكن تتبع المراحل الأولى من ثورة العصر الحجري الحديث. وهذا ينطبق على كل حزام غابات البلوط والفستق في زاغروس على ارتفاع يتراوح بين 600 و1350 متراً. يُظهر التحليل الباليوبوتانيلي Paleobotanical المُختص بدراسة أحافير وبقايا النباتات أن الظروف المناخية في الألف العاشر الى السابع قبل الميلاد كانت هناك تقريباً كما هي اليوم. تراوحَ مُعدّل هطول الأمطار من 250 الى 1000 ملم، وهو ما كان مُناسباً تماماً للزراعة، ولا سيما في أحواض الجبال التي كانت المياة تغمرها جيداً. تميزت المواقع الأردنية-الفلسطينية بمناخٍ أكثر جفافاً وأشكال قاحلة من الأرض. هنا تظهر الحبوب البرية والنباتات التي نشأت منها الحيوانات المُستأنسة كالماعز ذو الشعر والخنزير البري، تظهر بشكلٍ مُتساوٍ. من المهم أن نلاحظ أن مركزيّ ثورة العصر الحجري الحديث هذين، مثل مركز آسيا الصغرى، يتوافقان اقليمياً مع موقع منشأ (آسيا الصغرى) النباتات المزروعة وفقاً لنموذج نيكولاي فافيلوف Nikolai Vavilov (35). تتوافق المراكز المُشابهة في العالم الجديد مع مراكز أمريكا الوسطى والجنوبية في هذا النموذج. في هذا الصدد، فان توافق نتائج التحليلين الأركيولوجي والجيوبوتاني geobotanical(ز) هو أمر مُثير للاهتمام.
ولكن لم يظهر نمط جديد من الاقتصاد الا عندما اجتمعت العوامل الاجتماعية والطبيعية. على الأرجح، كان سبب التطور المتأخر نسبياً لثقافات الزراعة المبكرة هو أن العوامل من النوع الاجتماعي لم تتطور بشكلٍ كافٍ في بعض المناطق التي بدت، على أساس البيانات الجيوبوتانية، أنها الموقع المُفترض لأصل النباتات المزروعة. هذا هو الوضع فيما يتعلق بأثيوبيا وأفغانستان وهندوستان والصين والهند الصينية. بالاضافة الى ذلك، تميزت أدوات العمل، في أفغانستان على سبيل المثال، بنفس نمط صناعة الشُحَف الصوانية وتكنيكات الحواف الحادة كما كان الأمر في العصر الحجري الوسيط في زاغروس. يجب الافتراض أن امكانية اقتصاد اللقاط والصيد على نطاق واسع في ظل ظروف الكثافة السكانية المُنخفضة نسبياً لم تكن قد استُنفدت بعد. يبدو أن الوضع في الصين كان مُشابهاً في كثيرٍ من النواحي.
صار الوضع مُختلفاً في المرحلة التالية عندما بلغت عملية ثورة العصر الحجري الحديث ذروتها. صارت منطقة انتشار الثقافات الزراعية المُبكرة تشتمل على مناطق أرضية زراعية جديدة، وهنا بالتحديد ازدهرت الى أقصى حد مُتجاوزةً "الوطن" السابق. كان هناك عاملان سهّلا ذلك. أولاً، كان وجود غابات كثيفة من النباتات البرية، التي عملت كقاعدة ثابتة للحصول على المواد الغذائية، يعمل بمثابة كابح لانتصار الزراعة النهائي. يبدو أن هذا هو العامل الذي يجب على المرء من خلاله أن يُفسّر التأخر الملحوظ لقبائل جبال زاغروس خلال الألفية السادسة قبل الميلاد بالنسبة الى ثقافة حسونة وفترة ثورة العصر الحجري الحديث الطويلة في شمال شرق المكسيك. في المقام الثاني، حصلت القبائل المُنتشرة على أراضٍ جديدة تُشكل مناطق ليست نموذجية لتلك التي نشأت فيها الحبوب بشكلٍ طبيعي. كان هذا بمثابة حافز لعملية التطوير المُكثّف للسلالات التي قدّمت للانسان امكانات واسعة للانتقاء. أدت الظروف الطبيعية الجديدة الى ظهور أشكال جديدة وأكثر انتاجيةً للزراعة، وخاصةً الزراعة المروية.
توفر البيانات الأركيولوجية أيضاً صورةً واضحةً للسمات الجديدة نوعياً التي تُميّز المُجتمع الذي أنجز ثورة العصر الحجري الحديث. كانت نتائجها تنعكس قبل كل شيء في القاعدة الاقتصادية. لقد لاحَظَ انجلز بالفعل الطابع النوعي الجديد للاقتصاد الموجه نحو انتاج الغذاء(36).
كان التأثير الاقتصادي للعمل الزراعي كبيراً بشكلٍ خاص. تقدم حسابات علم اقتصاد العصر الحجري شهادةً واضحةً على تقلّص وقت العمل الضروري في هذا المجال الجديد من النشاط الاقتصادي. في ظل زراعة القطع والحرق Slash and burn- (وهي الطريقة التي يتم فيها قطع النباتات الموجودة وحرقها قبل زرع بذور جديدة. وعادةً ما تُستخدم كطريقة لتطهير أراضي الغابات من أجل الزراعة.)- أمضى هنود المايا عملاً يُعادل عمل 46 شخصاً في اليوم لاطعام عائلة واحدة وفقاً لنتائج أبحاث علماء الانثروبولوجيا. في شمال العراق المُعاصر تطلبت زراعة 15 فداناً (63 دونماً)، بأشكال الزراعة المروية القديمة، كمية عمل يُنجزها 250 شخصاً في اليوم. دعونا نُجري عمليةً حسابيةً مُماثلةً لمستوطنة جيتون، التي تم التنقيب عنها بالكامل مما يجعل من المُمكن تقدير عدد سكانها الذي كان يتراوح بين 150-180 نسمة (حوالي 30 عائلة). بحساب نصف كيلوغرام من الحبوب للفرد الواحد في اليوم، كان الاحتياج السنوي لسكان موقع جيتون حوالي 44 طناً. ان مساحة زراعية من 50 فداناً (حوالي 200 دونم) مطلوبة لحصاد 44 طن. بموجب هذه المعايير المذكورة أعلاه للعراق الحديث فان هذه المساحة تتطلب انفاق كمية عمل 800-850 رجل. مع الأخذ في الاعتبار الحالة البدائية لأدوات العصر الحجري الحديث فان هذا الرقم يجب مضاعفته 3 مرات مبدئياً، مما يجعله يتطلب كم عمل 2500 شخص في اليوم الواحد، في هذه الحالة مع وجود شَخصَين بالغين في العمل سيتطلب ذلك حوالي شهرين من العمل من كل عائلة. قد تكون هذه الحسابات مُرتبطة باتجاهٍ آخر. تُظهِر البيانات التجريبية أن الشخص عديم الخبرة يُمكنه أن يجمع 1.5 كغ من الحبوب في الساعة بمنجلٍ حجري. وان كان يوم العمل يوازي 10 ساعات، يُمكن حصاد 10 أطنان في كم عمل يوازي 670 شخصاً في اليوم. بعبارةٍ أُخرى، كان يُمكن لشعب جيتون في العصر الحجري الحديث أن يحصدوا كميتهم المطلوبة في 11 أو 12 يوم ان كان يوجد عاملين اثنين من كل عائلة. على الرغم من كل هذه الحسابات السريعة، والحاجة الى مزيد من البيانات (الوقت اللازم لصنع أدوات العمل، مُعالجة الحبوب المحصودة، اعداد الطعام للأكل وما الى ذلك) فان الفعالية الاقتصادية الهائلة لحراثة التربة بالنسبة الى اقتصاد اللقاط غير مشكوك فيها. هذه قوة بسيطة نسبياً يتم تحصيل نتاج كبير من خلالها، وقد قلب هذا المُجتمع رأساً على عقب.
تجلّى ظهور مصادر الغذاء المستقرة والمتوسعة في المقام الأول في نمو السكان، وبالتالي زاد من قوى الانتاج، التي دخل الانسان نفسه فيها كعنصر مُهم ولا ينفصل عنها. كان هذا في الأساس أول انفجار ديموغرافي، وليس من قبيل المصادفة أن نرى مستوطنات المُزارعين الأوائل تملأ خريطة الشرق الأدنى الأركيولوجية. وفقاً للبيانات الاثنوغرافية، تميّزت حقبة هيمنة الصيادين وجامعي الثمار بكثافة سكانية تراوحت من 1 (الاستراليين والبوشمن Bushmen) الى 5-7 (هنود أمريكا ما قبل كولومبوس) لكل 100 كيلومتر مربع. على أساس هذه الأرقام والبيانات من مستوطنة ستار كار Star Carr البريطانية التي تم التنقيب والكشف عنها بالكامل، فقد حدد الأركيولوجيين الأمريكيين روبرت بريدوود Robert John Braidwood وريد C. A. Reed عدد سكان انجلترا وويلز في العصر الحجري الوسيط بـ7500000 شخص (37). حدد نفس المؤلفين الكثافة السكانية للسكان الزراعيين المبكرين بـ1000 شخص لكل 100 كلم مربع آخذين البيانات المُعاصرة حول نهر جمجمال في شمال العراق كنقطة انطلاق، حيث تقع مستوطنة جارمو الزراعية المُبكرة. استناداً الى حسابات مُماثلة يقدم عالم الديموغرافيا(38) ادوارد ديفي Edward Smith Deevey الحسابات التالية لسكان الأرض: مليون شخص عام 300000 قبل الوميلاد، 3340000 عام 25000 قبل الميلاد. العصر الحجري القديم العلوي 5320000 حوالي 10000 قبل الميلاد، و86500000 شخص حوالي 6000 قبل الميلاد في العصر الحجري الوسيط فترة الزراعة المبكرة. بغض النظر عن مدى ابتدائية هذه الملاحظات المؤقتة، فانه لا مجال في الشك بالقفزة السكانية بعد ثورة العصر الحجري الحديث.
تؤيد البيانات الأركيولوجية تماماً الزيادة في الكثافة السكانية في الفترة الزراعية المبكرة. وهكذا، احتلت واحة جيوكسيورGeoksiur من فترة ما بعد العصر الحجري الحديث Eneolithic (العصر البرونزي) في جنوب تركمانيا مساحةً تبلغ حوالي 4000 كيلومتراً مربعاً(39).
وقد أُجرِيَت أعمال التنقيب في جميع مستوطنات هذه الواحة. لقد جَعَلَت من المُمكن تحديد الكثافة السكانية لهذه المنطقة وحساب أن عدد السكان عند أعلى نقاط ازدهار الواحة كان 4000-5000 شخص(40). ينتُج عن هذا متوسط كثافة يتراوح بين 1000-1200 نسمة لكل 100 كم مربع. يُمكن رؤية ديناميات النمو السكاني خلال العصر الحجري الحديث والعصر البرونزي الى حدٍ ما من خلال النظر في المعالم الأثرية لجنوب تركمانستان. على سبيل المثال، تبلغ مساحة جميع المستوطنات المعروفة لثقافة جايتون حوالي 10 فدانات (42 دونماً)، وهو ما يتوافق مع عدد سكان يبلغ 1500 نسمة للمواقع التي تم التنقيب عنها بالكامل. اذا افترض المرء انه تم العثور على ما لا يقل عن 50% من جميع المعالم الأثرية في تلك المنطقة، فاننا نحصل على عدد سكان العصر الحجري الحديث في الألفية السادسة قبل الميلاد، اي حوالي 3000 شخص، أي ما يقرب من 14 نسمة لكل 100كم مربع. لكن ثقافة جيتون هي من فترة الزراعة القديمة، وهي مُجتمع كانت ثورة العصر الحجري فيه قد اكتملت للتو. نجد في نفس المنطقة في الألفية الرابعة قبل الميلاد آثاراً تبلغ مساحتها الاجمالية 150 فداناً (630 دونم)، والتي حسب كثافة تلك المنطقة في تلك الفترة تحوز على عدد سكان يتراوح بين 12000-14000 نسمة، أو حوالي 660 شخصاً لكل 100كم مربع. كما لعب دور مهم حقيقة أن الاقتصاد الجديد قلّصَ بشكلٍ حاد المساحة الضرورية لضمان غذاء مجموعات مُحددة من البشر. كما أثّرَ على متسوط العمر ارتفاع مستوى المعيشة واشكال الاقتصاد التي تنطوي على مستويات "حوادث صناعية" أقل، لا سيما بالمقارنة مع الصيد. في حين كان متوسط عمر انسان النياندرتال 29.4 عاماً، كان متوسطه يبلغ 38 عاماً في آسيا الوسطى فترة العصر الحجري الحديث. هذا صحيح لأن قليلاً منهم كان قد وصل حد 50 عاماً.
أتاح تقلّص وقت العمل الضروري لانتاج المنتجات الغذائية توجيه جهودٍ اضافية الى فروع اقتصادية أُخرى، بما في ذلك المتطلبات المتزايدة لمجتمعٍ كان يدخل بشكلٍ مُتزايدٍ مرحلةً من الرفاهية النسبية. كان الازدهار العالمي لمُختلف أشكال الانتاج الحِرَفي البدائية أحد أكثر العواقب الملحوظة لثورة العصر الحجري في علم الأركيولوجيا. اصبحت مُعالجة وطهي الطعام أمراً يتطلب الكثير من الوقت والجهد، وتم تطوير مجموعة متنوعة من الأدوات لخدمة هذا الهدف. ظهرت ملاحق العظام الأنيقة نسبياً في التجمعات الزراعية المبكرة. أصبحت الأواني ذات الاشكال والاستخدامات المُتخصصة متنوعة تماماً. في البداية كانت تُصنَع من الخشب (مستوطنة تشاتال هايوك Çatalhöyük في تركيا) والحجر (جرمو)، ولكن سرعان ما حل الفخار محلها. أولى جوردون تشايلد أهميةً خاصةً للفخار، حيث اعتبر أنه أهم المواد القديمة استخداماً لتحولات المادة الكيميائية.
غدا البناء أهم فرع من فروع الانتاج. حفز نمط الحياة المستقر تقدم العمارة، وصار من المُمكن تقديم قوىً واهتمام متزايدين لتطوير مهارات البناء بفضل قدرة المُجتمع العالية نسبياً على الانتاج. في هذا المجال، جاء أولاً وقبل كل شيء بناء مساكن حجرية وكتل من الطين والطوب. تطورت مهارات وتعليمات البناء والهندسة المعمارية. طَرَحَ تطوّر المُجتمع أيضاً مهمة بناء مبانٍ دينية خاصة، وهي المزارات Shrines. كانت هذه مبانٍ صغيرة نسبياً في تشاتال هايوك، حيث أمكَنَ تحديد الغرض منها من خلال النظر الى ديكوراتها. في وقتٍ لاحق ازداد حجم المعابد لتكشل السمة الغالبة للمستوطنات الزراعية المبكرة. أدت الكثافة السكانية المتزايدة وتراكم الثروة الاجتماعية في ظل الظروف التي تُميّز المُجتمع البدائي مثل الحروب المحلية بين القبائل الى ظهور التحصينات التي زادت من تخصص البناء.
أصبَحَ الغَزل، الذي أدى تقدمه في ظل ظروف ثورة العصر الحجري الحديث الى زراعة محاصيل "صناعية" مُتخصصة (القطن في العالم الجديد والكتان في الشرق الأدنى)، أصبَحَ فرعاً مُهماً من "الصناعات" المنزلية. وجَدَ ارتفاع مستوى المعيشة انعكاساً حيوياً في انتاج الزخارف المُختلفة وأدوات المنزل. وهكذا، كانت ثورة العصر الحجري الحديث حافزاً لظهور وتطور عدد من أشكال الانتاج التي أصبحت حِرَفاً مُتخصصة. ومع ذلك، فان نشوء الحرفة كان فقط النتاج النهائي للعمليات التي كانت قد بدأت في وقتٍ أسبق. كان بناء مساكن أقدم المشاعات الزراعية، والمتنوعة تماماً في تكنيكها، مُحتفظةً، من حيث جانبها الاجتماعي، بسمات الحقبة السابقة. كان بناء المنازل في جيتون لامركزياً. من الناحية العملية، كانت كل عائلة تُشارك في صنع الأدوات الصوانية لاستخدام كل فرد، وتنظيف الجلود الكبيرة للملابس Hides وأعمال الجلود والخشب. كان هناك وضع مُشابه خلال العصر الحجري القديم الأعلى، عندما كان صنع الأدوات داخل المُجتمع مُنتشر بين جميع العائلات(41). لنذكر أنه تم صنع جميع أدوات العمل وأسلحة الصيد وعُصيّ الحفر من قِبَل الأفراد الذين استخدموها في استراليا(42). وكان تنوع وتعقيد الانتاج المنزلي المُتزايد على وجه التحديد، والذي كان نتيجةً مُباشرةً لثورة العصر الحجري الحديث، هو الذي قوّضَ هذا التقليد المُستمر. على هذا الأساس التكنولوجي لم تعد كل عائلة تُنتِج أدوات الانتاج، بل ظَهَرَ حرفيون متخصصون يعملون بمهارات ضيقة ويخدمون احتياجات جميع أعضاء المشاعة بحكم عضويتهم فيها. فقط في المرحلة الثالثة من التطور، يحدث الانفصال الحقيقي للحِرَف عن الزراعة، وظَهَرَت وِرَش عمل لم يعمل فيها الا الحرفيين المتخصصين، بينما ارتبط توزيع انتاجهم ارتباطاً وثيقاً بالتبادل الداخلي والخارجي. لكن هذه كانت بالفعل فترة جديدة، مُنفصلة عن ثورة العصر الحجري الحديث بفترة زمنية طويلة.
يؤدي تجاهل هذا المسار الطويل لتطور الحِرَف البدائية، على وجه الخصوص، الى القول بأن بعض المستوطنات الزراعية المُبكرة هي المُدُن الأولى. ان اسلوب الحديث حول مُدُن العصر الحجري الحديث، والذي بدأ بالمناقشات حول أريحا(43) لم يَتوقف بأي حالٍ من الأحوال(44). من الناحية العددية، حتى لو استخدمنا معيار جوردون تشايلد لتسمية مُجتمع يضم أكثر من 5000 شخص بأنه مدينة(45)، فان مستوطنة تشاتال هايوك فقط هي التي وصلت الى هذا العدد من السكان. ومع ذلك، لا توجد بينات تُشير الى انفصال الحِرَف عن الزراعة في هذه المُجتمع.
هناك مُبالغة واضحة في دور وطابع التبادل خلال فترة وجود أريحا وتشاتال هايوك، وفي هذا الصدد، يستشهد ايمانيول اناتي Emmanuel Anati بوجود حجارة الاوبسيديان في أريحا من الأناضول، وحجارة التركواز turquoise من سيناء، وصدف من البحر الأبيض المتوسط، وهو يعتقد بأن مُجتمعات أريحا كانت تُتاجر بالملح والقار والكبريت(46). ولكن أريحا لم تبعد أكثر من 96 كم عن البحر، بينما تم العصور على صدف على مسافات أبعد من هذه المسافة، حتى في العصر الحجري القديم. بالكاد كاد الكبريت والقار أن يلعبا دوراً ذو أهمية خاصة في حياة قبائل العصر الحجري الحديث، من المشكوك فيه تماماً، في ضوء البيانات الأثنوغرافية المُعاصرة أن سكان أريحا كانوا قادرين على التأسيس والحفاظ على حيازة حوض كبير من البحر الميت المصدر الطبيعي للملح. ليس بالضرورة أن تكون التجارة هي التي جلبت المواد التي لم تمت بصلة للمنطقة المعنية، حيث كانت بعض القبائل تجلب بعض المواد من أماكن بعيدة عن سكناها، فنحن نعلم على سبيل المثال، انه تم استغلال رواسب المغرة Ocher بشكلٍ مُشترك من قِبَل القبائل البدائية خارج الحدود الاقليمية للمجموعات التي أُرسِلَت للحصول عليها(47). من أجل أن يكون لدى المرء منظور تاريخي مُلائم، من المهم للغاية أخذ التطور الواسع للتبادل بين الصيادين وجامعي الثمار في استراليا(48). هذا لم ينتهك على الاطلاق الطابع المعيشي لاقتصاد سكان استراليا الأصليين ولم يكن كذلك يؤثر على شكل انتاجهم.
يُمكن وصف مستوى تطور التبادل في الشرق الأدنى خلال ثورة العصر الحجري الحديث بسهولة على أساس انتشارحجر الاوبسيديان(49). هنا شَهِدَت الألفية السابعة والسادسة قبل الميلاد انشاء الطرق الرئيسية لتبادل الأوبسيديان، ولكن كان هذا تبدلاً عادياً للمواد الخام، ولم تكن هناك علامات على تبادل المُنتجات الحِرَفية المصنوعة من أجل البيع. نحن نفترض أن الانخفاض التدريجي في النسبة المئوية لمُنتجات حجر الاوبسوديان مع ابتعاد المسافة عن المصدر الأصلي، قد يشهد على التبادل مُتعدد المُستويات. في أريحا على سبيل المثال، التي يُعلِن اناتي على أنها كانت مركزاً رئيسياً للتجارة، بأن الاوبسوديان كان يُشكل 1-3% من المُنتجات الحجرية. خَلُصَ بعض العلماء بعحق الى أن سكان شاتال هايوك لم يحتاجوا الى وسطاء على الاطلاق لأنهم كانوا بعيدين على المناجم 193 كيلومتراً فقط(50).
في ضوء هذه البيانات، يبدو أن استخدام مُصطلح "مدينة العصر الحجري الحديث" هو سحب سابق لأوانه للتحديث، على التاريخ(51). ومع ذلك، فان ظهور مراكز سكانية كبيرة، بغض النظر عن المُصطلح الذي يُشير اليه، كان أحد النتائج المُباشرة لثورة العصر الحجري الحديث واكن أفضل نوع من الأدلة على الوضع الجيد نوعياً لهذه المُجتمعات. لا يُمكن لاقتصاد اللقاط أن يُنتج أي شيء مثل شاتال هايوك، وعاصمة الزراعة القديمة هذه في آسيا الوسطى هي رمز حقيقي للعصر الجديد.
هناك أسباب وجيهة للاعتقاد بأن هناك تغيرات مُهمة قد طرأت على الحياة الايديولوجية للمُجتمع مع ثورة العصر الحجري الحديث. تتطلّب طبيعة الأشكال الاقتصادية الجديدة بدوراتها الموسمية فهماً أعمق لجانب السبب-النتيجة أكثر مما يتطلبه اقتصاد الصيد. هذا مُستَمَد من الضرورة الاقتصادية المُباشرة والتي انعكست في المفاهيم البدائية التي بدأت تتشكل حول الكونيات. ان الأركيولوجيا هي الدليل المباشر على سمتين جديدتين على الأقل، للنظرات الدينية. لدينا هنا في شاتال هايوك ، أولاً، وقبل كل شيء، مظهر بشري-حيواني مُتحوّل anthropomorphic للأرواح والآلهة مُمثللةً بوضوح في آثار المزارات. كما نعلم، فان هذا التحويل البشري-الحيواني ليس سمةً من سمات المراحل المُبكرة من تطور الدين(52). والميزة الثانية هي ظهور نظام عبادة مع ضريحٍ خاص، وهنا نفترض ان هذا كهنوت ناشئ للتو. كان تشكيل مجموعة كهنوتية جزءاً ضرورياً من النظام الاقتصادي الجديد.
تجلّت القدرة العالية على التفكير والقدرة على التجريد التي يمتلكها المزارعون الأوائل بقوة خاصة في فنهم. حتى في لوحات شاتال هايوك الجدارية للصيد فلم يوجد آثار للفن الواقعي على الجدران الذي يُميّز العصر الحجري القديم. هنا يتم تمثيل صور الحيوانات في أبليكات Appliquh (حيث يتم درز قطع من القماش على قطع أبر لتشكيل صورة مُعينة)، وهي تخطيطية في كثيرٍ من النواحي. هنا، تُعَد الرسومات الحيوانية عناصر في تراكيب ايقاعية أكثر من كونها قريبةً من الواقع. ان ايقاع التراكيب والزخرفية هي التي شكلت السمة الجديدة والمُهيمنة في الفن الآن. ميزة جديدة ومهمة في الفن هي الاهتمام المُتزايد بصور البشر، على الرغم من أن هذه الصور كانت مُجرّد تمويه لتجسيد قوى مُجرّدة(53). تظهر آلهة المعابد بشكل انساني-حيواني مُتحوّل، وعلى عكس معظم تماثيل العصر الحجري القديم، تتميز المنحوتات الصغيرة الآن بمعالجة مفصّلة للوجه، وغالباً ما تكون العيون كبيرة ويتم ابرازها بوضع قشور كتلبيسة. ان الانسان بعد أن انتَجَ سنبلة كاملة من حبةٍ كان قد زرعها فقد حقق انتصاراً ذا أهمية أساسية على قوى الطبيعة، فقد بَلَغَ درجةً مُعينةً من الثقة بالنفس وعلى الرغم من أن الأعمال الفنية لم تكن تُبرِز بعد نفسيات الأفراد كُلٌ على حدا، بل تُبرِز سمات مجموعات مُختلفة ذات طابع عرقي، فان جوهر التغيرات التي حدثت مُثيرة للاهتمام بدرجة كبيرة.
لا يزال حتى من الأصعب التوصل الى أحكام بشأن الجوانب الاجتماعية لثورة العصر الحجري الحديث(54). يبدو أن عواقب هذه الثورة كانت مُهمةً في أربعة جوانب بشكلٍ خاص. في المقام الأول، أدى وجود فائض الانتاج الثابت والدائم الموزع في اطار النظام الاجتماعي التقليدي، والتقسيم المُتزايد للعمل الى خلق الظروف الحقيقية لظهور التمايز من جانب المُلكية. في المقام الثاني، أصبحت الزيادة الحادة في انتاجية عمل الفرد المُنفرد، وحتى زيادة انتاجية الأُسرة المُنفردة في انتاج المُنتَج الفائض، المُنطلق الاقتصادي لظهور الاستغلال. ثالثاً، أدى ارتفاع مستوى المعيشة العام وزيادة النتائج الملموسة للعمل الى توسّع مُتزايد في مجال المُلكية الشخصية والاستخدام الفردي. رابعاً، أدت طبيعة الاقتصاد الجديد، لا سيما في الزراعة، الى تعقيد الوظائف التنظيمية لنظام العشيرة والى زيادة دور القادة كمُديرين لعمليات العمل، والكهنة كأوصياء طبقيين للخبرة التقليدية وأساسيات تكنيك الزراعة. وهكذا، حملت ثورة العصر الحجري الحديث بذور انحلال النظام الاجتماعي البدائي التي نَمَت فيه، على الرغم من عدم حدوث انتهاكات كُبرى للمساواة في ذلك المُجتمع فور انتصاره.
تُظهِر البيانات المتوفرة أن ثورة العصر الحجري الحديث كانت المسار العام الذي سلكه التطور البشري نحو المُجتمع الطبقي المُبكّر. في جزهر الأمر، كان صوت معاول المُزارعين الأوائل في جبال زاغروزس بمثابة اعلان ارساء الحضارة. ليس من قبيل المُصادفة أننا وجدنا المُجتمعات الطبقية الأولى في العالمين القديم والجديد داخل مناطق أقدم مواقع ثورة العصر الحجري الحديث.

*فاديم ميخايلوفيتش ماسون 1929-2010عالم ماركسي أنثروبولوجي ودكتور في العلوم التاريخية ورئيس معهد تاريخ الثقافة المادية في أكاديمية العلوم السوفييتية-الروسية 1982-1998.
تخرّج من القسم الاركيولوجي لمعهد التاريخ في جامعة وسط آسيا الحكومية. دافَعَ عام 1954 عن اطروحته في الدكتوراه المُعنونة (الثقافة القديمة لداغستان- مسائل تاريخية وأركيولوجية). وفي عام 1962 دافع عن اطروحة الدكتوراة (التاريخ القديم لوسط آسيا-منذ نشوء الزراعة وحتى حملات اسكندر الأعظم)، ومن ثم بعد هذا عمِلَ في القسم القوقازي لمعهد تاريخ الثقافة المادية السوفييتي وصار رئيساً لهذا القسم عام 1968. ألّفَ ماسون لوحده أو بالتعاون مع علماء آخرين أكثر من 32 كتاباً و500 مقالة نُشِرَت في الاتحاد السوفييتي وبريطانيا وألمانيا الديمقراطية والغربية واليابان وايطاليا. ومن أعماله: (وسط آسيا والشرق القديم) 1964، (دولة الألف مدينة) 1966، (وسط آسيا في العصرين الحديدي والبرونزي) 1966، (نشوء وتطور الزراعة) 1967، (ثقافة شعوب الشرق: المواد والبحث) 1976، (أولى الحضارات) 1989.

1- مختارات ماركس وانجلز في 4 أجزاء، المُجلّد الثالث، دار التقدم 1975، ص201
2- See V. M. Masson, "K voprosu o gorodskoi revoliutsii, " - IV sessiia PO Drevnemu Vostoku. 5-10 fevralia 1968 g. Tezisy dokladov, Moscow, 1968, p. 15
3- G. Childe, Man Makes Himself, London, 1939
4- See, for example, A. V. Artsikhovskii s introduction to G. Childe, Progress i arkheologiia, Moscow, 1949, p. 15. The present author at one time shared such a view.
5- Istoriia SSSR, Vol. I, Moscow, 1966, p. 40 V. I. Guliaev, "Novye dannye of proiskhozhdenii zemledel cheskikh kul tur Mezoameriki," Sovetskaia etnografiia (hereafter SE), 1966, No. 1, p. 147 L. S. Vasil ev, "Nektorye problemygenezisa mirovoi tsivilizatsii v sovremennykh zarubezhnykh issledovaniiakh," NarodyAzii i Afriki, 1966,No. 2,p. 172 V. M. Bakhta, "K voprosu o strukture pervobytnogo proizvodstva," Voprosy istorii, 1960, No. 7.
6- مثلاً: رأس المال-المُجلّد الأول، كارل ماركس، ترجمة فالح عبدالجبار، دار الفارابي 2013، ص467
7- J. Mellaart, Cab1 Huyiik. A Neolithic Town in Anatolia, London, 1967, p. 17 R. S. MacNeish, "Ancient Mesoamerican Civilization," Science, 1964, No. 3606, p. 536.
8- V. M. Masson, "Problema neoliticheskoi revoliutsii," Tezisy dokladov na zasedaniiakh, posviashchennykh itogam polevykh issledovanii 1967 g., Moscow, 1968, p. 15. 9).
9- G. Childe, op. cit., p. 112
10- See L. G. Mel nik, "Izuchenie v GDR, Pol she i Chekhoslovakii problemy promy shlennogo perevorota," Voprosy istorii, 1967, No. 5, pp. 179-180
11- See Istoriia SSSR, Vol. I, Moscow, 1966, p. 40
12- G. Childe, op. cit., pp. 80, 95, 110
13- R. McC. Adams, The Evolution of Urban Society, Chicago, 1966, p. 41 R. J. Braidwood, Prehistoric Man, Glenview, 1967, p. 88
14- رأس المال-المُجلّد الأول، كارل ماركس، دار التقدم 1985، ص535
15- R. J. Braidwood, The Near East and Foundations for Civilization, Oregon, 1952 same author, Prehistoric Man K. V. Flannery, "The Ecology of Early Food Production in Mesopotamia," Science, 1965, No. 3663 J. Mellaart, Earliest Civilizations of the Near East, London, 1965 same author, The Earliest Settlements in Western Asia, Cambridge, 1967 V. M. Masson, Sredniaia Aziia i Drevnii Vostok, Moscow and Leningrad, 1964..
أ- موقع أركيولوجي على بعد 24 كيلومتراً الى الشمال الشرقي من أنقرة وعلى بُعد 48 كيلومتر من الموصل وقد حُدد تاريخه عن طريق تحليل الكربون بةاسطة الأشعة السينية بحوالي 9000 عاماً قبل الميلاد، وكانت المساكن هناك عبارة عن أكواخ دائرية بُنيِيَت جُدرانها من أحجار النهر، وتُظهر الأدوات الحجرية أن بعض المنتوجات النباتية قد زُرِعَت لاستعمالها كطعام. ومع أن الصيد كان لا يزال المصدر الأساسي للحصول على الطعام الا أنه كان هناك بقايا أغنام وعظامها مما يدل على تربية الأغنام، مما يُظهر ان استئناس الحيوانات كان قد بدأ.
ب- معليف هو موقع اركيولوجي يبعد حوالي 35 كيلومتراً شرق الموصل و250 متراً غرب ضفة نهر خازر ويرجع تاريخه الى حوالي 8000-7600 قبل لميلاد.
جـ- موقع كريم وشاهر هو تل قديم يقع بالقرب من موقع جرمو الأثري في تلال كركوك. لقد اكتُشِفَت هناك قطع اركيولوجية تقدم دليلاً واضحاً على المعرفة بزراعة الحبوب على شكل شفرات منجل تُظهر لمعاناً من مكان استخدامها. كما تم اكتشاف أجران الحبوب وعظام الحيوانات الخ.
د- علي كوش هو تلك صغير من فترة أوائل العصر الحجري الحديث في غرب ايران وتم التنقيب عنه في الستينيات. توصّل البحث فيه الى أن الموقع سُكِنَ 3 مرات على مدار 2000 سنة تقريباً، بداءً من حوالي 9500 قبل الميلاد الى عام 7500 قبل الميلاد. كان علي كوش أول مُجتمع زراعي في غرب ايران، حيث بدأت الزراعة في الألفية الثامنة قبل الميلاد كما تم رعي الماعز والأغنام.
هـ- جرمو، وتُسمّى أيضاً قلعة جرمو، وهي موقع أثري من عصور ما قبل التاريخ يقع شرق كركوك في شمال شرق العراق. الموقع مُهم لأنه كُشِفَت فيه عن آثار احدى المُجتمعات الزراعية القروية الأُولى في العالم. تُقدّم ما يقرب من 12 طبقة من المباني المعمارية أدلةً على وجود القمح والشعير والكلاب والماعز المُستأنسة، مما يُشير الى وجود نمط حياة زراعي مُستقر. تُشير القطع الأثرية التي تم العثور عليها في جرمو مثل شفرات المناجل الصوانية وأحجار الطحن والفخار الى الابتكارات التكنيكية التي تم اجراؤها استجابةً لنمط انتاج الغذاء الجديد. تشير التقديرات الى ان استيطان الموقع قد حدث حوالي عام 7000 قبل الميلاد.
و- موقع أثري على الضفة الشرقية لنهر دجلة، جنوب سامراء في محافظة صلاح الدين وسط العراق. بدأ التنقيب في المكان منذ الستينات في القرن العشرين، وخاصة من قبل بعثات عراقية. كشفت أعمال التنقيب عن قرية متطورة من العصر الحجري الحديث، عاشت على امتداد النصف الثاني للألف السادس ق.م.، وكانت مستوطنة محميّة بخندق مزدوج، يليه سور دفاعي، مزود ببوابات، مداخلها منحنية ليسهل الدفاع عنها، هذه التحصينات هي الأقدم من نوعها في الشرق القديم. وهناك أسوار تحيط ببعض الأبنية المهمة في المدينة.أبنية القرية كبيرة مؤلفة من غرف كثيرة، مبنية من اللبن المقولب، أرضها وجدرانها مطلية بالجص ومزودة بدعامات، بعضها معابد وبعضها مشاغل ومخازن أو بيوت سكن. تنظيمها دقيق على شكل حرف T، تفصل بينها باحات مزودة بغرف تخزين وأفران وتنانير، وتفصل بين المنشآت العمرانية شوارع رئيسة وفرعية وأقنية تصريف للمياه صنعت من الفخار. كُشف تحت المباني عن الكثير من القبور، معظمها لأطفال، وبعضها ليافعين، دفن الأطفال في جرار من الفخار أو الرخام، أوفي سلال مطلية بالقار، بينما دفن اليافعون في حفر بيضوية الشكل في وضعية مثنية، لفّ الموتى بالحصر والقماش وزوِّدوا بمختلف أنواع الحلي، كالأساور والأطواق والقلائد، المصنوعة من الأحجار النادرة الثمينة والصدف والقواقع والنحاس والأوبسيديان، إضافة إلى التماثيل والأواني الفخارية. دلت هذه القبور الغنية على التمايز الاجتماعي والطبقي الذي عرف من ذلك الزمن الباكر، وتعد الأواني الفخارية والمرمرية والكلسية من أهم مكتشفات هذا الموقع، وهي تجسد الميزات الحضارية لصناعة الفخار في ذلك العصر. تباينت أنواع هذه الأواني من البسيط العادي، في الطبقات الأقدم، إلى الأنواع الراقية في الطبقات الأحدث. كشف عن مختلف أنواع الجرار والطاسات والصحون والكؤوس التي حملت زخارف هندسية ونباتية وحيوانية، هي الأجمل من نوعها حتى ذلك العصر، فظهرت أشكال المياه والأسماك والنساء الراقصات بشعورهن الطويلة والوجوه البشرية التي تحمل آثار الوشم، إضافة إلى أشكال الغزلان وهي ترعى، والطيور والعقارب وغيرها. وهناك التماثيل التي صنعت من الرخام، وبعضها من الطين، وجسدت فيها النساء واقفات، وقد برزت تفاصيلهن الجسدية، وعلى رؤوسهن أغطية، وعيونهن منزلة بالأحجار النادرة والحواجب محززة والأنف بارز وملامح الوجه واضحة، وبعض التماثيل بلا رؤوس، كما كشف عن دمى لحيوانات مختلفة، وخاصة لحمار الوحش. عثر في المستوطنة أيضاً على لقى متنوعة كالأختام والخرز من النحاس، وأسلحة نحاسية، هي الأولى من نوعها، وهناك الأدوات الحجرية والعظمية والأدوات الزراعية المنوعة. مارس السكان زراعة القمح والشعير والذرة والكتان، بعد أن عرفوا لأول مرة الري المنظم (السقاية)، الذي دلت عليه أيضاً مجموعات الأقنية والسواقي المكتشفة في الموقع. كما دجنوا الماعز والبقر والغنم والكلاب، واصطادوا مختلف أنواع الحيوانات البرية، كالغزلان وحمار الوحش والطيور والأسماك وغيرها.
16- F. El-Wailly and B. Abu es-Soof, "The Excavations at Tell es-Sawwan. First Preliminary Report," Sumer, Vol. XXI, 1965
17- See G. N. Lisitsina, "Osnovnye etapy istorii zemledeliia na iuge Srednei Azii i Blizhnem Vostoke , I Problemy arkheologii Srednei Azii, Leningrad, 1968, pp. 82-88
18- J. Mellaart, Catal Huyiik V. M. Masson, "Neolit Iuzhnoi Turtsii," Arkheologiia Starogo i Novogo Sveta, Moscow, 1966. 19) G. Childe, Drevneishii Vostok v svete novykh raskopok, Moscow, 1966, p. 61.
19- G. Childe, Drevneishii Vostok v svete novykh raskopok, Moscow, 1966, p. 61
20- J. Perrot, "Le gisement natoufien de Mallaha (Eynan)," L anthropologie, 1966, No. 5 -6.
21- R. de Vaux, Palestine During the Neolithic and Chalcolithic Periods, Cambridge, 1966, p. 9.
22- H. Helback, "Prepottery Neolithic Farming at Beida," Palestine Exploration Quarterly, 1966, January-June
23- R. S. MacNeish, "Preliminary Archeological Investigations in the Sierra de Tamaulipas, Mexico," American Philosophical Society Transactions, Vol. XLVIII, Pt. 6, Philadelphia, 1958.
24- R. S. MacNeish, First Annual Report of the Tehuacan Archaeological-Botanical Project, Andover, 1961 same author, The Second Annual Report of the Tehuacan Archaeological- Botanical Project, Andover, 1962 same author, "Ancient Mesoamerican Civilization."
25- V. I. Guliaev, "Novye dannye o proiskhozhdenii zemlede1 - cheskikh kul tur Mezoameriki," p. 149
26- G. R. Willy, An Introduction to American Archaeology, Vol. I, New York, 1966, pp. 82-84
27- V. A. Bashilov, Drevnie tsivilizatsii tsentral nykh And. Author s abstract of dissertation for candidate degree, Moscow, 1967, p. 2.
28- F. Engel, "Dations a l aide du radio-carbon et problemes de la prhhistoire du Peru," Journal de la Societe des Americanistes, Vol. ID, 1963, pp. 109-112 C. R. Donnan, "An Early House from Chilca," American Antiquity, 1964, No. 2, Pt. 1
29- G. F. Korobkova, Orudiia truda i khoziaistvo neoliticheskih plemen Srednei Azii, Leningrad, 1969, p. 181
ز- التحليل الجيوبوتاني هو تحليل يعتمد بشكل أساسي على تفسير الغطاء النباتي في منطقة مُحددة لاكتشاف التغيرات المورفولوجية أو الارتباطات النباتية النموذجية لأنواع معينة من البيئات الجيولوجية. هذا التحليل يكشف عن الرابط بين البيئة الجغرافية للنباتات وبُنيتها التشريحية وطريقة تكيفها.
30- A. A. Iessen, "Kavkaz i Drevnii Vostok," Kratkie soobshcheniia o dokladakh i polevykh issledovaniiakh Instituta arkheologii AN SSSR (hereafter KSIA), No. 93, 1963 P. G. Narimanov, "Drevneishaia zemledel cheskaia kul tura Zakavkaz ia," VII mexhdunarodnyi kongress doistorikov i protoistorikov, Moscow, 1966 T. N. Chubinishvili and K. Kh. Kushnareva, "Novye materialy PO eneolitu Iuzhnogo Kavkaza," Matsne, 1967, No. 6.
31- D. A. Krainov, "K voprosu o proiskhozhdenii domashnikh zhivotnykh v Iugo-Zapadnom Krymu v poslepaleoliticheskoe vremia," Sovetskaia arkheologiia (hereafter SA) , 1959, No. 2 A. D. Stoliar, "Ob odnom tsentre odomaxnivaniia svin i," SA, 1959, No. 3.
32- V.TMarkevich, "Issledovaniia neolita na Srednem Dnestre," KSIA, No. 105, 1965 same author, Neolit Moldavii, author s abstract of dissertation for degree of candidate, Moscow, 1968.
33- G. Childe, "Arkheologicheskie dokumenty PO predystorii nauki," Vestnik mirovoi kul tury, 1957, No. 2, p. 59
34- A. N. Maksimov, "Nakanune zemledeliia," Uchenyezapiski Instituta istorii AN SSSR, Vol. 3, Moscow, 1929 Narody Avstralii i Okeanii, Moscow, 1956, pp. 108-113
35- N. I. Vavilov, "Botaniko-geograficheskie osnovy selektsii," Izbrannye proizvedeniia, Vol. I, Leningrad, 1967.
36- مختارات ماركس وانجلز في 4 أجزاء، المُجلّد الثالث، دار التقدم 1975، ص201
37- R. J. Braidwood and Ch. A. Reed, "The Achievement and Early Consequences of Food Production: A Consideration of the Archaeological and Natural-Historical Evidence," -Gold Spring Harbor Symposia on Quantitative Biology, Vol. =I, New York, 1957, p. 24.
38- E. S. Deevey, "The Human Population," Scientific American, 1960, No. 3, p. 196 for demographic methods in archeology, see: C. Gabel, Analysis of Prehistoric Economic Patterns, 1967, pp. 32-35
39- G. N. Lisitsina, Oroshaemoe zemledelie epokhi eneolita na iuae Turkmenii, Moscow, 1965, p. 11.
40- V. M. Masson, Sredniaia Aziia i Drevnii Vostok, p. 319
41- S. M. Bibikov, "Opytpaleoekonomicheskogo modelirovaniia v arkheologii," Tezisy dokladov vsesoiuznoi sessii, posviashchennoi itonam arkheoloaicheskikh i etnonraficheskikh issledovanii 1966 g., Kishinev, 1967, pp. 12-15
42- V. M. Bakhta., Obshchestvennoe proizvodstvo u aborigenov Avstralii i papuasov Vostochnoi Novoi Gvinei, author s abstract of dissertation for degree of candidate, Moscow, 1963, p5
43- See V. M. Masson, "Dokeramicheskii neolit Ierokhona," p. 5. SA, 1958, No. 3.
44- 44) E. Anati, "Prehistoric Trade and the Puzzle of Jericho," Bulletin of the American School of Oriental Research, 1963 No. 167 J. Mellaart, Catal Huyiik.
45- With respect to the term "town" as applied to the most archaic periods, see V. M. Masson, "Stanovlenie ranneklassovogo obshchestva na Drevnem Vostoke ," Voprosy istorii, 1967, No. 5, p. 91
46- E. Anati, op. cit., pp. 29-30
47- N. A. wltinov, "Razdelenie truda v pervobytnom obshchestve," Trudy Instituta etnografii AN SSSR, Vol. IV, Moscow and Leningrad, 1960, pp. 115-116
48- N. A. Butinov, op. cit., pp. 114-119 also see Narody Avstralii i Okeanii, pp. 196-204.
49- C. Ranfrew, J. E. Dixon, and J. R. Cann, "Obsidian and Early Cultural Contact in the Near East," Proceedings of the Prehistoric Society, 1966, Vol. XXIII, pp. 30-72.
50- Ibid., p. 52.
51- This was also observed by G. de Contenson in his review of Mellaart s book. See Antiquity, 1968, No. 165, p. 73
52- S. A. Tokarev, Religii v istorii narodov mira, Moscow, 1964.p 09
53- A. A. Formozov, Pamiatniki pervobytnogo iskusstva, Moscow, 1966, p. 22
54- See, for example, an interesting attempt to compare the system of the Australian aborigenes and the early agriculturalists of New Guinea (see V. M. Bakhta, op. cit.).

ترجمة لمقالة:
V. M. Masson (1972) The Problem of the Neolithic Revolution in the Light of New Archeological Data, Soviet Studies in History, 11:2, 123-154