أوقات غسان كنفاني


حسن مدن
2021 / 11 / 22 - 23:54     

ذات يوم جاء الشهيد غسان كنفاني الدكتور إحسان عباس وأعطاه مخطوطة روايته: «رجال في الشمس» طالباً منه رأيه فيها. بعد يومين عاد غسان إلى أستاذه لاهثاً، فوجد في جواب عباس بعض التساؤلات. علق غسان بعبارة واحدة: إذن الرسالة لم تصل.

غاب غسان يومين آخرين وعاد بالمخطوطة من جديد، منتظراً رأي إحسان عباس فيها بعد ما أدخله عليها من تعديلات، فلمس في إجابته رضا صريحاً. قبل أن يخرج سأل غسان الناقد الراحل: «ما الذي استوقفك في الرسالة؟، ردَّ عباس: شخصية أبي الخيزران. ضحك غسان وقال إنه لا يزال بيننا. لكن ما استوقف إحسان عباس حرص غسان على استخدام كلمة الرسالة بدل الرواية، كما لو كان يؤدي واجباً ويريد أن يؤديه كاملاً بلا نقصان.

هذه حكاية واحدة. ثمة حكاية أخرى أيضاً.

التقى المخرج توفيق صالح بغسان كنفاني وهو يتهيأ لإخراج فيلم «المخدوعون» المأخوذ عن «رجال في الشمس». كان اللقاء في مقهى غير بعيد عن صخرة الروشة ببيروت، والساعة كانت السادسة مساء، وخلاله طلب المخرج من الكاتب أن يكتب حوار الفيلم حفاظاً على روح المعنى المُوزع في تفاصيل «رجال تحت الشمس»، وعلى اللهجة الفلسطينية التي تتحدث بها شخصيات الرواية.

نظر غسان إلى ساعته وقال لتوفيق صالح بنبرة عادية تماماً: نلتقي غداً هنا في مثل هذه الساعة. لم يستفسر المخرج عن شيء، وفي الموعد المحدد جاء صالح وكان غسان في انتظاره. كان الحوار الذي طلبه جاهزاً. أربع وعشرون ساعة فقط مرت كانت كافية كي ينجز غسان ما وعد به.
ينجز غسان مهامه بسرعة قياسية. كان على عجلة من أمره، كأنه يدرك أن قدره أن يستشهد سريعاً. كيف يمكن لرجل حتى لو كان موهوباً أن ينجز كل ما أنجزه غسان خلال ست وثلاثين سنة فقط هي كامل حياته؟

ما يشبه الجواب نجده في عبارة قالها غسان لإحسان عباس: «من يسيطر على اللحظة يفعل ما يريد». فردَّ عباس مشفقاً: «اهدأ قليلاً يا غسان». والجواب في ذهن غسان كان واضحًا حين قال: «لا يليق الهدوء بحالتنا».

هذه الروح هي التي جعلته موزعاً على أكثر من مكان ووظيفة. يذهب إلى جريدة «الهدف» التي كان رئيس تحريرها وإلى المخيم ومركز الأبحاث وإلى الاجتماعات الحزبية، وإلى مكان خامس كان يجد له الوقت فيكتب كل شيء: المقالة والدراسة والرواية والقصة القصيرة والتعميم الحزبي.