رؤية سياسية وإدارية لسورية المستقبل (3 - 3)


عبدالله تركماني
2021 / 11 / 22 - 14:12     

رؤية سياسية وإدارية لسورية المستقبل (3 – 3) (*)

5: أدوار الدولة السورية في المستقبل
بُذلت جهود متعددة لتعريف أدوار الدولة والسلطة الرشيدة، وهي تتراوح بين فعالية الدولة في تأمين الحاجات الأساسية للمواطنين: التعليم، الصحة، السكن، العمل. وبين حكم القانون ومحاربة الفساد، وصولًا إلى قدرة المواطنين على حرية التعبير.
ولكن، منذ سقوط جدار برلين في العام 1989 جرى الحديث عن أنّ العولمة ستقزّم أدوار الدولة الوطنية، مما أدى إلى انسحاب أغلب الدول من الرعاية الاجتماعية والخدمات الأساسية لمواطنيها. ويبدو أنّ سورية المستقبل أحوج ما تكون إلى الانطلاق من تعريف هيئة الأمم المتحدة للحق في التنمية: "عملية متكاملة ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية، تهدف إلى تحقيق التحسن المتواصل لرفاهية كل السكان وكل الأفراد، والتي يمكن عن طريقها إعمال حقوق الإنسان وحرياته الأساسية". إذ إنّ للدولة دورًا مهمًا في هذه العملية، من خلال عدم الفصل التعسفي بين السياسة والاقتصاد، والإقلاع عن الوهم بإمكانية إنجاز تنمية اقتصادية في ظل غياب التحديث السياسي. وهنا تكمن أهمية المقاربة التنموية التشاركية، التي تمكّن المواطنين من المساهمة في إيجاد حلول ملائمة لمشكلاتهم المتعلقة بتأمين حاجاتهم الأساسية.
6: تنشيط الحياة العامة
ثمة ضرورة لتبنّي مبادئ محصّنة في الدستور، تفتح في المجال لحرية العمل السياسي والمدني، والحد من السيطرة المركزية المطلقة للأجهزة الأمنية.
وكي يسترد المجتمع السوري حراكه، السياسي والمدني والثقافي، لا بدَّ من عودة الروح إلى المجتمع المدني، وضمان استقلالية منظماته عن سلطة الدولة، بما يساعد على نجاح عملية التحوّل الديمقراطي. وفي هذا السياق يبدو أنّ من الخطأ الفصل التعسفي، في الحالة السورية، بين المجتمعين المدني والسياسي، إذ "لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، فسعي المجتمع المدني نحو العدالة أمر سياسي، ولعل هذا المنظور (عدم الفصل) هو الأسلم لفهم الحراك المجتمعي المقاوم للقمع والساعي نحو العدالة، فحياتنا جميعًا سياسية ومسيّسة ولا يمكننا فصلها عن الإطار العام" (19).
إنّ فكرة الفضاء العام، باعتباره فضاء من الحرية "أقرب إلى ماهية المجتمع المدني وعلاقته الجدلية بالمجتمع السياسي أو الدولة السياسية أو الدولة الوطنية، بصفتها فضاء حقوقيًا وسياسيًا وأخلاقيًا عامًا، على أنهما - معًا – الفضاء العام المشترك" (20).
ومن أجل تنشيط الحياة العامة يجب العمل على "فتح مراكز دراسات استراتيجية وتعليمية تنويرية في الداخل السوري، بغية نقل ثقافة العلمانية والديمقراطية والمدنية وحقوق الإنسان".
7: كيف تكون الدولة محايدة
كشفت الثورة السورية، في متغيراتها الكثيرة، أهمية سؤال الدولة بشكل رئيسي. فما من شك أنّ الدولة كما عرفناها في ظل سلطة البعث، كانت مخترقة من قبل بنى ما قبل الدولة الوطنية. لذلك يبدو لا حل دائمًا خارج إطار التغيير، وإقامة دولة الحق والقانون التي تحمي كرامة المواطنين. وحيادية الدولة تعني أن لا تكون خاضعة لحزب أو فئة دينية أو قومية، فوق الطبقات والفئات، وحيادية إزاء عقائد مواطنيها، أي أنها دولة كل المواطنين الأحرار المتساويين في الحقوق والواجبات، وأنّ أي انتقاص من هذه الحيادية ينطوي على شرخ بين الدولة والمجتمع، ومقدمة لمصادرة السلطة للدولة.
والدولة الحيادية تقوم على عدة حدود (21): فصل الدين عن الدولة والحياة السياسية، وتحييد العسكر عن الحياة السياسية، والحق والحرية والكرامة بما تتضمنه من عدالة اجتماعية وانتقالية وتكافؤ الفرص، وعدم تبنّي الدولة دين معين وحرية المعتقد.
إنّ الإطار الصحيح لقيام هذه الدولة المحايدة هو المواطنة كعقد لتنظيم علاقات الأفراد والجماعات، والديمقراطية كإطار لقيام مشاركة سياسية تضمن فصل السلطات وتداولها، والتنمية الشاملة لاستثمار الموارد الطبيعية والبشرية وتطويرها وتوظيفها لقيام اقتصاد منتج، يرفع مستوى معيشة السكان ويؤمّن العدالة الاجتماعية. هي دولة الكل الاجتماعي، دولة كل مواطنيها بلا استثناء ولا تمييز، يشارك فيها المواطنون من خلال المؤسسات. وفي نموذج هذه الدولة المحايدة تضمن السلطة للمعارضة حقوقًا واسعة، ليس الرقابة والمساءلة فحسب، بل المشاركة في صناعة القرارات، كونها تشكل حكومة ظل كقوة رقابة ومساءلة واقتراح في آن واحد.
8: ضمانة الحريات الفردية والعامة
الاستبداد بنية متكاملة وليس فرد أو سلطة، فإن لم تتوجه سورية نحو تأسيس الانتقال الديمقراطي، على ضمان الحريات الفردية والعامة، وتداول السلطة، وإبعاد الدين عن أن يكون مادة للدعاية الحزبية والانتخابية. وفيما إذا امتنعت سورية عن الخيارات السابقة ستبقى بنية الاستبداد قائمة، مهما تنوعت أشكاله. ومن المؤكد أنه لا يمكن الحديث عن الدولة الوطنية من دون تمتع المواطنين بكافة الحريات: حرية الرأي والتعبير، وحرية التنقل، وحرية تشكيل أحزاب ومنظمات مجتمع مدني.
إنّ من أهم مظاهر تأمين الحقوق والمساواة: إعادة النظر في جميع القوانين القائمة على التمييز بين المواطنين، لتكريس مبدأ المساواة أمام القانون. وإعادة النظر بقانون الأحوال الشخصية، وتطبيق مبدأ المساواة وعدم التمييز الوارد في الشرعة العالمية لحقوق الإنسان، خاصة تعديل قانون الجنسية الذي يميز بين الرجل والمرأة السورية.
كما أنّ إصدار قانون إعلام يؤكد على حرية التعبير والتشجيع على تكوين إعلام خاص ومستقل، وإلغاء وزارة الإعلام وإحداث مؤسسة إشراف من الإعلاميين، وإلغاء كل القوانين التي تجرّم إنتاج الإعلاميين. ومن أجل ضمان حرية الإعلام يجب في سورية المستقبل (22): التأكيد على ضمانات الحصول على مصادر المعلومات، وإنشاء مجلس للإعلام وتحديد مرجعيته، وضوابط لملكية وسائل الإعلام، واستخدام الإعلام بما يخدم قضايا التعددية.
كما يجب إصدار قانون للتجمع والتظاهرات يتلاءم مع المعايير الحقوقية الدولية حول حرية التجمعات السلمية، وتسهيل إنشاء منظمات المجتمع المدني بما يتلاءم مع المعايير الدولية، وضمان استقلالية النقابات، وضمان حرية إنشاء الأحزاب دون تدخل من السلطة التنفيذية، لإعطاء أفضلية لأي حزب.
9: سياسة خارجية فعّالة
تقتضي السياسة الخارجية الفعّالة لسورية المستقبل إعادة صياغة كل عناصر قوتها، بدءًا من ترتيب أوضاعها الداخلية، ومن ثمَّ إعادة ترتيب علاقاتها مع دول الإقليم والعالم وموازين القوى الدولية.
لقد كانت سورية، خاصة منذ انقلاب حافظ الأسد سنة 1970، دولة خارجة عن القانون الدولي، إلى أن وصلت إلى مستوى "دولة مارقة"، أي "الدولة التي تحكمها الحكومات الاستبدادية، وتقيّد بشدة حقوق الإنسان، وترعى الإرهاب، وتسعى إلى نشر أسلحة الدمار الشامل" (23)، إضافة إلى تجاهلها لقرارات الشرعية الدولية.
ويعتبر الوضع الداخلي للدول أحد أهم عناصر قوتها أو ضعفها، ويعكس نفسه في تعاملها مع القضايا الإقليمية والدولية، بما يعزز المصالح الوطنية العليا، إذ إنّ القوة الداخلية للدولة هي أهم شرط لأية سياسة خارجية وأمنية ناجحة.
ومن أجل نجاح السياسة الخارجية لسورية المستقبل عليها أن تكون (24): دولة سلام واستقرار في محيطها العربي والإقليمي للوصول إلى وضع خالٍ من النزاعات، مبني على علاقات التعاون والتكامل والاحترام المتبادل، والانضمام إلى المنظومات الإقليمية التي تخدم مصالح شعوب المنطقة. والعمل مع منظمات هيئة الأمم المتحدة لتحقيق السلام العالمي، والانضمام للمعاهدات الدولية ذات الصلة بمصالح الشعب السوري، خاصة معاهدات الشرعة العالمية لحقوق الإنسان.
خاتمة
إنّ عملية التحوّل الديمقراطي تقتضي تغيير أنماط سلوك المواطنين السوريين، خاصة حول: الانتقال من القدرية الماضوية إلى التوجهات المستقبلية، والقطيعة مع ثقافة سياسية شعاراتية خالية من أية مضامين عملية مجدية ذات صلة بالسياسات المعاصرة، أي الإقلاع عن تصفية الحساب مع الماضي وإهمال تحديات الحاضر وتأجيل التفكير في المستقبل. ولا يمكن أن تتغير هذه السلوكات إلا في ظل بنية ثقافية تقوم على حرية العمل السياسي للقوى والتنظيمات السياسية والاجتماعية المختلفة.
ورغم أنّ عملية الانتقال السياسي لم تبدأ بعد، ولكنّ سورية تعيش مرحلة مخاض لمستقبل يتجاوز الاستبداد نحو أفق جديد، ينطوي على عدة مسارات متوازية: تفعيل الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، والعدالة الانتقالية، وعودة اللاجئين، وتفعيل دور المجتمع المدني، وتوظيف معارف وإمكانيات الكفاءات السورية في إعادة بناء دولة الحق والقانون في سورية المستقبل.
الهوامش
19 - راجع نور أبو عصب: المجتمع المدني كأداة مقاومة (مركزة الفرد في التغيير الاجتماعي)، موقع "الجمهورية" - ١٥ تشرين الأول/أكتوبر 2020.
20 - راجع جاد الكريم الجباعي: هل تشكل منظمات المجتمع المدني رافعة للوطنية السورية – صحيفة "جيرون" الإلكترونية، 23 تشرين الأول/أكتوبر 2016.
21 - راجع جمال الشوفي: سورية المنهكة دولة المواطنة والدستورية الممكنة، المرجع السابق.
22 - راجع برنامج الأجندة الوطنية لمستقبل سورية، برعاية اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا "إسكوا"، محور الحوكمة، الحوكمة السياسية – 2016.
23 - راجع رضوان زيادة: الدولة السورية المارقة – صحيفة "العربي الجديد"، 26 تشرين الأول/أكتوبر 2018.
24 - راجع جمال الشوفي: سورية المنهكة دولة المواطنة والدستورية الممكنة، المرجع السابق.
ومحمد خالد الشاكر: المرحلة الانتقالية وإشكاليات بناء الدولة السورية، المرجع السابق.

(*) – الجزء الذي ساهمت فيه من دراسة " إعادة بناء الحياة السياسية "، نُشرت في موقع " مركز حرمون للدراسات المعاصرة " – 15 آذار/مارس 2021.