مفهوم العبادة في النص القرآني ح2


عباس علي العلي
2021 / 11 / 20 - 22:50     

وهذا المعنى الحصري والقصدي المتأصل بجميع النصوص القرآنية لمفهوم ثلاثية التعبد والإستقامة والعدل في مفهوم كلي جامع يشدِّد القرآن الكريم فيه على تأكيده في أكثر من موضع كقوله تعالى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}، فقيام الوجه تعبير حقيقي يراد منه توجيه البصر والبصيرة نحو هدف (وما خلقت)، فهو ليس تعبيرا مجازيا ولا فذلكة لغوية وإنما هو عبارة عن نهج الحياة المطلوبة إلهيا وحسب قوانين الطبيعة التي سنَّها الله لخلقه، وما غايته الأسمى سوى التوفيق التام بين الوجهتين الروحية التعبدية والمادية المعاملاتية في الحياة الإنسانية.
ولا بد لمواصلة البحث من أن نمر على تعريف الأستقامة والإقامة والصراط المستقيم حتى تتضح المقاصد العقلية والعقدية منها ومن النص القرآني، أولا وكمفتاح بحثي قبل أن ندلف بالتعريف نقرأ النص التالي بروح المعنى ومن خلال معطيات ورود كلمة الاستقامة ذاتها، النص يقول (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل) هناك نقطتين مهمتين الأولى في تعديد الطرق المتاحة أمام الإنسان والتي سماها النص بالسبل، فالسبل كثيرة من ظاهر وروح النص لكن واحدا منه هو السبيل إلى الله وبه نصل له ونعرفه ونتقرب منه، هذا السبيل الوحيد هو صراطي أي طريقي المستقيم الذي لا عوج له ولا بديل له، النقطة الأخرى هي أمر الأتباع بمعنى الأمر الواجب أو المطلوب من الناس أن تسير عليه ليتمثلوا لأمر الله، بمعنى أن من يريد أن يعبد الله كما أمر الخالق عليه أن يتبع هذا الصراط وإلا فيكون قد ذهب إلى سبيل أخر، المطلوب أن نتبع الصراط المستقيم لكي نقيم أمر الله ونمتثل لندائه ونستقيم.
والأستقامة والإقامة في اللغة حال وصفي من فعل قم يقوم قائم فهو مستقيم بالأمر فالاستقامة إذا هي ضد الاعوجاج والانحراف فالشَّيء المستقيم هو المعتدل الذي لا اعوجاج فيه، وقد جاءت النصوص في القرآن بهذا المعنى حين تتكلم عن القيم أي شديد الأستقامة أو مكتمل التقويم (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) هنا الأمر واضح ألا تعبدوا إلا من خلال الدين القيم الذي لا عوج فيه ولا خلل لذلك تكرر هذا التعريف بنفس الكلمة سبع مرات في مواضع متعددة (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) ومعنى أقم وجهك أي أجعل توجعك وأستقامتك محو هذا الدين القيم، ومما يذكر أن هؤلاء المخاطبون بالإستقامة والإقامة وصفهم الله بالمؤمنين وكل مؤمن بالله ودينه فهو من عباد الله الصالحين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ)، فالقوامة بالقسط والعدل من صفات المؤمن العابد وبه يتمثل لأمر العبادة.
نتيجة التمثل للاستقامة وعبادة الله كما أمر لها مدلول ونتائج لا تتوقف عند حدود الطاعة بل تتجاوز مفهومها إلى النتائج الموعودة والتي تخص العباد الصالحين دون غيرهم وهي الفوز بالجنة كما يرد في النص (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ*أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، فيتضح من هذه الآية ومن التعريق أن العبادة التي أشار لها نص (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) لا تتعدى مفهوم إلتزام الأستقامة والسير على طريق مستقيم لإقامة أمر الله مجملا وليس منتقى أو مخصص فقط بالفروض والطقوس الحسية، فإقامة العدل كما هو عدل عبادة، الإنفاق في سبيل الله عبادة، التعلم والتفكر والتدبر عبادة، قول الحق ونصرة المظلوم ومقاومة الظلم عبادة، تقديم الخدمة للناس ومساعدتهم في تدبير شؤون وجودهم عبادة، فالكثير مما يعده البعض أنها لا تدخل ضمن العيادات الحسية والطقوسيات هي من العبادات بل من أفضل العبادات منها نفع الناس (خير الناس من نفع الناس) بمعنى أن أفضل العبادات التي يمكن أن يقدمها الناس لبعضهم أن ينفعوا بعضهم.
إذا مفهوم العبادة يتجلى ببسط الخير على طريق مستقيم ينتهي ويبتدئ بأمر الله والأستجابة له، فتكون العبادة هي المنطقة الواصلة بين البداية والنهاية بما تشمل من كل عمل صالح تكون صفته أنه بلا إعوجاج ومن غير سوء، العبادة مفهوم أكبري والطقوس والعبادات الحسية ما هي إلا وسائل حتى تقيم النفس والعقل على خط مستقيم لا انحراف فيها ولا فساد ولا علو ولا رياء فيه، فمتى ما فهمنا قيمة أن القوامة السلوكية على أنها واحدة من أساسيات التعبد ومصدرها الرئيس تصبح تلك الطقوسيات والافعال الحسية مجرد مفهوم أقلي تعبوي يقود إلى العبادة الحقيقية ولا بقوم مقامها إلا أن تتكامل جميعا وهذا هو مفهوم الصراط المستقيم الذي يجعل من العبادة ذات معنى ويجعل من الدين طريقا للناس حتى لمن لا يؤمن به ولكن شرطا أن يعلم حدود الإقامة والأستقامة (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)، هذا النص يركز على مفهوم العلم بالخط المستقيم ولا يركز على ضرورة الإيمان الخالي من علم أو التدين التقليدي المتناقل بين الأجيال على أنه فرض وأفتراض لا يقبل الجدل فيه ولا البحث عن أسبابه وعلله.