مفهوم العبادة في النص القرآني ح1


عباس علي العلي
2021 / 11 / 20 - 01:00     

مفهوم العبادة في النص القرآني
يبرر البعض أن ضرورية الخلق الكوني عند الله مرتبط بمفهوم العبادة وحدها دون أن يقدم معنى حصريا للعبادة إلا من خلال الطقوس والمفروضات التي يسميها أنماط التعبد، وكأن الله تعالى كان شغله الشاغل أن يحول الخلق كله إلى عباد له يخضعون ولا يملكون حق الفهم طالما أنه قال (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، والملفت للنظر أن النص خص فقط الجن والإنس وإنهم يتكلمون عن ضرورة الخلق الكوني، السؤال هنا هل الخلق بعموم أطلاق المعنى محصورا بهم؟ أم هناك مخلوقات أخرى تشاركنا الوجود ولكنها أستثنيت من العبادة؟ وما الدليل على ذلك مع وجود نصوص تؤكد نفي الفهم وتقر صراحة بأن هناك عباد لله مكرمون.
الملائكة من العباد الذين لا يفترون عن عبادة الله وشغلهم المجعول لهم أن يكونوا كذلك مع أنهم وحسب الفهم السابق غير مكلفون أصلا بالعبادة، هذه الإشكالية تقودنا إلى ضرورة البحث عن معنى العبادة في منظومة الفكر القرآني وعدم تخصيصها وأختزالها بالعبادات الحسية التي نحت سميناها عبادات، والحقيقية هي في محض وجودها وسائل لتصوير المعنى وخلق الحالة التي تجعل من المكلفين بها على درب العبادة، فالصلاة هدفها النهي عن المنكر والبغي، والصوم صحة وتقويم للنفس الإنسانية كي تتخلص من أردان الشهوات، والزكاة والصدقات والخمس تطهيرا لمكلف من حب الخيرات الذاتية وتزكية للنفس، والحج بيان للناس أنهم على صعيد واحد في كل شيء وتذكيرا بعاقبة الأمور، أليست هذه هي العبادات الحسية كما يقولون؟ أما قيم العبادات المنتدبة التي يزعم أهل النقل والعقل ممن يرى في تخصيص العبادة في أداء الواجب والمستحب على أنها كل ما تعني (ليعبدون) فهي قيم أخلاقية تصحيحية وإرشادية لسلوك المكلف وهو يبني طريقه للعبادة التي تنتهي وتبدأ في الأستقامة.
الله عندما خص الجن والإنس بالعبادة وهو يعرف تماما قبل أن يخلقهم كانوا ممن يعتريهم الضعف والفساد والجدل والتمرد وكل ما يمكن أن يخرجهم من الإستقامة التي أراده الله لهم لإختيارهم وحث وحض على ذلك، لذا فهو لم ينفك بتذكريهم بالإستقامة والخضوع لها لأنها تعني لهم الضمان بالسعادة الدنيوية أولا وقبل كل شيء (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، إذا أمر الله الأستقامة وأمر الله العبادة من خلالها لا من خلال الوسائل كغايات، كل ما أراده الله لنا كمكلفين وأمرنا بها هي أن نستقيم وكرر النداء مرة أخرى (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ)، هذا الخطاب ليس لفرد النبي بل لكل الناس مؤمنهم ومتدينهم ومن هو خالي منها.. أستقم تستقيم لك الدنيا.
ومن الأستقامة نفهم معنى العبادة التي عرفها النص القرآني بجلاء بكلمات بينات لا لبس في فهما ولا تأويل في مقاصدها وهي الفيصل الاكبر لمن أراد عبادة الله كما يريد، فقد قال النص (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)، الذين قالوا ربنا الله هم المؤمنون العابدون قولا مستقرا في القلب والسلوك واليقين وهم الفائزون بالعبادة فلا خوف عليهم من جزاء الله ولا من غضبه وسخطه، وقد قال محرضا من قبل وناصحا ومحبا (وَأَلَّوِ ٱسْتَقَٰمُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَٰهُم مَّآءً غَدَقًا)، فالأستقامة هي رضا الله ومرضاته وغاية وروح وجوهر العبادة، من دونها لا تصح عبادة ولو جئنا بكل الفروض والنوافل وما يظن البعض انها عبادة، فلا يستقيم الإنسان وهو لم يقيم الله في عقله وقلبه وسلوكه الذي سماها النص بالصراط المستقيم.
من هنا ترتبط العبادة بالإستقامة التي لا بد منها لنكون عباد صالحين وفقا لما يتمنى الله لنا، كما ترتبط لفظة “الصِّراط” بكلٍّ من العبادة روحا وجوهرا وقيم وسلوكيات ومنها قيمة العدالة المطلقة التي تعني وضع الشيء في محله دون زيادة أو الحاجة لإكمال النقص فيها على وجه الخصوص، فمن الآيات الدَّالة على الأمر الأول قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}، فالصراط المستقيم هو المعيار العملي لنتائج العبادة المستقيمة بأصولها، هنا بين الله لنا تعريف مجمل العبادة بمجمل ما يريد بقوله: {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}، فهل بعد هذا التعريف والتأصيل من مجال للإجتهاد والتأويل أعبدوني بمعنى الصراط المستقيم ولا يتم الصراط هذا إلا (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ).
ومن الآيات الدالة على ارتباط الصراط القويم الإستقامة في أمر الله بقيمة أمر الله بالعدالة (إن الله الله يأمر بالعدل والإحسان) قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، هنا العدالة تكشف أن إتيان الخير هو جوهر العدالة التي يريدها الله والعدالة تعني مطلق جوهر الأستقامة، وهذا الجوهر هو سر معنى العبادة ووجهها القصدي، لذا يتكرر الحديث بها مرة أخرى في نص قوله {إذْ دَخَلُوا عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ}،فالحكم بالحق هو العدالة وهو من واجبات الأنبياء فضلا عن الإنسان العادي، وعندما ورد النص بخصوص نبي الله داوود إنما أراد أن يقول أن العابد المثالي هو من يهدي إلى سواء الصراط من خلال تطبيق العدالة، فهو من هذه الجهة متعبد بأمر الله ومستقيم ومقيم وقائم بالمهمة.
وهذا المعنى الحصري والقصدي المتأصل بجميع النصوص القرآنية لمفهوم ثلاثية التعبد والإستقامة والعدل في مفهوم كلي جامع يشدِّد القرآن الكريم فيه على تأكيده في أكثر من موضع كقوله تعالى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}، فقيام الوجه تعبير حقيقي يراد منه توجيه البصر والبصيرة نحو هدف (وما خلقت)، فهو ليس تعبيرا مجازيا ولا فذلكة لغوية وإنما هو عبارة عن نهج الحياة المطلوبة إلهيا وحسب قوانين الطبيعة التي سنَّها الله لخلقه، وما غايته الأسمى سوى التوفيق التام بين الوجهتين الروحية التعبدية والمادية المعاملاتية في الحياة الإنسانية.