الدين والأخلاق وجوديا


عباس علي العلي
2021 / 11 / 19 - 02:12     

الدين معطى إنساني كما هي الأخلاق معطى إنساني وكلاهما يتعاملان مع الإنسان ويتعامل معهم الإنسان من خلال العلاقة الوجودية بين ذاته بذاته وذاته لذاته، بمعنى أوضح أن كلاهما من حيث المصدر مرتبطان بالوجود ومتعلقان به كنتيجة لوجوده بذاته عندما يعيها الإنسان فيتحصل عليهما من خلال السمو العمل التصميم التأمل موافقة الشروط الوجودية، حتى يجسدهما في إطار وجوده لذاته، ما لم يكتمل هذا الوجود الأخير لا تظهر القيم الدينية والأخلاقية شكلها الإيجابي وإن كان موجودة مثلا في واقعه، لكنها بمفهوم الحرية الوجودية المشروطة بالمسئولية، تبقى قيم ضرورية لكنها لا تعبر عن كون الإنسان حر بالضرورة والقوة، لذا فالقيم الدينية والأخلاقية التي تفرض أما فوقيا أو بغياب الحرية المسئولة مجرد أسر للذات الوجودية ويقاومها في حركته لأنها لا تبع من أكتمال الوجود الحر الذي يربط بين القيم والحرية والمسئولية في معادلة واحدة تكون هي الأقرب للماهية الجوهرية الحقيقية للإنسان في وجوده الحقيقي.
من هنا يمكننا أن نفهم علاقة الدين بالإنسان ليس من بوابة الدين لكن من بوابة وجود الإنسان ذاته، فكل الأديان سواء منها ما يصنف على أنه فوقي أو ما يعرف بالدين الوضعي يتعامل مع الهدف الوجودي للإنسان لذاته، ولكنه يحاول من حيث التطبيق وليس من ناحية الهدف أن يخرج الإنسان من حريته ليلقي به في دائرة المضايقة، إذا فشل الدين ليس في جوهره وغاياته ولكن بسبب الخلل في تطبيق المنهج الذي لا بد له أم يربط الهدف أولا بالمسئولية والحرية وثانيا يربط الحرية بالمنهج، لأن الإنسان كائن معرفي ميال لأن يعتقد أن الفهم هو باب الخيار والحرية في فتح هذه الباب تمتد من الفكرة للوعي مرورا بالتجربة الوجودية التي يعيشها.
خطأ القائم على الشأن الديني يتجلى في عدم فهم الإنسان لذاته بل يفترض أساسا أنه ما عنده هو كامل الخيار الصح، في الوقت الذي يجب أن يفهم علاقة الوعي بالحرية بالإيمان والقبول الحر، ولولا غياب هذا الإدراك لما كان الدين أن يتحول لمعضلة وجودية وأن يفرض بالقوة المعنوية أو المادية، ولما سعى الإنسان إلى محاولة الألتفاف والأحتيال على وعيه فأما أن يصبح عبدا للدين وينصهر به مستغنيا عن ذاته المفكرة والواعية والمختارة، أو يخرج منه بصورة أو أخرى لأنه يبحث عن قناعاته الخاصة التي غيبها الفرض الواقعي، وبرغم من كون الدين معطى إنساني كما قلنا لكنه مؤطر ومحدد ومقيد بإرادة خارج أساسا عن وجود الإنسان لذاته طالما أبعدنا عنصري الوعي والحرية ومنهما القرار بالقبول والرفض، الحقيقية الدين ليس سيئا لو سلكنا به طريق القرار، عندها يتحول إلى مسئولية أخلاقية وضرورة وجودية تعكس رغبة الإنسان أن يكون جزء من منظومة الدين ويتفاعل معها بل ويؤسس لقيمه الأخلاقية مستوحاة من مسئولية قراره الحر.
الأخلاق كذلك قبل الدين وإن كانت نتاج وجود الإنسان لذاته لكنه محكوم بظروف المجتمع والحاجة إلى زمن التجربة وزمن التطور وعنصر الحرية والوعي، ومع أنه نتاج الذات يبقة قيدا عليها ومحددا لنمط معزز بالقناعات والضروريات واللوازم إذا لم تتحرك وتتجدد مع حركة وتجدد وعي الإنسان وحريته، فهي تعاني مثل الدين نفس الإشكالية وتمارس نفس التسلط والقهر الأجتماعي، وبالتالي مع حاجة المجتمع لها للتنظيم والنظام لكنها أيضا بحاجة لأن تتفهم حقيقة دور الزمن من جهة وتجدد الوعي والإدراك الإنساني لوجود الإنسان لذاته وتجدد مسئوليته في بناء منظومة متحركة للأمام حتى تتفاعل في سمو الفرد صعودا لسمو المجتمع، فالحرية والمسئولية وحدهما كفيلان بتشكيل قيم أكثر إنسانية وأكثر قربا لتطور المجتمع كإنسان فرد وإنسان مجموع.
إن صناعة الدين وخلق القيم الأخلاقية في مجتمع ما تخضع لعوامل منها ما هو ضروري حتمي عندما يكون المجتمع بحاجة إلى أن يرسم طريقه خاليا أو نسبيا خالي من الأنتهاك والتجاوز، ثم هناك ضروريات العبش والمشاركة في روابط متعددة ومتشابكة كل منها لحاجة للتموضع عند ما يعرف بالحدود المانعة ذاتيا، فأحيانا كثيرة الحدود المانعة القمعية لا تنجح في حفظ النظام أو حتى إلزام الأفراد على التقيد بها في الوقت الذي تنجح قيم الدين والأخلاق بتلطيف هذا الميل العصياني، السبب يعود للحرية والمسئولية فالذي يعتنق دين أو يحترم قيمه الأخلاقية يتقيد بها لأنه يعتقد في قرارة نفسه أنه مسئول عن حماية معتقداته، عليه عندما يؤسس فرد أو مجموعة ما قيم أخلاقية ضميرية بإطار من الحرية المسئولة تتحول تلك القيم والمعتقدات إلى رابط قوي تصوت المجتمع وترفع من قدرته على الإنضباط بها.
قد يكون هذا الحديث عن القيم الأخلاقية والدينية نوعا من التنظير المثالي أو هكذا يفهمه البعض، ولكن مهمة المفكر والفيلسوف أن يبحث عما نسميه السمو في العلاقات البينية والأجتماعية التي تربط أفراد المجتمع بواقعهم، بشرط أن يملك من الحرية والمسئولية ما يجعله واعيا ومدركا لما يقول، إضافة إلى أن قانون حركة الزمن داخل الإطار الاجتماعي ومنه الأخلاق والدين تحتم عليه أن يتقصى أفضل السبل الحقيقية لترقية إدراكنا لماهيات هذه الروابط، إن مشكلة الحرية وإشكاليات القيم تتأثر بمستوى الوعي والقدرة على الأستجابة والإدراك، في الوقت الذي تحرص فيه القوى النافذة داخل المجتمع أن ترسخ قيمها ومداركها لأنها تعبر عنها وتعكس فهمها للواقع، وبالتأكيد فإنها تسعى دوما للتجذير والثبات المستكين في مواجهة عجز متزايد للتطور، بينما السمو الوجودي يريد أن يحرر الإنسان من أطر المجتمع التي تحد من حريته أولا، ومن قدرته على الخلق المتجدد والمتطور لكل القيم الرأسية التي تثبت عجزها من أن تكون رافع قيمي أو دافع للمزيد من الإنسانية في فهم الوجود لذاته.
المشكلة إذا ليست مع الدين ولا مع الأخلاق في إشكالية التناقض المعرقل للسمو البشري، بقدر ما يلعب الفهم والإدراك الإنساني أنه بحاجة للحرية والمسئولية في نحت سياقات التطور بالدين أو بالأخلاق كعامل مهم في إعادة فهم الوجود من خلال الواقعية الوجودية التي تحرص على ضمان تكامل الإنسان مع وجوده وليس تكامل الإنسان مع الواقع، فالنظرية الوجودية التي أمن بها سارتر وغيره قريبة أكثر وأدق في المقارنة والمقاربة بين الواقع الراهن والوجود مفهوما على أنه حقيقية لا تقبل التأثير عليها بالقيم الثابتة التي لا تتحرك وفق معطيات حركة الزمن ولا تطور الوعي والإدراك به، لقد تطرف أصحاب الديانات وأعمدة القوامون على تقاليد المجتمع بثورتهم على أفكار سارتر التحررية ودعوتهم بأنها فكرة تسلخ الإنسان واقعه وتنشر التمرد والعبثية والخ من الدعوات دون أن يمنحوا الفكرة فهما عميقا بعمق تركيب الوجود وقوانينه، وبعمق مأساة الإنسان الذي سحقته تقاليد وقيم وأحكام تعسفية عطلت سموه وصادرت حريته تاركة المسئولية عليه في كل الأختلالات التي أحدثها الدين التقليدي أو القيم المتوارثة والتي ألقت بثقلها وعجزها على كاهل الإنسان كي تمنعه من السير نحو السمو الحتمي بوجوده لوجوده.