الظاهرة السارتية ح 14هل منطق الدين وجوديا ج1


عباس علي العلي
2021 / 11 / 17 - 01:03     

هل منطق الدين وجوديا
من مباحث الفصل السابق ومن خلال فهمنا الخاص لحقيقة المنطق الديني عام والإسلامي خاصة يثار في عقلنا السؤال التالي، هل الرؤية الدينية مثالية تماما دون أن تلتزم بقواعد المنطق الواقعي ومنه المنطق المادي الوجودي بشكله الفلسفي وليس بالمأخوذ عنه تساهلا في الأستعمال؟ بمعنى أخر يمكن صياغة السؤال بشكل أخر " هل الدين في فهمه لقضية الخلق والوجود كان وجوديا ماديا؟ وما الدليل الذي يثبت ذلك؟ ولو كان كذلك هل يخرج ذلك المعرفة الدينية من المثالية والميتافيزيقية نحو أفق علمي معقول ومنطقي؟، في البداية وقبل الإجابة على هذه التساؤلات نفيا أو إقرارا، نسأل ونبحث عما هو شكل المنطق الديني في فهم الوجود؟ هذه المسألة تعد المحور الأول والأساس الذي يمكن من خلاله أن نستوضح الحقيقية بالعودة للنص الديني الثابت فقط بعيدا عن التأويلات والتفسيرات الغيبية أو الروائية.
الدين وأقصد في كل كلمة الدين هنا المنطق القرآني تحديدا يقوم على قاعدتين أساسيتين في تفسير الوجود وهما "قاعدة الخلق" و "قاعدة الجعل"، أي أن الحديث عن الوجود في كل النصوص الإسلامية تتحدث عن الخلق والجعل ولا تتحدث عن الإيجاد وإن تناولت أيضا موضوع الإنشاء والنشأة الأولى والنشأة الأخرى والأطوار الخلقية وحقيقة الإعادة والتدوير الوجودي، في إشارات كبرى لقضايا كلها تتعلق بالوجود كوجود متحول متبدل موجود بأنساق طبيعية لا تمس موضوع الأصل الوجودي، ولو أخذنا كل قضية على جانب بحثي نجدها جزء من منظومة التكيف وليس لها علاقة بالوجود من ناحية التكوين الأساس، قد يبدو هذا الكلام لبعض المسلمين نوع من التجاوز على الحقيقية التي يؤمنون بها أن الله هو الخالق وهو المكون وهو واجد الوجود، لا ننكر كل ذلك خالق وجاعل وصانع وبارئ ومصور ولكن لا نجد نصا ولا تلميحا حتى يقر فيه الله أنه أوجد الوجود من سبب أو حتى بدون سبب.


الخلق
الخلق تعريفا هو تشكيل الشيء بالصورة المنتقاة أو المرادة مسبقا أي وفق نموذج محدد، بمعنى فلسفي هو إعادة تكوين الشيء وفق ماهية ما لهدف ما لتحقيق نتيجة ما في عملية واحدة أو عدة عمليات بينها رابط (إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ) ﴿٤ يونس﴾، فالخلق وإعادة الخلق من خلال منطق الآية هو عمل تشكيلي تكيفي حسب الماهية المرادة له ولأجل هدف لكنه لا يقول أنه أوجد المخلوق لأن الخلق هنا من موجود مسبق لا من عدم ولا من لا وجود (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ) ﴿٤٩ آل عمران﴾ هنا الحلق مشروحا وبينا في المعنى أنه من تشكيل الطين، وفي نص أخر (خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ﴿٥٩ آل عمران﴾، ونص أخر (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) ﴿١ النساء﴾ وهذا نص أخر أيضا مع كثرتها لكنه يشير تحديدا إلى معنى الخلق في السياق المعنوي للكلمة (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ) ﴿٤٩ آل عمران﴾، بل هناك نص واضح بين لا لبس فيه يتساءل في امنطق النص ويجيب في آن واحد على أن كل شيء مخلوق من شيء قبله (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) ﴿٣٥ الطور﴾ هذا النص تحديدا ينفي الإيجاد والخلق من العدم ويقطع كل نقاش به.
إذا الحلق هنا يدور في موضع الماهية دون الجوهر وإن كان كما يقول النص خلقا من بعد خلق تعبيرا عن التطورات أو التبدلات الصورية والوظيفية (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ) ﴿٦ الزمر﴾، الخلق هنا له أسبابه وعلاته منه ما يعرف بالزيادة والتزايد لأجل ما أو هدف وغاية (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ﴿١ فاطر﴾، فالمخلوقات تخضع لمنهج مرتبط بالله كمدبر لعملية الخلق أو كقانون يسمى الحق وهو بمعنى ما لا يقبل ما يخالفه أو لا يطابق القيد فيه (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا) ﴿١٩١ آل عمران﴾، وهنا تجري الأمور وفق قوانين أشاءته "الحق" التي تعني قوانين لا يعتريها الشك أو النقص والزيادة أو تنتهكها أي قوى ما، تلك القوانين الثابتة محكمة وليست فوضوية ولا أنتقائية ولا معرضة بأي حال للإضطراب، ولكنه لن يتركها تحرج عن نظامها الوجودي (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) ﴿١٤ المؤمنون﴾، فعندما يشير النص الديني بمقارنة بين خالق الخلق ومن يخلق بأذنه أو يزعم الخلق فإنه يقول بصراحة أن الخلق عملية تتم داخل الوجود وليس في خارجه (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) ﴿١٦ الرعد﴾.
من مجمل هذه النصوص نعرف ونستنبط أن الله يخلق ما يشاء ومتى ما يشاء عندما يريد خلقا وفق ماهية وصورة وهدف وطريقة لكنها ليست من عدم، النص يفرق بين اللا شيء والعدم (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا) ﴿٩ مريم﴾، الكلام عن الشيئية هنا كلام عن وجود واللا شيئية عن وجود أحر مختلف بالماهية والجوهر ولكنهما يشتركان كلاهما في مضمون عملية الخلق (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) ﴿٢١ الحجر﴾، فالمادة الشيئية هي التي تملك أوصافا مميزة تجعلها وذاتيتها أمران مكملان لبعضهما، فعندما نشير للماء هنا نشير لشيء له ماهية خاصة تظهر جوهر وجوده ولا تتطابق مع شيء أخر لا بالشكل ولا بالجوهر التكويني، مثلا الزيت سائل والماء سائل الماهية العامة واحدة لكن الماهية الخصوصية تنبع من جوهر التشكيل الوجودي لكل منهم للجزئية الواحدة التي هي أصغر جوهر للمادة وليس الذرة لأن الماهيات المركبة تتكون في أصغر جوهر مركب لها وليس لأصغر مكون مادي.
أما الكون أو الجزء المخلق منه الأخر فهو اللا شيء أي المادة الخام التي لا تمتلك مواصفات خاصة ولا تشترك مع الأشياء بماهياتها ولا مواصفاتها، ولكنها قادرة بموجب قوانين الخلق أن تتحول إلى أشياء أو شيئيات محددة، فالأشاءة كما يفهمها أهل اللغة هي إرادة الشيء بذاته أن يكون متحققا، لكنها في المعنى القرآني تأتي بمعنى " التشيئة أو الشيئنة" وهما مصدران لفعل شيء يشاء فيقال ما شاء الله كان أي ما أراد له أن يكون شيئا ما كان، فالشيئنة هي تحويل وتخليق وتغيير اللا شيء إلى شيء (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) ﴿٣٠ الانسان﴾، المخاطب هنا الإنسان العاقل ينفي الله عنه قدرة الشيئنة والتحويل ويحصرها به بأعتباره وهذا الدليل الذي ينفي معنى الإرادة فقط هو (كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا)، فكل مريد حتى لو يكن عالما ولا حكيما يمكنه أن صاحب إرادة عندما يكون مخترا أو مضطرا لها، لكن من أحد مهما أمتلك من العلم والحكمة أن يشاء بمعنى الشيئنة الوجودية إلا من بملك قوانينها الأولى (أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ) ﴿٤٠ فاطر﴾، فالله عندما يشاء ليس المقصود به فقط الإرادة والتصميم بل القدرة على جعل اللا شيء شيئا وبالعكس (إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) ﴿٨ الطارق﴾.



الجعل
الجعل في النصوص القرآنية تعني التوظيف الماهوي والتكيف العملي ولتحديد الهدف من عملية التجعيل (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً) ﴿٢٢ البقرة﴾، وأيضا في معنى مشابه (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) ﴿٦٧ يونس﴾، فالجعل هو تحديد المهمة للمجعول بما يناسب الماهية ووفقا لهدف أو غاية مطلوبة منا أن تتحقق (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ) ﴿٧٠ يوسف﴾، هنا الجعل متاحا لكل قادر على أن يجعل لشيء هدف أو وظيفة أو مهمة يشترك فيها الله مع البشر بلحاظ أن الفرق بين الجعل الإلهي جعل مقنن ومحكم ومنضبط بقاعدة أولية كبرى وبغائية مطلوبة على إطلاقها، لا يمكن أن يكون فيها الجعل عبثيا أو بلا معنى (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) ﴿٣ الرعد﴾ وأيضا في نفس السياق النمطي المقنون نجد النص التالي (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ) ﴿١٦٥ الأنعام﴾، في هذا النص أشار إلى عملية خلق الإنسان لا من كونها عملية تكوين وتكييف ولكنه نسبها للوظيفة في عملية تبادل في المعاني القصدية وربطا بين جوهرية التكوين وماهية الأداء.
فالجعل إذا ليس خلقا تكوينيا ولا إيجاد أولي ولا يعني بأي حال سوى إسناد مهمة أو غاية أو هدف لمجعول مخلوق مسبقا أو سيخلق لها (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ﴿٣٠ البقرة﴾، فلا يمكن أن يكون الجعل سابقا في وجوده للخلق أي تكوين الماهية قبل الوجود ولذا قال إني جاعل في الأرض خليفة، وهذا خبر وعلم ومعرفة ظنية وليس فعل، والخبر كلام يكشف لكنه لا يوجد الموجود طالما أنه غير موجود لذا أجابهم الله حسب النص أنهم لا يعلمون (أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) ﴿٨٠ البقرة﴾، فلا يمكن أن يكون الجعل هنا بمعنى الإيجاد والتكوين الأساسي وهو لم يرتق إلى مستوى معنى الخلق.