الصين اللغز (2/2)


فؤاد النمري
2021 / 11 / 16 - 19:29     

الصين اللغز (2/2)

كيما تنفق أميركا حوالي 15 ترليون دولاراً على إنتاج الخدمات سنوباً وتشتري بضائع صينية وبضائع أجنبية بقيمة 1.5 ترليون دولارا يترتب عليها أن تطبع أكثر من 10 ترليون دولارا مكشوفة زائفة لا قيمة لها وتبيعها للعالم بضمانة الصين بما قيمته 70000 طناً ذهباً، وتستدين من الخارج ما يزيد على 1.5 ترليون دولارا كل عام أو مليون دولارا كل دقيقة كما أكدت نانسي بيلوزي رئيسة البرلمان الأمريكي . كل هذا العبث بالمال وبالإقتصاد لا يمنع الكثيرين من وصف أميركا بالرأسمالية والحمقى منهم يزيد ويصفها بالإمبريالية .
الصين تعلم تماماً أنها تستبدل سنويا بضائع بدولارات مكشوفة زائفة بقيمة حوالي 3 ترليون دولارا، لكن باسنبدالها ببضائع صينية حقيقية تكتسب الدولارات الزائفة قيمة تحددها الصين وليس أميركا .
سعر صرف الدولار اليوم هو 3 سنتات فقط من سنتات 1975 وهو ما يؤكد أن تعهد منظمة الدول الخمسة الكبرى (G 5) في اجتماعها التأسيسي الأول على مستوى القمة في رامبوييه في نوفمبر 75 والتي تعهدت بالحفاظ على أسعار صرف عملاتها ثابتة ضمن هامش محدود من الذبذبة لم يجدِ فتيلا . ما هو مستهجن حقاً أن الإقتصاديين من مختلف الدرجات لم يستوقفهم ذلك القرار الذي ينكر علاقة قيمة النقد بقيمة الإنتاج وهي أساس قانون النقد الدولي .

عالم اليوم يعيش في تظام غير رأسمالي فالبضائع تستبدل بغير قيمتها، تستبدل بنقود زائفة لا قيمة لها . التناقض الرئيس الذي اكتشقه ماركس كمحرك وحيد لتطور التاريخ حتى الوصول للشيوعية هو التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج . محرك التاريح هذا توقف عن العمل مع بداية الدول الكبرى جميعها الإستعداد للحرب العالمية الثانية التي استمرت ست سنوات وست أخرى لإعادة الإعمار . خلال إثني عشر عاماً تراجعت طبقة البروليتاريا في مختلف أقطار العالم وخاصة في الدول الكبرى المتحارية .
فيما بعد الحرب أُستقطب العالم في قطبين متنافرين الإتحاد السوفياتي والولايات المتحدة . لسوء حظ البشرية جمعاء، التناقض الكلاسيكي (قوى الإنتاج ضد علاقات الإنتاج) لم يُسترجع في أي من القطبين ؛ في الولايات المتحدة توفي روزفلت صديق الإتحاد السوفياتي الصدوق وخلفه ترومان وهو مجرم حرب استخدم القنابل الذرية في قصف المدن الآمنة في اليابان وكرّس كل مقدرات أميركا لمقاومة الشيوعية ولم يعد شيء من إنتاج العمال عليهم بخير؛ وفي الإتحاد السوفياتي شرع ستالين بتحويل دولة الحرب السوفياتية إلى دولة اشتراكية تحكمها دولة دكتاتورية البروليناريا كما كان قبل الحرب إلا أن قادة حزبه اغتالوه وأبقوا على دولة الحرب في الإتحاد السوفياتي وهو ما أدى إلى انهياره في العام 1991 .

اليساريون بأشتاتهم المختلفة وأيتام خروشتشوف من الشسوعيين صدعوا رؤوسنا يولولون من توحش النظام الرأسمالي وقد تجاوز مرحلة الإمبريالية كما يزعمون ليتجدد في العولمة بينما حقائق تلاشي النظام الرأسمالي القائمة على الأرض تفري العيون . قوى الإنتاج في العالم تراجعت بنسبة 70% خلال العقود السبعة الأخيرة يالقياس إلى ما كان سيكون حجم قوى الإنتاج بدون الحرب ودون رحيل روزفلت مبكرا في العام 45 واغتيال ستالين في العام 53 . الدلالة القاطعة على مثل هذا التراجع هي مجموع ديون العالم اليوم التي تناهز 200 ترليون دولارا في حين أن المبدأ الأساس الذي يقوم عليه النظام الرـسمالي هو أن المجتمع ينتج ما يتجاوز قدرته الشرائية بحكم فضل القيمة .
أمام مثل هذا التراجع المتفاقم لقوى الإنتاج في العالم ينتفي كل حديث عن التطور الإجتماعي ليحل محله الحديث عن الإنحلال والتفكك الإجتماعي . الأخبار اليومية في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين تغطيها أعمال الإرهاب وتجارة الرقيق والمخدرات والحروب الإثنية وتفسخ الدول والفساد بالإضافة إلى انهيار الإقتصاد قي بلدان مختلفة .
القانون العام لديالكتيك الطبيعة يقول أن التنامي المتوالي لقوى الإنتاج في المجتمع يقود إلى الثورة وتشكيل نظام اجتماعي جديد يسمح لقوى الإنتاج بالتطور المستدام ؛ أما في المجتمعات التي يتوالى فيها تراجع قوى الإنتاج فمصيرها التفكك والإتحلال . حدث هذا في تحلل الإمبراطورية العبودية في روما وسيحدث هذا وشيكاً في "النظام" العالمي القائم اليوم أو الأحرى "فوضى الهروب من استحقاق الإشتراكبة" .

في أطروحتنا هذه التي تؤكد الإنهيار الوشيك لفوضى الهروب من استحقاق الإشتراكية "النظام القائم" تلعب الصين لغزاً مربكاً صعب التفكيك ؛ فالإنحسار المتفاقم لقوى الإنتاج في العالم خلال النصف الثاني من القرن العشرين جرى تعويضه بمئات ملايين العمال الذين التحقوا بالإنتاج في الصين خلال نفس الفترة وأخذوا ينتجون ضعف ما تنتج أميركا من البضائع تقريباً – ألا يبطل هذا مختلف الإفتراضات التي اعتمدت عليها هذه الأطروحة !؟
بطلان مختلف الإفتراضات التي اعتمدت عليها الأطروحة يتحقق فقط إذا ما كان النظام في الصين نظاماً وطنياً بامتياز، نظاماً ثابتاً ومستقراً يعمل لصالح الشعب الصيني بمختلف طبقاته بل وحتى لصالح طبقة بعينها في الصين . هل النظام في الصين معلوم الهوية !؟ هل هو نظام رأسمالي كما يدعي بعضهم ؟ لا يمكن أن يكون رأسمايا والحزب الحاكم فيه هو الحزب الشيوعي لا يملك أيٌ من قادته ما يستحق الذكر . أم هو نظام اشتراكي كما قد يدعي البعض الآخر ؟ لا يمكن أن يكون اشتراكياً وعدد المليارديرات في الصين أكثر منه في أميركا . بعض المفلسين سياسياً يصفون النظام في الصين بـ "رأسمالية الدولة" وهو وصف لا يعبر عن الإفلاس فقط بل ويثير الضحك والسخرية أيضاً، فكيف لدولة غير رأسمالية بطبيعتها تجند كل قواها لبناء نظام رأسمالي يعمل ضدها !!؟

الإقتصاد الصيني هو في حقيقته لغز مفتعل، إنه تبادل الخطيئة بالخطيئة , دنغ هيساوبنغ عارض الثورة الثقافية التي اختطها ماوتسي تونغ لتحويل الصين مركزاً للثورة الإشتراكية العالمية بديلاً للإتحاد السوفياتي . ما إن تحقق فشل الثورة الثقافية في العام 69 حتى عاد دنغ بنغ إلى قيادة الحزب مؤمناً بمعارضة الأممية الثانية برئاسة كاوتسكي لمشروع لينين الثوري، وكانت ترى أن الثورة الإشتراكية العالمية لا تستحق قبل استهلاك النظام الرأسمالي المتطور، ولم يكن في روسيا القيصرية نظام رأسمالي ولا أقول متطوراً .
تزامنت عودة دنغ بنغ إلى قيادة الحزب برؤاه الكاوتسكية مع أولى إرهاصات إنهيار النظام الرأسمالي ووصول ريتشارد نكسون إلى سدة الرئاسة في العام 69 . كان النظام الرأسمالي المتطور في أميركا قد عجز عن تمويل الدولة . والدرس الفيصل الذي تعلمه نكسون إذاك هو أن سياسة ترومان المتمثلة بالنازية والتي كرست كل مقدرات أميركا لمقاومة الشيوعية والتي تواصلت حتى العام 70 قد أضرت بالرأسمالية في أميركا أكثر مما أضرت بالشيوعية . إذاك اضطر نكسون لانتهاج سياستين كان لهما الأثر الحاسم في تقرير "النظام" العالمي السائد اليوم المتمثل بفوضى الهروب من استحقاق الإشتراكية . في العام 1971 أعلن نكسون خروج الولايات المتحدة من معاهدة بريتون وود (Bretton Woods) التي تقضي بغطاء ذهبي للنقد الوطني وهو ما سمح للولايات المتحدة بإصدار الدولار المكشوف لأجل توفير النقود اللازمة لنفقات الدولة الأمر الذي انعكس بانهيار أسعار الدولار في أسواق الصرف واضطر وزير الخزانة جورج شولتس (G. Schultz) وهو يحمل درجة الدكتور في الإدارة المالية لأن يعلن التخفيض الرسمي لقيمة الدولار (Devaluation) ثلاث مرات قي عامي 72 و 73 وبات لازماً على الإدارة الأميركية أن تبحث عن غظاء للدولار خارج الولايات المتحدة .
كان ريتشارد نكسون أذكى قادة العالم الرأسمالي فجهد إلى أن يغطي انهيار النظام الرأسمالي فاتجه إلى الإتحاد السوفياتي علّه يجد فيه مأمناً للدولار المتهاوي فوجد الاتحاد السوفياتي وقد تحول إلى مصنع للأسلحة والأسلحة لا تغطي النقود كما يتوهم البعض، ثم راح يبحث عن ضآلته في الصين فوجد بزعيم الحزب الشيوعي دنغ بنغ شريكا له وأقنعه بأن يبني نظاماً رأسمالياً في الصين فقبل الزعيم لغفلته أن يبني نظاما رأسمالياً بعد أن كان النظام الرأسمالي العالمي يضبضب أطرافه ويرحل من ذلك العالم . لم يكتف نكسون بذلك بل أتى بوزير خزانة جديد فيه لوثة رأسمالية هو وليم سيمون (William Simon) وكان الفضل لهذا الوزير إعلان رامبوييه (Declaration of Rambouillet) نوفمبر 1975 حيث أعلن قادة الدول الرأسمالية الخمسة الكبرى عن كفالتهم متضامنين في الحفاظ على أسعار عملاتهم في أسواق المال .

الصين اللغز تستبدل سنويا بضائع بحولي 3 ترليون دولارا لكن هذه البضائع لم تكلف الصين أكثر من 300 مليار دولارا والفرق هو 2.7 ترليون . فإذا كانت أميركا تطبع سنويا 10 ترليون دولارا مكشوفا زائفاً وتبيعها للعالم بما قيمته 70000 طنا ذهباً فذلك يعني أت الصين تستحوذ على أكثر من نصف هذا الذهب .
أميركا والصين لصّان محترفان لا يقوى عليهما أية قوى أخرى في العالم ولن تكون نهايتهما غير دمار العالم إن لم يبكر البلاشفة في تدارك الكارثة .