متى يستعيد النظام العربي الرسمي قراره القومي السيادي؟


حسن خليل غريب
2021 / 11 / 15 - 21:37     

في الفترة الماضية القريبة، تناقلت التقارير أخبار زيارات يقوم بها ممثلون لأنظمة عربية رسمية، إلى عدد من الأقطار العربية كانت القطيعة بينها من أهم العلامات الفارقة. وهذا ما يستدعي التوقف عندها لاستكشاف أبعادها ومآلاتها.
بداية ولأننا ابتلينا بعدم تصديق النظام العربي الرسمي طوال مرحلة ما قبل احتلال العراق، وما بعده، لكثرة الأخطاء التي وقع بها بعض الأنظمة الرسمية. ولكننا اعتبرنا أن تلك الحركة، إذا صحت التقديرات المتفائلة، تشكل الخطوة الأولى على الطريق الصحيح. ولذلك لا بُدَّ من أن ننظر بعين الارتياح لمثل تلك الزيارات. لأن الفرقة بين الصفوف العربية، هي السبب الذي تنازلت فيه عن دورها وواجبها في معالجة القضايا العربية الساخنة، وما أكثرها. إن الفرقة أزدادت بشكل خاص في مرحلة ما بعد احتلال العراق، وبشكل أوسع بعد البدء بتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي سموه كذباً ونفاقاً بـ(الربيع العربي).
إنطلاقاً من إشكالية واقعية معيوشة نوجزها بما يلي: لو حصل خلاف بين أبناء عائلة واحدة، ولأنه باستمراره يعني تدمير الأسرة كلها، بما فيه من أضرار جسيمة تطول الجميع، تكون الخطوة الأولى بإعادة تجميع أفراد الأسرة من أجل مناقشة أسباب الخلاف بينهم ووضع أسس للاتفاق.
بمثل هذا التبسيط، يمكننا الدخول إلى البحث في إشكالية التمزق العربي الحاصل في هذه المرحلة. وفيه نجد أن أسباب تدهور الواقع العربي الراهن تتفرَّع إلى سببين رئيسين، وهما، الفراغ الذي تركه النظام العربي الرسمي نتيجة تدهور العلاقات فيما بين الدول العربية من جهة، وإملاء هذا الفراغ من قبل القوى المعادية للأمة العربية من جهة أخرى. وإن المرعب في المشهد الراهن هو أن بعض أنظمة العرب الرسمية انخرط في ورشة التخريب، تمويلاً وتسليحاً، لبعض ما يجري في الوطن العربي، وإن جزءًا من الشعب العربي يرضى بوظيفته المأجورة بالنيابة عن الدول الخارجية.
لذا كانت النتائج، أن القوى المعادية، دولية وإقليمية، استغلَّت تدخلها من أجل تفتيت النسيج الاجتماعي للشعب العربي وجنَّدت كل منها شريحة من هذا المجتمع، ضد شريحة أخرى، ومدتها بالتمويل والتسليح. وبذلك تحول أبناء المجتمع الواحد إلى محاربين يأتمرون بأوامر الجهة الخارجية الراعية لها.
من خلال مراقبة هذا الواقع، نرى هنا وهناك أن الشعب العربي، بأكثريته الساحقة، دفع الثمن جوعاً ومرضاً وتهجيراً وتذابحاً. ولم تحصد الأنظمة سوى الفرقة والتشتت، والمزيد من التبعية للقوى الطامعة بالوطن العربي، بينما كانت محاصيل بيادره تذهب إلى إهراءات الدول الخارجية.
إسترداد القضايا العربية إلى الحضن العربي:
كل هذا يطرح على العرب جميعاً، أنظمة رسمية وحركات سياسية وأفراداً، العديد من الأسئلة، ولعلَّ من أهمها: هل من حل لهذه الإشكالية المأساوية؟ وهل من نقطة ضوء في آخر النفق المظلم؟ وهل من مبادرة لكسر جدار الحلقة الجهنمية التي غرق فيها العرب؟ وهل يدركون أنه آن لهم أن يلعبوا دور الطبيب المعالج لجراحاتهم ومشاكلهم وقضاياهم، خاصة أنهم أدرى بشعاب مكة وأكثر حرصاً من الخارج على إيجاد الحلول المناسبة؟ وهل يدركون أن التدخل الخارجي ليس مجانياً من أجل إيجاد حلول لتلك القضايا، لا بل إنه تدخل يُسهم في تعقيدها ولا يسمح بتمرير أي حل إلاَّ بعد ضمان مصالح تلك الدول ولو على حساب العرب؟
النظام العربي الرسمي يتحمل المسؤولية:
ولأن الجماهير العربية صاحبة المصلحة الأولى في الوصول إلى حلول لقضايا متفجرة طالما أنهكتها، ولكن ليس بيدها مفاتيح الحلول، فإننا نحصر المسؤولية بالنظام العربي الرسمي في هذه المرحلة تحديداً، على أن يكون من مهمة الجماهير أن تناضل مستقبلاً من أجل تطوير النظام باتجاه القيام بواجبه وتصحيح العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
ولأننا نحمِّل مسؤولية الفراغ الحاصل لأهل مكة، لا نريد في عجالة مقال قصير أن نحدد المسؤوليات بالتفصيل، وإنما سنختصر القول بأن الجميع يتحملون المسؤولية كاملة، تلك المسؤولية التي ابتدأت عندما غابت القمم العربية، على شكليتها في آخر مؤتمر لها عُقِد في بيروت من العام 2002، أي المؤتمر الذي سبق احتلال العراق. والذي من بعده استمرت المؤتمرات ولكن لكي تصدر قرارات تعتمد على إملاءات القوى الخارجية، واستجابة لمصالحها.
الخطوة الأولى تبدأ باستعادة المؤسسات الرسمية العربية قرارها السيادي:
وإذا أردنا، من وجهة نظرنا، أن نبدأ في وضع خارطة طريق للمستقبل، علينا أن نبدأ من حيث توقف انعقاد آخر مؤتمر. أي على الأنظمة العربية الرسمية أن تطوي صفحة الوقت الضائع، الذي هُدر طوال عشرين عاماً تقريباً، وتبدأ من جديد لوقف الانهيار عند حدود ما وصلت إليه، لتشكل نقطة الانطلاق لبداية إعادة البناء على أسس وقواعد متينة، ولعلَّ تلك القواعد الثابتة هو أنه على النظام العربي الرسمي، بعلله وشوائبه وأخطائه السابقة، أن يدرك بأن كل خلل حصل في تصدَُّع العلاقات العربية – العربية، هو أشبه ما يكون بخلاف أبناء الأسرة الصغيرة الواحدة، الذين عليهم أن لا يهدموا سقف بيتهم، بل هم ملزمون بمنع تصدعه لأن السقف سينهار على رؤوس الجميع.
ولأن السقف القومي انهار على رؤوس جميع الأنظمة العربية الرسمية، وكذلك على الشعب العربي، عليهم أن ينهضوا من تحت الركام لكي يبنوا سقفاً جديداً يحميهم من خطر الموت والاندثار تحت الردم. كما عليهم أن يدركوا أن الدول والقوى الخارجية لن يقوموا بهذه المهمة لأنهم المستفيدون من هذا الانهيار.
واستناداً إلى ذلك، وخاصة بالنسبة للقضايا العربية التي غرق أبناؤها في الاقتتال الداخلي، أحسب أن البحث بمواصفات تجميلية للنظام العربي الرسمي في هذه المرحلة هو بحث مؤجَّل إلى ما بعد إعادة توحيد الصفوف، والوصول إلى توافقات مشتركة تعيد وسائل استعادة دورهم الغائب عن معالجة قضاياهم بأنفسهم أولاً، وإلى إقصاء أي قوة خارجية، دولية وإقليمية، عن تلك القضايا من جهة أخرى.
وعن الإصلاحات الداخلية، والتي كانت تشكل سبباً في نقمة الجماهير الشعبية، والتي أغرقتهم في متاهات الاستقواء بالخارج، يكفي أن يتعلَّم النظام العربي الرسمي من دروس ما حصل، ليبادر إلى تصحيح ما أثبتت الدروس السابقة خطورته على العلاقة السليمة بين الحاكم والمحكوم بكل موجباته. كما يكفي شرائح المجتمع الوطني في القطر الواحد أن يتعلَّم كم هو حجم الخسائر التي دفعتها نتيجة التدخل الخارجي، لعلَّ أكثرها وبالاً ما حصل من تفتيت وتفسخ في بنيته الاجتماعية.
إن من أهم الأسباب التي فكَّكت حتى الشكل في العلاقات بين الأنظمة هي مخاوف البعض منها من البعض الآخر، وهو ما خُيِّل إليها أنها بحاجة إلى الاستقواء بالخارج لاستدراج حماية أنفسها، فوقعت في الفخ والمنزلق الخطير، فدفعت الخسائر الجسيمة التي لو دفعت جزءاً منها في سبيل ترسيخ الأخوة العائلية العربية، لكانت محمية بشكل أكثر ضماناً وأقل كلفة.
إن أولويات الحلول تبدأ من أن الأمن الداخلي الذاتي هو واجب وطني وقومي لن يأتي من جهة خارجية، بل يجب أن يكون مبنياً على قواعد وطنية. وإن الأمن الوطني والقومي العربي، كما هو واجب على الأنظمة الرسمية، هو واجب أكثر لزوماً بين الحركات السياسية في كل قطر من أقطار الأمة العربية.
ولماذا الاستعانة بالخارج؟
سؤال يفرض نفسه باستغراب، لأنه لو أدرك الجميع أن قوتهم بوحدتهم، لما فكَّر أي منهم بالاستقواء بالخارج. وهذا ما نحسب أنه واجب على العرب جميعاً، قطراً قطراً، لأنهم يمتلكون مجتمعين من أسباب القوة ما لا تمتلكه أكثر دول العالم. فلديهم: القوة الاقتصادية، والقوة البشرية. فإذا تمَّ استثمارها بوسائل توحيدية لما احتاج أي قطر عربي، أو أية شريحة سياسية لحماية أحد، بل لكانوا قد شكلوا قوة تستطيع أن تردع أية أطماع خارجية، أو أي اعتداء خارجي.
ومن خلال هذا المنظار يمكننا النظر بعين الارتياح إلى ما نشهده من حركة رسمية عربية تجاه هذا القطر أو ذاك. وذلك على قواعد إعادة التضامن بين العرب، وإعادة الثقة بينهم بإزالة المخاوف أولاً، واستعادة القرار السيادي ثانياً. وبين هذا وذاك، يكون التعاون مبنياً على قواعد الأخوة والتضامن القومي والوطني، وعلى أن لا يكون مدخله عبر محاصصات سياسية أو طائفية، أو أغراض ومصالح اقتصادية ضيقة.