طريقين إلى روما...النهاية الواحدة دائمًا، بقلم لوجينا صادق


محمد عادل زكى
2021 / 11 / 14 - 03:37     

مازال الفهم الأحادي للأمور مسيطرا على أذهان النخب، حيث دائما ما تتحول المشكلات لمسطحات تسطيع أن تنزلق من فوقها المصالح الخاصة والإيديولوجيا مع تبرير جيد أمام العامة لحالة السقوط والتدهور المستمر. وقد وجدنا تلك الحالة من التسطيح المستمر تصل إلى حد إعادة تعريف العلوم، حتى تلك التي أستقرت ذهنيا في الوعي بشكل أحادي ساذج وقريب من العلوم الوصفيه.
لأسف قد كان ضحايا لتلك الأفهام القاصرة على المظاهر أو حتى التي ترى الواقع بنظرة واحدة فقط، وبالتاكيد هى نظرة الذات. ومن أهم هولاء الضحايا هو علم الأقتصاد السياسي حيث دفع العلم ثمناً غاليا، حيث تحولت العلاقات الممكنه بين الأقتصاد والسياسة كعلاقة جدلية وديناميكية، إلى علاقة أحادية تأثريه يغلب فيها الواحد على الآخر، وقد تجلت تلك الحالة في الفصام التشخيصي لمشكلات الفكر العربي على مر عصوره، حيث شخصها البعض بمنظور أقتصادي بحت ووجد أن الخطأ الحقيقي يقع على عاتق البنى الإقتصادية المتهالكة والتي تجاوزت زمانها الحقيقي منذ مئات السنين. وعلى الجهة الآخرى نجد من يجعلون من تاريخ الشرق الأوسط والعربي خاصة تاريخ من الازمات السياسية التي لحقتها مفاسد أقتصادية أو يمكن وصفها بقول الشاعرِ: " إذا كان ربُ البيت بالدفِ ضاربا فشيمة أهل البيت الرقص "؛ أي أن الداعم الحقيقي لكل فساد أقتصادي هو سلطة سياسية فاسدة وسياسات أقتصادية غير قادرة على مشكلات الواقع الحقيقة، ولا يتبناها سوى الساسة الفاسدين أو على أقل تقدير المستفيدين.
والحقيقة هى أن كلا المنظورين قام بتسطيحه للمشكلة كمشكلة أحادية البعد، قد أهمل ميراثا تراكميا من الفساد والأزمات على الصعيد الآخر. وأن المنهج الحقيقي لدراسة التاريخ هو المنهج الجدلي بإعتباره قادراً بشكل أكبر على إستيعاب التاريخ وتناقضاته، بل وحتى على فهمه الصحيح. ويمكن أن نقول أن اللحظات التي يتفوق فيها دور السياسة على الإقتصاد أو العكس ما هى إلا لحظات تأسيسية في البنية، ولكنها لا تعرف عن هيمنة أحدهما على الآخر بقدر ماهو تطور منطقي، فما بدأ كفساد سياسي تفشى كإحتكار سياسي، وليس لأحدهما السببية المطلقة.
ولذا وجدنا حاجة للنظر إلى العلاقة الجدلية بين كلا العلمين بعيدا عن التهيؤات بندية أحدهما أو إستحواذه على الضرورة المنطقية لوجود المشكل، وأنه بحل هذا المشكل أو البحث في مشكلاته سوف تنحل كل الهموم وتزول كل الخطايا.
غراب البين: عندما يقترب الإقتصاد من الإفلاس
لا شك أن أصدق المؤشرات على خراب النظم أو حتى تهالكها هو إقتصادها، حيث تعاني البلدان من أزمات أقتصادية حية قبل أن تودع مكانها في التاريخ، ولكن هذا لا ينفي إمكانية تأثر هذه البداية الإقتصادية ذاتها بالأنساق السياسية الموجود وبظروفها التاريخيه، لتكون الحالة الإقتصادية محدد مُحدد سابقا من خلالها ومتفاعل معها.
ولكن يمكن أن نجد تلك الحالة من التدهور الإقتصادي كنذير للشؤم في ثنايا تاريخنا السياسي الحديث، حيث كانت حالة البلاد الإقتصادية وتبعيتها الإقتصادية في عصر سعيد هى المؤشر الأقوى على ما سوف يحدث بعد ذلك من دخول الإستعمار إلى مصر بحجة ضمان دفع مصر لمستحقاتها وغير ذلك من الدعاوى التي تعتمد بالأساس على حجج إقتصادية وليست سياسية في المقام الأول، فلم تحتل إنجلترا مصر على سبيل المثال لتقضي على الملكية أو لتنصر حاكما ضدد آخر، وإنما لتضمن مستحقاتها وترد أموالها المدفوعه لمصر.
ويمكن تعميم تلك القاعدة مع شيء من التجريد وتعريفها بضرورة أن يلعب الإقتصاد وطبيعته كإقتصاد نامي أو إقتصاد كونيالي أو حتى رأسمالي أحتكاري دورا في الطريقة أو النهاية التي يمكن أن تنتهي بها حياة البلدان. لا يمكن أن نرى نهاية الإتحاد السوفيتي وأزماته العديدة ومشكلاته الإقتصادية مثل تلك التي في بلد نامي مثل اليابان في حينها
أقتصاد السلطة: دور السياسة في الإقتصاد
لعبت السياسة دورا لا يقل خطورة عن دور الإقتصاد في اللعب بالسوق وبأسعاره وقوانينه، فأن كان الإقتصاد هو البنية الإساسية والمحدد الأولي لكل سياسة ممكنه، كذلك حددت السياسات الإقتصادية التي أتبعتها السلطات كل مستقبل ممكن للإقتصاد في النمو والإزدهار أو التدهور والإنزواء. والحقيقة أنه بالرغم من ذلك الدور الفعّال للسياسة في الإقتصاد وتحريك عجلته، إلا أن البعض حاول أن يجعل من السياسة نداً للإقتصاد وليس حلفاء متوافقين ومتأزرين حتى أخر لحظة. والحقيقة أن تلك النظرة تهمش من حقيقة الدور السياسي أو تعظمه لأغراض سياسية أو إيديولوجيا، حيث يتم النظر للمشكلات من بعدها السياسي فقط مع إنكار وجود أزمة حقيقية تتعلق بالبنية ككل وليس فقط بظواهر تتجلى فيها البنية.
الحقيقة أن دور السياسة في الإقتصاد لهو ظاهر كفايا، للدرجة التي تجعل منه شبه بديهه، ولكن وعلى سبيل المثال ومن تاريخنا السياسي المعاصر يمكن ان نجد النموذج الناصري، حيث تغيرت المشيئة الإقتصادية أو لنقل تأثرات بقرارات السلطة السياسية لتكون سياسات أقتصادية جديدة تحاول أن تعيد تنظيم السوق نفسه وضبطه.
ولا نتحدث هنا عن مدى فعالية تلك المحاولات للرهان على حصان واحد مع ترك الآخر للجحيم أو للجنة، ولكن لنرى كيف كانت هناك محاولات كثيرة ورهانات لا تعد ولا تحصى للتسابق على حصان واحد دون الآخر، وفي النموذج الناصري نفسه كانت هناك معادلة ضمنية للنظام الحرية السياسية أو العدالة الإجتماعية بمفهوها الإقتصادي، ونرى من تلك العلاقة التي تضع الجميع أمام أختيارين أثنين لا ثالث لهما في منطق التفكير الأحادي، ولا ضرورة تدفع لوجودهما كنقيضين سوى المشكلات السياسية والوقتية نفسها التي كان يعاني منها النظام بسبب طبيعته الخاصة والإسثتانية في فترة عبد الناصر، حتى تحولت هى للقاعدة التي على أساسها نفكر ونطبق.
أقتصاد أم سياسة: حصان واحد لا يكفي
شاهدنا مما سبق كيف كان للإقتصاد دور تحذيري للسياسة على مصيرها المحتوم بالتبعيه لو تحول الإقتصاد إلى تابع، وكذلك دور السياسة في تحريك الإقتصاد إلى مصير أفضل أو حتى أتعس، ولكن يجب أن نقر بأن هذا الفهم الأحادي لم ينجح بسبب طبيعته السطحيه في حل المشكلات على المدى البعيد، ولم يتعرض يوما ما إلى البنية، بل وللمفارقة أنه بالرغم من كم المكاسب الكبيرة التي حصدها الحصان الواحد على المدى القريب لم يستطع في النهاية أن يثبت قوته وقدرته على الإستمرار حتى النهاية، ففي حالة إسماعيل كان الإقتصاد ناهضا وصاعدا على الأقل بمنظور عصره وبمقايسه، ولكنه لم يزل كذلك بسبب أخطاء سياسية أرتكبتها العائلة الملكية والتي أورثت مصر ديونا إقتصادية باهظا كلفت مصر الكثير والكثير، بل وربما حتى إستقلالها.
والحقيقة أن تلك لم تكن أزمة الحفيد وحده، حيث دفع الجد محمد علي نفسه تلك الضريبة عندما أخطا واراد التوسع وحلم بالخلافة والسلطنة بدلا من الولاية والباشوية، ولكن محمد علي كان حصانه الإقتصادي ذو تصارع شديد، حتى ظن فيه أعدائهُ السوء أنه سوف يصل إلى خط النهاية بسرعة فائقة، ولكن ما حدث وحدث لا حرج في التاريخ، كان عكس ذلك تماما ولا شك أن هولاء الأعداء كانو من ضمن الأسباب التي حطمت أقتصاد مصر في أواخر عصر محمد علي، ولكن السؤال ألم تكن النكبة الحقيقة لمحمد علي هو نظرتهُ السطحيه للنهضة كنهضة شكلية وأقتصادية فقط ؟. وماذا لو كانت هناك نظرة قومية حقيقية هل كان المصريون سيستمرون على هذا التخاذل ؟.
والحقيقة هى أن محمد علي أو غير محمد علي من الطامحين في نهضة حقيقية كانو قاصرين أنظارهم على النهضة الإقتصادية حتى فوجئو باخطائهم السياسية وهى تهدم لهم ما بنو، فانمحت اثارهم ولم تبقى سوى ذكراهم السيئه كمستبدين وقامعين في التاريخ.
على الصعيد الآخر وعلى صعيد السياسة ودورها في تحريك الإقتصاد يمكن القول أن النموذج الناصري هو الأبرز في تاريخ مصر السياسي المعاصر، حيث أرتكز هذا النظام على إعادة وضع سياسات إقتصادية أكثر عدلا وإنصافا للجميع، ولكن مشكلة هذا النظام هو عدم إدراكه لحقيقة البنية الإقتصادية الزراعية التي يقودها وتحميلها أكثر مما ينبغي، بالتاكيد كانت لعبد الناصر إصلاحات وإدخال الكثير من الصناعات الحديثه، وطموحات بالإستقلال والإنتاج المحلي ولكن كل ذلك ضاع هباء أمام متطلبات الواقع الإقتصادية وحاجاته المتزايدة مع ضعف في البنية وسوء إدراتها سياسيا.
في الواقع أنه بالرغم من تحولات عبد الناصر إلا أنه قد أورث مبررا للغرب لا ليغزونا عسكريا هذه المره، ولكن ليتخذ منا عبيدا وتباعاً، فمن الديون والقروض التي بدائت من عهد ناصر في الزيادة ومن الحاجات الإقتصادية كالدعم وغيره التي أرادت الدولة بصدق تحقيقها مع فشل وعجز في تغير البنية الإقتصادية لعدم وجود دواعم سياسية شعبية تستطيع فعلا أن تخلق بنية أقتصادية جديدة، كانت هى السبب الأبرز الذي يستغله الغرب وحتى يومنا هذا في إخضاع العرب وإذلالهم بالقروض والنقود المعطاه كمنح ومعونات.
ويمكن أن نرى مما سبق أن الدرس الوحيد الممكن، هو عدم التركيز على حصان واحد دون آخر، حيث أثبت كلاهما فشله على الصعيد العملي في تحريك الواقع، بل والمفارقه أنه حتى في حال أستطاع أن يخلق معجزات أقتصادية كما فعل محمد علي في فترة حكمه في مصر قد تنتهي في النهاية لتبعية إقتصادية وشراء قماش بريطاني، أو في حالة سعيد لزيادة لا مبرره في المديونية الخارجية.
وأنه يجب على كل من يحاول أن ينظر للطريق الحقيقي للنهضة والتقدم من منظور جدلي يتفهم كلا الحاجات وكيفية أدارة الإقتصاد بسياسة حكيمة لا تنفي الأبعاد السياسية وكذلك لا تنكر وجود حاجات وضرورات إقتصادية، لعلنا بذلك نصل إلى منطق أكثر مرونة وحيوية بدلا من الفهم الأحادي القاصر عن إدراك تبعيات تلك الأحادية من قرارات فاشلة ومعدومة القدرة على الإستمرارية. ويمكن تلخيص ما يحدث من عطب في عالمنا المعاصر بأنه عطب بنيوي لا يقتصر على بنية ما دون أخرى وإنما يلزم علاجهُ الحل الكلي لكل البنى بلا إستثناء وبلا تمييز لأحدها على الآخر.
أخيرا أقول انه بالرغم من كلاسيكية التساؤل حول العلاقات الممكنه بين الإقتصاد والسياسة ولكننا مازلنا عالقين في عنق الزجاجة وفي عصور ما قبل النهضة، حيث مازلنا نجادل في ضرورة الحرية أو المناخ الآمن لوجود تطلعات وأماني حقيقية، وكذلك مازلنا نعبث بالإقتصاد وكأننا في زمن الحاكم لأمره، ولا ننظر لخطورة هذا الفساد والإنحلال الإقتصادي وما هو دوره كمؤشر على الهلاك المحتوم.
وأقول أن روما المتخيله والخوف من الذهاب إليها من طريق ما هو السياسة وما تستلزمه من مرونه، والإعتماد على طريق التنمية والرخاء الشكلي قد يغير من حتمية الوصول في النهاية إلى روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية المنقرضة، أي أن صيرورة التاريخ ببساطة لن تتوقف حتى لو تبدلت الأثواب وأن رغبتنا في النمو لن تغني عنا شيء أن أستمررنا في طريقنا الواحد.