على شاشة حاسوبك صورة لماركس


عبدالرزاق دحنون
2021 / 11 / 13 - 21:44     

في موقع "الجمهورية" يسأل ياسين الحاج صالح ضيفه السوري المغترب في فرنسا فاروق مردم بيك:

على شاشة حاسوبك صورة لماركس بألوان كثيرة. ما معنى أن تكون ماركسياً اليوم؟ قيل مراراً أن ماركس قد مات، فهل تراه بعث حياً من جديد؟

أُحبّ صورة ماركس هذه بألوانها المُرقّطة «الكيتش»، لأنّها تُزيل عنه هالة القداسة، ولأنّها تُعلن لمن يراها أنّ ماركسيّة ماركس ليست عقيدةً شاملة مُكتملةً مُغلقةً. ثمّة سلسلة في دار نشرٍ فرنسيّة صغيرة، عنوانها «ألف ماركسيّة»، أستعيره للإجابة عن سؤالك: ما معنى أن تكون ماركسيّاً في أيّامنا؟ ربّما كان الجواب الذي تتوافق عليه هذه الماركسيّات الألف هو أنّ ماركس لم يزل المُفكّر الوحيد الذي لا غنى عنه. أعني أنّك قد لا تُوافقه في قليلٍ أو كثيرٍ ممّا كتبه في الفلسفة أو الاقتصاد أو التاريخ، وأنّك لا تستهين أبداً بإنجازات مُفكّرين عظام قبله وبعده، ومنهم من يختلفون معه في كلّ شيء، في إشكاليّاتهم ومفاهيمهم ومناهجهم، ولكنّك لا تستطيع، ما دامت الرأسماليّة، وما دام الصراع الطبقيّ بأشكاله القديمة والمًستجدّة، إلّا أن ترجع إليه للتفكير معه أو بمُحاذاته، أو حتّى ضدّه. أتذكّر في هذا الصدد هزء دريدا في مقدّمة كتابه شبح ماركس من القائلين بأنّ ماركس قد مات، وأتذكّر أيضاً تصريح جيل دولوز: «أعتقد أنّي وفليكس غواتاري (شريكه في بعض مؤلّفاته، وهما نيتشويّان قُحّان) ما زلنا ماركسيّين، وذلك بمعنى أنّنا نرفض أيّ فلسفةٍ سياسيّة لا تنطلق من تحليل الرأسماليّة وتطوّراتها».

لم يكفّ ماركس طوال أربعين سنة، منذ مقالاته الأولى في 1843 حتّى وفاته في 1883، عن السعي إلى فكّ رموز «هيروغليفيّة الحداثة» الرأسماليّة، مُنتقلاً من نظريّة الاغتراب عن الذات إلى دراسة الاقتصاد السياسيّ الكلاسيكي دراسةً مُعمّقةً إلى نقده جملةً وتفصيلاً. نراه في مُراسلاته الغزيرة -التي تكاد تكون مُدوّنته اليوميّة - منشغلاً على الدوام بهمّه النظريّ، أي تفسير العالم كما هو، وبهمّه السياسيّ، أي تغيير العالم، حريصاً على توضيح مفاهيمه ومراجعتها إذا تثبّت من قصورها، وعلى ذكر ما ينبغي له أن يتعلّمه لفهم ما أشكل عليه أو لاستكمال نظريّته الاقتصاديّة بحيث تشمل، مثلاً، ما استنتجه من آخر أزمةٍ صناعيّة في بريطانيا أو خصائص التطوّر الرأسمالي في الولايات المُتّحدة أو طبيعة الملكيّة العقاريّة في روسيا. سوّد ماركس آلاف الصفحات، على دفعات مُتتالية، قبل أن يصوغ مخطوطته النهائية للمُجلّد الأوّل من كتاب رأس المال وأن ينشرها في 1867، مُضيفاً في كلٍّ دفعةٍ مفاهيم جديدة أو مُتخلّياً عن مفاهيم سابقة، وهذا ما جعله يُعدّل مراراً مخطّط بحثه. ومن المعروف أنّه لم يكن راضياً عن بعض تفاصيل الكتاب كما نُشر فأعاد النظر فيه قبل ترجمته إلى الفرنسيّة، ثمّ قبل صدور الطبعة الألمانيّة الثانية، وكان ينوي قٌبيل وفاته صياغته بكامله من جديد.

ومن المعروف أيضاً أن الموت لم يُمهله فبقيت مخطوطات المُجلّدين الثاني والثالث على حالها واضطرّ رفيقه انجلز لإعدادهما للنشر بحسب اجتهاده. لم يدّعِ الرجل أنّه ختم العلم، ولم يوصد الباب خلفه إلى أبد الآبدين.

معنى أن تكون ماركسيّا اليوم هو أن تُشارك ماركس طموحه إلى التحرّر من علاقات الإنتاج الرأسماليّة التي حلّل بدقّة شبكتها الأخطبوطيّة كما كانت في عصره وكما توقّع عولمتها. هو أن تنهج منهجه وأن ترفده بما استجدّته العلوم الاجتماعيّة المُعاصرة والنضالات النسويّة والبيئيّة. وهو أن تتحرّر من الماركسيّة المُقولبة في بضع مقولات مُبسّطة تُنسب إلى ماركس - ولا شكّ في أنّه مسؤولٌ عنها في بعض ما كتبه-، ولكنّه دحضها مراراً بنفسه خلال مسيرته الفكريّة والسياسيّة. أوّلها الحتميّة التاريخيّة وتصوّر التاريخ على أنّه حركةٌ أُفقيّة متواصلة إلى الأمام حتّى نهايته السعيدة. على العكس من ذلك، ومن مقولتي العلاقة الميكانيكيّة بين القوى المُنتجة وعلاقات الإنتاج وبين البنية التحتيّة والبنية الفوقيّة، لم يُنظّر ماركس للحتميّ بل للممكن، للتطوّر غير المُتكافئ بين الأصعدة الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة، لتداخل أكثر من زمنٍ واحد في الزمن الحاضر، ولعلّه في ثلاثيّته المشهورة (صراع الطبقات في فرنسا، 18 برومير لويس بونابرت، الحرب الأهليّة في فرنسا) أوّل من سرد حقبةً تاريخيّة حاسمة على هذه الأسس، مُبيّناً أهميّة التناقضات الاجتماعيّة كافّةً والخيارات الفرديّة والأحداث الطارئة في حسمها. «التاريخ لا يصنع شيئاً»، لا يستبطن ولا يستهدف، والبشر هم الذين يصنعون تاريخهم في ظروفٍ لم يختاروها... ولم تكن في «خاطر» التاريخ!

لم يمت ماركس ولكنه غاب عن الأعين منذ أن استفحلت أزمة الأنظمة الاستبداديّة التي انتحلت اسمه إلى أن ذكّرت به أزمات الرأسماليّة الماليّة فظهر من جديد على أغلفة المجلّات تحت عناوين طنّانة من نوع «عاد ماركس!» واحتُفي بعودته ولكنْ باعتباره مُفكّراً أكاديميّاً يستحقّ التبجيل ولا علاقة له من قريبٍ أو بعيد بماركس المُناضل الشيوعي، وأحد مؤسّسي الأمميّة الأولى. وأمّا في بلادنا فما زلنا مُبتلين بشراذم من الماركسيّين الببغائيّين، ويُجاريهم في السماجة الماركسيّون السابقون، التوّابون الأوّابون، الذين يستغيثون في كلّ حين من شبح ماركس، وكأنّه يُطاردهم بسوطٍ من لهب!