كاظم حبيب : المثابر على العلم والمعرفة (من بعض الملامح على فئة النتلجسيا)


عقيل الناصري
2022 / 8 / 30 - 22:15     

كاظم حبيب : المثابر على العلم والمعرفة
( من بعض الملامح على نشوء فئة الانتلجنسيا)
عاشت الانتلجينسيا العراقية منذ أن خطت سنوات فتوتها، بخاصة بعد تأسيس الدولة العراقية في العام 1921:
- في صراع مستديم مع واقعها ومحيطها الاجتماعي من جهة ؛
- ومع ذاتها الطامحة إلى تغير ذلك الواقع من جهة ثانية. تجسد في صراع حول الافق لشكل الدولة السياسي ونظامها الاقتصادي،
- كما تجسدت مادياً في جملة من الصراعات الاجتصادية والسياسية والفكرية والاثنية.
- وساهمت بقوة في حرث تربة التغيير. ولما كان القمع والاستغلال والاستلاب وإسكات اصواتهم العادلة.
ينتمي رفيق الدرب والكلمة، دكتورنا الراحل الفاضل كاظم حبيب، إلى هذه الفئة من الانتلجنسيا العضوية (المثقفيين العضويين) حيث ربطت مهامة الثقافية ضمن سيسيولوحية وصيرورة التغيير الغائي المرغوب والمعبر عنه جمعياً واجتماعياً. إذ ساهم بقوة روحية وزخم فيزيائي، ليس في تهيئة تربة التغيير فحسب، بل كان مساهما ومدركاً، حسب الممكن والمتاح، في فعل البناء والتغيير، وبهذا كان واعيا لإستحداث تاريخ جديد لذاته ولحركته السياسية وانتماءه الحزبي، بالمفهوم الواسع، الطبقي والوطني فدخل عالم الابداع ونحت الأفكار وتنامت مكونات تركيبته المعرفية وتصلبت أبعادها النفسية وتعمقت مطالعاته لمعالجة نواحي الحياة المختلفة.
فخلقت منه مَعلَماً ثقافياً/اجتماعياً ذو نظرة جدلية متجذرة. فبإلاضافة إلى هذه العوالم الابداعية وولوجه المبكر للحياة السياسية والتثقيف الذاتي والمسؤولية الحزبية بجدارة وثقة وابدع فيها، ينتمي رفيق الدرب والكلمة، إلى هذه العوالم الابداعية، ودخل السجون في مرات عديدة بالعهد الملكي وتصلبت عوده في النضال والمثابرة وأبقى على صيرورة التغيير وسيروراته، كأحد الاهداف الواجب التنفيذ. انخــرط الفقيــد في العمــل الســياسي الوطنــي مبكــراً منــذ نعومـة شـبابه للدفـاع عـن اسـتقلال العـراق وعـدم تبعيتـه للقـوى ألاجنبيــة الطامعــة بالعــراق. كان الراحــل ناشــطاً مثابــراً في الدفــاع عــن حقــوق المواطــن العراقـي ومتميـزاً في مجـال الكتابـة إلى اخـر ايـام من عمـره، واصـدر العشرات مــن الدراســات والكتــب الاقتصادية والاجتماعية والسياسـية مختلفـة، دفاعـاً عـن الحريـة والدميقراطيـة وحفــظ ســيادة البلــد ومظلوميــة القوميــات والاديــان والمذاهب في العــراق ومنطقة الشرق الاوسط.
"...كان كاظم حبيب – وسيببقى- معلماً من معلمي الثورية والوطنية والنزاهة والتفكير الناقد وجرأة الموقف واللطف الإنساني والحضور الاجتماعي البهي والعاطفة المتقدة نحو آلام المقهورين، اتفقنا أو اختلفنا مع منهجه الفكري. وستبقى سيرته العامة والخاصة –لمن يعرفه عن قرب- مصدراً لإلهامٍ متجدد عن كيفية صياغة معنى فريد لحياةٍ طويلة لا تستسلم أبداً لليأس أو الإحباط أو الأنزواء، إذ ظلت مكرسة كلياً للخير العام، ولحقوق المهمشين والمظلومين، ولمقاومة الاستبداد والفقر والفساد والقهر والحروب، ولصيانة الحلم بعالمٍ لا يحكمه التافهون والساديون بأنظمة الاستغلال والقسوة والرثاثة... "


*************

وعودا على سمات النشوء، التي تميز بها الجيل الاول من سياسي المعارضة الوطنية بفصائلها الثلاث: الوطني الديمقراطي التقدمي بشقيه:
- الراديكالي اليساري (الحركة الشيوعية)؛
- والمعتدل (كالحزب الوطني الديمقراطي)؛
- والتيار القومي.
حيث اغلب قادته الأرأسيون دخلوا العمل السياسي من خلال الصحافة والنشاطات الفكرية.. لان المنبت والتنشئة الاجتماعية ومستوى التعليم العام، سوف لا تضعهم كذات في مصاف عوائل القوى التقليدية والثرية. هذه الظروف دفعت بابناء الطبقة الوسطى النامية الى الارتقاء الاجتماعي من خلال الفكر وليس الانتماء الاجتماعي والطبقي، ما عدا قلة قليلة، حيث تلعب - كل من البيئة الاجتماعية دورا كبيرا في صياغة الفرد؛
- وكذلك الصحبة ونظام القربى دورا ارأسياً في الوعي الاجتماعي؛
- كما يلعب الموروث السيسيولوجي والمتغيرات في العائلة من حيث الطبقة الاجتماعية وتأثيرات البيئة الحضرية والتواصل الاجتماعي وغيرها من العوامل بخاصة الجانب السيكولوجي للذات البشرية.
لذا أفرز الواقع الاجتماعي افرداً يخرجون للحياة الاجتماسياسية وهم يحملون همهوم طبقتهم وبيئتهم ويحاولون العمل على اجتثاث المسببات المعرقة لتطورها والإرتقاء بها، وبالتالي فهم ايجابيون وانبساطيون، وبالعكس هناك من يحاول احتقار هذه البيئة رغم انه خرج للحياة الاجتماعية من رحمها وكان من نتاجها .. ويسير في ذاته الانانية الى ابعد حد. وهؤلاء سلبيون ذوو طبيعة من سماتها الانطوائية وعدم المشاركة في التغيير المنتظر.
واعتقد أن هذه القوى التغييرية قد انطلقت من فئات أرأسية أربعة هي:
- الفئات المتعلمة االلبرالية المنطلق من نبتات المدارس التعليمية الحديثة؛
- فئة الضباط الذين خدموا في الجيش العثماني منذ آواخر القرن التاسع عشر؛
- بعض من متعلمي الدراسة التقليدية المتنورين؛
- بعض من تجار المدن القرووسطية.
ولكن يمكن تقسيم هذه الفئات، حسب معيار الاستمرار في مساندة صيرورة فكرة التغيير كما معيار وسيرورته الاجتصادية السياسية والفكرية، إلى ثلاث فئات:
- مثقفون رافضون لفكرة التغيير.. ويقف على رأسهم الكثير من الفئات الثلاثة الاخيرة؛
- مثقفون مسايرون للتغيير، يتركزون في الفئة الأولى والجزء القليل من الفئات الثلاثة الأخرى؛
- مثقفون مؤيدون للتغيير وعاملون في حقوله.. ويتمثلون في المثقفين العضويين من الفئة الأولى.
هذا الظرف الموضوعي وعتلتهُ من مثقفي العراق العضويين (بعضهم من التقليدين والحداثويين) الذين لهم مكانتهم في الوسط الاجتماثقافي، دعوا لجملة من الغائيات التطورية من أهمها، كما اعتقد: اشاعة وتحبيذ الفكرة الاستقلالية؛ تحديد ماهية الهوية العراقية؛ مناصرة الحق الطبيعي والمكتسب للمرأة في المساواة؛ حق الأمة في اختيار نظامها الدنيوي على وفق نظرية العقد الاجتماعي؛ دخول الافكار الحديثة وبالاخص ذات البعد المساواتي؛ التمرد العقلاني ضد الشعوذة الدينية والقيم البالية وتفسيراتها للظواهر الاجتماطبيعية؛ المشاركة السياسية للقوى الاجتماعية الحديثة بخاصة العضوية منها والحراك المدني المسنود من قبل الاحزاب التقدمية؛ دعوة البعض منهم إلى الحرية الاقتصادية واللبرالية في الاقتصاد .
لقد ساهمت الانتلجنسيا الوليدة في بلورة الرؤى العلمية للظواهر الاجتصادية والسياسية بالنسبة للمجتمع العراقي رغم صيغها المتحدية، التي فرضتها ظروف كل من الاحتلال الأول (1914- 1932 ) وتأسيس الدولة المركزية منذ مطلع عشرينيات القرن المنصرم، من بينهما:
الاستقلال السياسي للعراق؛ تحديد الهوية الوطنية؛ فكرة العقد الاجتماعي؛ حرية الرأي والعقيدة؛ التوزيع العادل للثروة الوطنية؛ نبذ التفسيرات الدينية للظواهر الاجتماطبيعية؛ بروز المؤسسات السياسية (احزاب،جمعيات مهنية ونوادي اجتماثقافية) وأوالية عملها؛ الصراع بين الرؤى الحديثة والقديمة؛ الصراع بين المؤسسة التقليدية بما فيها الدينية والقوى المنظم الحدثية بصدد محاربة الشعوذة؛ والمطالبة الخافتة في تبني النظام الجمهوروبالأخص في خمسينيات القرن المنصرم؛

وغيرها من الاشكاليات المرتبطة بالكونية الرأسمالية وعلاقاتها السلعية -النقدية التي دخلت إلى الاقتصاد العراقي بقوة من خلال التجارة الخارجية وبخاصة النفط، وتأثيراتها التي خلخلت الوضع الاجتمافكري، بل وحتى النفسي حيث دب الرعب في نفوس الناس من هذا الحراك الكبير الذي باغتهم، بعدما عاشوا قرونا من السكونية المميتة، مما أثرت سلبا على تطلعاتهم المستقبلية وترددهم على تبني كل جديد. كما أنها قد أثمرت توترات واحتدامات حضارية، بالمعنى الواسع، داخل البنية الاجتماثقافية وبدايات تحلل الثقافة التقليدية شبه الجامدة ونظمها الميثولوجية الشفاهية هذا من جهة.
ومن جهة ثانية والأكثر أهمية هو انتاج وتحديد ماهية الذاكرة التاريخية التي هي: التصورات الجماعية التي تشترك بها مجموعة بشرية معينة بصدد أحداث وقعت في الماضي، الذي يدرك على أنه قد شكل هويتها ووضعها السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي المعاصرين. لأنها تعكس بالنسبة للقوى الوطنية رد فعل إزاء الانقطاع وعدم التواصل...بماض مجيد تتنكر له قوى رجعية غير أصيلة ثقافياً كالنخب المحلية الفاسدة والاستعماريين والأقليات غير الوطني.
ومن جهة ثالثة إن أهم من حمل لواء هذه المطاليب بالتغييرات، حسب معيارها التأثيري المثابر، هي القوى اللبرالية ومن ثم التقدمية، وبالأخص ذات البعد اليساري الجذري حتى وسمتها بسماتها، من الانتلجنسيا العراقية التي طرحتها ببعدها النقدي، وإلى حدٍ كبير الموضوعي، إذ بدأ النقد لقوى الاحتلال ومضامين مشاريعه ؛ وللدولة العراقية المستحدثة ولطبيعة إدارة.
تأسيسا على هذه الخلفية التاريخية المتحركة، وكل هذا الكم النوعي المتعدد الأوجه من المتغيرات توج ذاته، نسبياً، في أطار مشروع رباعي الأبعاد، كانت فكرة التسامح قرينته، من خلال اتساع منظمات المجتمع المدني، أغلب عناصره متكونة نسبياً من:
وضعي- عقلاني- علماني - علمي.
وضمن تفاعل الأهداف التنويرية المنطلقة من:
الإنسان- العقل- الطبيعة – العلم
تبلورت هذه العناصر وتجسدت في الارتقاء بالوعي الاجتماعي وتجلياته لدى القطاعات المتنورة ذات التأثير الكبير في الواقع والافراد حتى وسمت العقد الأخير من المرحلة الملكية بوضوح بارز، فنرى جملة من الانتفاضات في الريف والمدينة شملت طبقات وفئات عديدة كما حدث في الأعوام 48، 52، 1956: التي شملت مساحة جغرافية واسعة من العراق بالاضافة الى الانتفاضات الجزئية في هذه المنطقة او تلك.
كما تجلى الوعي الاجتماعي في تجلياته السياسية في انبثاق جبهة الاتحاد الوطني المتحالفة مع فئة الانتلجنسيا العسكرية في التكتل الغائي (حركة الضباط الأحرار) فكانت عاقبتها التحرك العسكري الأول والنافي الطبيعي للنظام السياسي الملكي وبنيته الفكرية والتنظيمية واستراتيجيته السياسية وقاعدته الاجتماعية وعلاقته الدولية.

2021 / 11 / 12