رحلة في تاريخ ثورة أكتوبر


ارام كيوان
2021 / 11 / 12 - 14:31     

ثورة أكتوبر في روسيا كانت ثورة تحدت التاريخ العالميّ بأسره، ليسَ لكونها أول ثورة تقود الشيوعيين إلى السلطة فقط، أيضًا لكونها في روسيا تحديدًا، ذلك البلد الّذي لم تكن أنظار ماركس وانجلز تتطلَع اليه ليكونَ شرارة الثورة الاشتراكية في العالم. فكرة قيام ثورةٍ في روسيا جلبت معها نقاشات فكرية عاصفة داخل الحركة العمالية العالمية والروسية.

أول نقطة ابدأ بها هي عرضٌ تاريخيّ موجز أسميها "الماركسية محامي الشيطان" وهذا التعبير استعارة من نيكولاي دانيلسون مترجم "رأس المال" الى الروسية، استعمل دانيلسون هذا التعبير ليصفَ آراء انجلز حول روسيا. اهتمت كتابات ماركس وانجلز بالدرجة الأولى بالتعاونيات الزراعية الريفية في روسيا وتتلخَص كتابات ماركس حول الريف الروسيّ في أنها ممكن أن تكون الطريق المختصر نحو الاشتراكية شريطة ارتباطها بثورة عمالية في الغرب. كتب ماركس في مقدمة الطبعة الروسية للبيان الشيوعي:
"إذا استطاعت الثورة الروسية أن تكون إيذانًا لقيام ثورة بروليتارية في الغرب، بحيث تُكَمل إحداهما الأخرى، فإن بإمكان المُلكية الجماعية الروسية للأرض أن تَصلُح منطلقًا لتطوُّر شيوعي".

على كل حال فإنَّ آراء ماركس حول روسيا لم تكن متسقة وفي كثيرٍ من الأحيان فجائية، وكثير منها يعود لإعجابه الشخصي بفصائل يسارية عقائدية بسبب قراءتهم لرأس المال.

بعد وفاة ماركس تغيّرت الأمور ومجرى التطور في روسيا أخذ منحنى مختلفًا، وهنا أُعَرِج إلى صديقه انجلز وبالتحديد رسالتين مهمتين حول روسيا، واحدة بتاريخ 24 فبراير 1893 إلى نيكولاي داينلسون وأخرى بتاريخ 26 فبراير 1895 إلى بليخانوف. رأى انجلز في هذه التعاونيات "ماضي ميت" بعد توغل الرأسمالية في روسيا وتحلل هذه التعاونيات وتحولها إلى أداة لمحاربة التحديث، وأقرَ بصحة آراء بليخانوف حول ضرورة المرور بالرأسمالية للوصول إلى الاشتراكية، وتنبأ بحدوث ثورة برجوازية تقضي على الإقطاع في روسيا، مع تأكيده أنَّ عذاب التحول إلى الرأسمالية في روسيا سيكون أكبر من عذابِ أوروبا الغربية أثناء تحولها إلى الرأسمالية.

انجلز: "أن الرأسمالية تسيطر علي الغرب، و على روسيا أيضًا أن تدخل في مدارها. هذا التأخر في السير نحو الاشتراكية هو لشيء بائس، ولكن نحن للأسف أغبياء جدًا لدرجة أننا لم نكن أبدًا قادرين على استجماع الشجاعة في سبيل تقدمٍ حقيقي، إلا إذا كنا مدفوعين بعذاب هذا التقدم الذي يبدو غير متكافئ مع الهدف الذي يجب تحقيقه"

لا أريد أن أقف طويلاً عند التحليل الماركسيّ "التقليدي" حول روسيا ففي كتابات ماركس وانجلز الكثير من الاقتباسات والمراسلات والفقرات المهمة، ولكنني أعتقد أن هذا العرضَ السريع يقدم للقارئ جوهر تطور أفكار ماركس وانجلز حول روسيا.

أريد أن أنتقل إلى المحور الثاني من المقال أي الفترة ما قبل "ثورة اكتوبر 1917" في روسيا وهي فترة عرفت ثورتين أولها 1905 والثورة الّتي كانت مقدمة اكتوبر، وهي ثورة شباط فبراير 1917 البرجوازية الّتي أطاحت بالقيصرية.

قبل التطرق إلى موضوع ثورة فبراير يجب الوقوف مع تطور أفكار لينين ونتيجة لذلك أطلق ستالين على مجمل تلكَ الافكار مصطلح "اللينينية" وبذلك أُضيفَ مفهوم "اللينينية" إلى جانب الماركسية.

في حياة لينين كتبَ لينين عدة مؤلفات مهمة تساعدنا في فهم تطوّر أفكاره وتطبيقها على الواقع الروسيّ والعالميّ، نذكر منها: ما العمل، الاشتراكية والحرب، تطور الرأسمالية في روسيا، الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية، موضوعات نيسان.

بعد وفاة لينين صاغ ستالين مفهوم "اللينينية" وقدمه للعالم بوصفه تطويرًا للماركسية، أو بكلمات ستالين نفسه: "اللينينية هي ماركسية عصر الإمبريالية"، ويمكن بإيجاز تلخيص أهم ما جاء في كتاب ستالين "أسس اللينينية" حول موضوع الولادة التاريخية للينينية:
1) التناقض القائم بين العمال ورأس المال، أي تسلط الطغم الاحتكارية العالمية تسلطًا مطلقًا على المنشآت الصناعية في كافة أقطار العالم.
2) التناقض بين الدول الاستعمارية على تقسيم العالم والموارد، ما يؤدي إلى صدام بين الدول الرأسمالية نفسها.
3) التناقض بين "الأمم المتمدنة" والشعوب المستعمَرة.

هذه الثلاثة تناقضات هي ما جعلَت ستالين يسمي اللينينية ب"ماركسية عصر الاستعمار" ورفض اختزالَ اللينينية ب"تطبيق الماركسية على ظروف روسيا" لأنَّ وجهة النظر اللينينية كانت ترى في الثورة ثورة عالمية تنطلق من روسيا. آراء لينين لم تكن مقبولة على كامل الحركة الاشتراكية الروسية ما دفع لينين إلى قيادة الانشقاق الشهير في صفوف حزب العمال الاشتراكيّ الديمقراطيّ عام 1903، لينقسمَ الحزب إلى بلاشفة (بقيادة لينين) ومناشفة (بقيادة مارتوف). كان الخلاف بين الطرفين خلافًا منهجيًا عميقًا في كافة المسائل بحيث لم يستطع الطرفان أن ينضويا تحتَ سقفٍ واحد.

كان لينين طوال حياته مشغولاً بالثورة ففي أول مؤلفاته "ما العمل" دعى إلى إقامة حزبٍ مؤلف من "ثوريين محترفين" وراح لاحقًا يدرس تطور الرأسمالية في روسيا في مؤلف مهم عنوانه "تطور الرأسمالية في روسيا" فيه كان واضحًا تمركز بعض الصناعات في روسيا والتطور الصناعي السريع (المتأخر؟) الّذي كان يجري في روسيا، ففي دراسة لينين عن "تطور الرأسمالية في روسيا" نجد أن عدد السكان العاملين في الصناعة بلغ قرابة 22 مليون نسمة من 125 مليون في حينها وأخذت الصناعات الكبيرة تأخذ حيزًا أوسع في الإنتاج الروسية فقد كانت الصناعات الكبيرة (1000 عامل فما فوق) تشكل نسبة 24% من الصناعات الروسية، ولكن السواد الأعظم من السكان كان يعمل في الزراعة، 97 مليون نسمة، لذلك أخذت مسألة الفلاحين أهمية كبيرة عند البلاشفة في حياة لينين وبعد وفاته.

أما التناقض الثاني أي بين البلدان الاستعمارية نفسها، فقد كانت أول اِلتفاتة إليه عام 1905 عام الثورة الفاشلة الأولى في روسيا، في أعقاب الحرب الروسية اليابانية التي قادتها "البروليتاريا" الروسية من خلال إضرابات واحتجاجات واسعة النطاق ضد الحكم القيصريّ، وهي الثورة الّتي وصفها لينين: "الانتفاضة الشعبية ضد الحكومات القيصرية قد بدأت في روسيا عام 1905 بقيادة البروليتاريا، بغية الظفر بالجمهورية الديموقراطية، كذلك ستؤدي السنوات القريبة القادمة، بالارتباط بهذه الحرب اللصوصية على وجه الدقة، إلى انتفاضات شعبية في أوربا بقيادة البروليتاريا ضد سلطة الرأسمال المالي، ضد المصارف الكبرى، ضد الرأسماليين؛ وهذه الهزات لا يمكن لها أن تنتهي إلاّ بمصادرة أموال البرجوازية، بانتصار الاشتراكية.
ونحن، الشيوخ، لربما لن نعيش حتى المعارك الفاصلة في الثورة المقبلة." - ولكن لينين عاش وأدى دور البطل لاحقا في "المعاركة الفاصلة"، وكان معارضا للحرب منذ البداية رغم إدراكه أنها ستلعب دورًا حاسمًا في الثورة القادمة.

أما "التناقض" الثالث بين الأمم المتمدنة والشعوب المستعمَرة فهو يقودنا بالتأكيد إلى "حقق الأمم في تقرير مصيرها"، فإنَّ الهدف الأساسي من حقق تقرير المصير الّذي نادى به لينين هو انفصال الأمم المستعمَرة عن المركز الرأسماليّ لينشغل المركز الرأسماليّ بصراعاته الداخلية. ورغم أنَّ كتابات لينين عن حق تقرير المصير لم تغطي جميع الجوانب، لأنه كما يبدو لم يخطر بباله أنَّ أحدًا يريد مغادرة الدولة الشيوعية المستقبلية. (حق تقرير المصير اللينيني هو ما قصده بوتين عندما قال: "كانت أفكار لينين قنبلة موقوتة دمرت روسيا والاتحاد السوفيتي").

المحطة التالية كانَت ثورة شباط 1917 في روسيا، ففي ظل امتداد الحرب وتفاقم فاقة العيش كانَ الشارع الروسيّ يغلي ضد القصيرية، وانطلقت الاحتجاجات في شهر يناير 1917 باضراب 270 ألف عامل منهم 177 ألف في العاصمة بتروغراد وحدها، وفي وصف تلك الأحداث يكتب التروتسكي آلان وودز:
" في اليوم التالي، شارك في الإضراب 200.000 عامل، أي أكثر من نصف عدد عمال بتروغراد. كانت هناك اجتماعات حاشدة في المصانع ومظاهرات جماهيرية. اجتاحت حشود من الناس صفوف الشرطة والجيش للوصول إلى وسط المدينة وهم يهتفون “الخبز!” و”السلام!” و”ليسقط الاستبداد!”. كانت الثورة قد بدأت وحصلت فورا على زخم هائل، وصارت تكتسح كل شيء أمامها.

وقع القيصر شخصيا أوامر إطلاق النار على المتظاهرين «من أجل وضع حد للاضطرابات في العاصمة غدا دون أي تأخير». وفي 25 فبراير، أعطي الأمر لكتيبة من الجيش بفتح النار على المتظاهرين العزل. في البداية أطلق الجنود النار في الهواء، ثم أعطي الأمر لفوج بافلوفسك بإطلاق النار على العمال لكنهم بدلا من ذلك أطلقوا النار على الشرطة. وكانت هذه نقطة تحول حاسمة. كانت القوات، التي ظنت الدولة أنها تحت تصرفها، قد بدأت تذوب مثلما يذوب الثلج في فصل الربيع.

من الناحية النظرية كان النظام يمتلك قوات كافية تحت تصرفه، لكن في لحظة الحقيقة، وجد النظام نفسه معلقا في الهواء. وحالما بدأت البروليتاريا في التحرك، لم يكن هناك شيء يمكنه وقفها. كانت ثورة فبراير (كما تعرف عادة، على الرغم من أنها، حسب تقويم ما بعد 1918، قد حدثت في مارس) سلمية نسبيا، لأنه لم تكن هناك أية قوة جدية مستعدة للدفاع عن النظام القديم. كانت هناك عمليات تآخي واسعة النطاق بين قوات الجيش وبين المضربين. وقد ذهب العمال إلى الثكنات لمخاطبة إخوانهم في الزي العسكري."

تآكل النظام القيصريّ أجبرَ القيصر نيكولاي على التنازل في تاريخ الثالث من مارس 1917، وبهذا فقد أفضت تلك الأحداث أولاً وقبل كل شيء إلى سقوط القيصرية ودخولها التاريخ وتشكُل الحكومة البرجوازية والقوة المتصاعدة للعمال، بذلك دخلت روسيا في حقبة تسمى "ازدواجية السلطة"

لعب سوفييت بيتروغراد (مجلس عمال بيتروغراد) الدورَ الفاعل في أحداث فبراير 1917 كان قراره في الأول من مارس دليلاً على السلطات الفعلية الّتي كانت بحوزته حيث أصدر مرسومًا من سبع نقاط:
1. انتخاب لجان من كافة الجنود.
2. انتخاب ممثل من كل سرية في سوفيت بيتروجراد.
3. تخضع الوحدات العسكرية في جميع أعمالها السياسية الى سوفيتات نواب العمال والجنود ولجانها.
4. تنفيذ أوامر اللجنة العسكرية لدوما الدولة في حالة عدم تعارضها مع أوامر وقرارات السوفييت.
5. اعطاء السلاح في وتحت سيطرة اللجان مع عدم تسليمه الى الضباط.
6. ينفذ الجنود الانضباط ويحافظون عليه في الصف، أما في خارجه فلهم نفس حقوق بقية المواطنين.
7. تلغى ألقاب سلك الضباط ويكتفى بكلمات: السيد الضابط الخ.
(نقلا عن أندريه مينتس - "كيف حدثت ثورة اكتوبر")

كانت ازدواجية السلطة في روسيا حالة فريدة من نوعها، سلطة لحكومة برجوازية ترأسها الأمير لفوف وبعده كيرينسكي بجانبِ سلطة للسوفيتات (مجالس العمال) يقودها المناشفة والاشتراكيون الثوريون، أدى ذلك فيما بعد إلى انفراد البرجوازية بالسلطة ونكثها لمعظم تعهداتها، على رأسها عدم الانسحاب من الحرب العالمية، الإصلاح الزراعي ودستور جمهوري جديد.

راحت الحكومة البرجوازية تستبد بالسلطة، وهنا لا أريد أن أُغرِق في التفاصيل وأكتفي بفقرة واحدة من "أ.مينتس - كيف حدثت ثورة اكتوبر":
"ظهرت شهية البرجوازية النهمة بحدة كبيرة في مجال الاقتصاد. وألغت الحكومة المؤقتة كافة القيود على اغتناء البرجوازية. وتوغلت أيدي أصحاب الأعمال في الخزانة التي أصبحت الحكومة البرجوازية هي المتصرفة فيها. فقد جرى صرف الإعانات الحكومية ورُفعَت أسعار المنتوجات الحربية. وبلغت المضاربة أحجامًا لم يسبق لها مثيل"

في شهر نيسان من عام 1917 قدَمَ لينين تقريرًا أشتهر ب"موضوعات نيسان" وهي كتابات حول التكتيك الثوري لم ترق لكثير من البلاشفة في حينه، حتى زوجته كروبسكايا بعد انتهائها من قراءة تلك الموضوعات قالت: "يبدو أنَّ لينين قد فقد صوابه".

ولكن في هذه الفترة بعد ثورة شباط حتى اكتوبر 1917 تنامَت شعبية البلاشفة ولم يعودوا حزبًا صغيرًا كما في السابق، وبعد نكث حكومة كيرنسكي لكافة تعهداتها وبالأخص الثلاثة الّتي ذكرناها، راح البلاشفة يخطّطون للوصول إلى السلطة والحفاظ على مكتسبات الثورة البرجوازية، ما خطط له البلاشفة في تلك اللحظة التاريخية لم يكن "ثورة اشتراكية" بل "انتفاضة" ونرى ذلك جليًا في كتابات البلاشفة القريبة من الحدث، وهنا أورد بعض الاقتباسات:
"إنَّ حزبنا وحده يستطيع إنقاذ بتروغراد بعد أن ينتصر في الانتفاضة" (لينين - الماركسية والانتفاضة)
"يروج أصدقاء تروتسكي بوقاحة أن تروتسكي هو المهندس والقائد الوحيد للانتفاضة..لا يعني ذلك أن انتفاضة أكتوبر لم يكن لها مهندس. إن قائدها ومهندسها هو لينين الذي وقع تبني لوائحه حول الانتفاضة من طرف اللجنة المركزية"(ستالين - لينينية أم تروتسكية)

في الطرف الاخر (المناشفة) رأوا في سلطة جماعية تقودها كل الأحزاب هي الحل للخروج من المأزق، كما قالَ مارتوف عند سماعه لصوت الانفجارات أثناء انعقاد مؤتمر سوفييت بيتروغراد: "يجب على جميع الأحزاب الثّوريّة أن تواجه الحقيقة! المسألة الأولى المعروضة أمام المؤتمر هي مسألة السّلطة، وهذه المسألة يجري حلّها الآن بقوّة السّلاح في الشّوارع... يجب أن ننشئ سلطةً تعترف بها جميع القوى الديمقراطيّة. وإذا كان المؤتمر يريد أن يعبّر عن الدّيموقراطيّة الثّوريّة فلا يجوز أن يقف مكتوف الأيدي أمام نشوب الحرب الأهليّة التي ستكون نتيجتها انفجاراً خطراً للثّورة المضادّة... إنّ إمكان الوصول إلى مخرجٍ سلميّ هو تشكيل سلطة ديمقراطيّة موحّدة... يجب أن ننتخب وفداً ليتفاوض مع جميع الأحزاب والمنظّمات الاشتراكيّة الأخرى".

أما من جهة البلاشفة فقد انتهت مرحلة ازدواجية السلطة في الخامس من يناير 1918، أي تاريخ حل الجمعية التأسيسية - البرلمان البرجوازي، والإبقاء فقط على سلطة السوفيتات في روسيا. لم يكن من الصعب على البلاشفة الوصول إلى السلطة واستمَر البلاشفة في السلطة رغم ويلات الحرب الأهلية والعدوان الخارجيّ على روسيا لإسقاطِ الحكومة البلشفية.

بحلول عام 1921 كانت الحرب الأهلية قد وضعت أوزارها وانتهت الحرب الأهلية في روسيا بانتصار البلاشفة، وقبل أن نعلق على مرحلة "ما بعد السلطة" أريد أن أقول ملاحظة حول الأهمية العالمية للثورة الروسية؛ في كتابه "الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" من المعروف أنَّ لينين أتى بمقولة "الحلقة الأضعف" وهي مقولة خاصة بعصر الإمبريالية (وهنا أوردها بدون أن أبدي موقفي منها) من الممكن أن نشرحها بكلماتنا بالقول: أن المهم ليس مكان الثورة ودرجة تطور الحلقة الرأسمالية الّتي تحدث فيها الثورة بل المهم هو اختراق جبهة رأس المال العالمي.

تحقّقت "نبؤة" انجلز بقيامِ ثورة برجوازية في روسيا ولكن ما لم يخطر في بال انجلز هو أن تقوم مجموعة شيوعية بالوصول إلى السلطة لتستكمل مهام الثورة البرجوازية، بل وأكثر من ذلك أن تعلن ثورة اشتراكية بعد وقت قصير، في بلد ضخم يحوي سيلاً من الفلاحين والإنتاج السلعيّ الصغير.

مرحلة السلطة (بالنسبة للبلاشفة) تختلف عما قبلها، لينين الملتهب حماسًا للثورة الاشتراكية أدركَ صعوبة مهمته في روسيا، وأنَّ ما قام به مباطحة للتاريخ خاصة بعد أن لم يبقَ أي حزبٍ سوى حزب البلاشفة في روسيا، لذلك رأى في مرحلة قصيرة من رأسمالية الدولة ضرورة لتطوير الطبقة العاملة وأطلق الخطة الاقتصادية الجديدة (النيب) وأساسها السماح بنشاطٍ برجوازي في السوق. وهنا أقتبس فقرتين من لينين تعودان لعام 1921:
"إننا مضينا بالثورة الديموقراطية البرجوازية حتى النهاية، كما لم يفعل أحد. نحن بكل إدراك، وبخطى ثابتة، ودون أي انحراف، نسير إلى الأمام، نحو الثورة الاشتراكية". (في الذكرى الرابعة لثورة اكتوبر - لينين)

كما رأينا…بعد أربع سنوات كان ما يزال لينين يتحدث عن البدأ بالثورة الاشتراكية ورأى في رأسمالية الدولة ضرورة لبدأ التحول الاشتراكي. "إن رأسمالية الدولة سيكون خلاصنا، وإذا كنا لدينا رأسمالية الدولة في روسيا، فالانتقال الى الاشتراكية كاملة سيكون أسهل -بل في متناول أيدينا- لأن رأسمالية الدولة هي شيء من المركزية، والحسابات، والرقابة، والتنشئة الاجتماعية وهذا هو بالضبط ما ينقصنا" (الضريبة العينية - لينين).

لعل تحليل بليخانوف أنَّ ظروف روسيا لن تسمَح بسلطة سياسية غير استبدادية يفسر لماذا لم يتنازل المناشفة عن موقفهم الداعي لسلطة موحدة من كل الأحزاب، وفي هذا التحليل جانبٌ من الصواب، فبعد وصول البلاشفة (في حياة لينين وبعده) إلى السلطة راحوا يباطحون التاريخ لئلا تكون نهاية مأساوية للسلطة البلشفية. وقد عبر ستالين بوضوح عن هذه المسألة: "العالم الرأسماليّ يسبقنا ب50-100 سنة إلى الأمام وإذا لم نلحق به في غضون بضعة سنوات فإنه سيلتهمنا". مقولة ستالين تبين بوضوح ما الّذي نقصده ب"مباطحة التاريخ" فقد كانت التطلعات أن تحدث الثورة الاشتراكية في البلدان المتقدمة "50-100 سنة إلى الأمام" وليس في البلدان المتأخرة 50-100 سنة إلى الوراء، وهذا تحديدًا ما يدفعنا إلى استعمال أوصاف من قبيل ثورة سوبرمانية ومباطحة التاريخ.

كان في حساب البلاشفة أنَّ الثورة ستتمدّد إلى الخارج ولكن ثورات كل من ألمانيا وإيطاليا والمجر هزمت جميعها. انكفاء الثورة على نفسها أدى لمنح اعضاء الحزب سلطات وصلاحيات واسعة على حساب نقابات العمال، ومع الظروف الخاصة للإتحاد السوفيتي خاصة بعد الحرب العالمية الثانية سيطرت البيروقراطية على رأسمالية الدولة ولجأ البلاشفة لتدعيم تسيير الإنتاج من قبل جهاز الدولة البيروقراطيّ بسبب عدم نضوج الرأسمالية وعدم تمدد الثورة غربًا.

من الممكن أن نتحدث كثيرًا عن أحداث الثورة البلشفية، مآثرها وفظائعها، وما تمخض عنها ولكن المهم هو أثرها التاريخيّ.

على الصعيد الداخلي حققت الثورة البلشفية نهضة تنموية عظيمة لا تضاهيها أي تجربة أخرى، من محو الأمية والاكتشافات العلمية وغزو الفضاء والنهضة الصناعية، ونال المواطنون فرصًا للترقي ما كانوا يحلمون بها سابقًا وصارت المرأة مساوية للرجل، وعاشت أكثر من 100 قومية في سلام وتآخي أممي.

وقد لخص جوزيف ديللون، الّذي لم يكن متفائلاً من الثورة البلشفية، وقد وصف ما رأته عيناه عند عودته إلى روسيا بالكلمات التالية:
"في كل مكان الشعب يفكر، يعمل، ينظم، يحقق ابتكارات علمية وصناعية، ما من احد قط شهد بعينيه شيئا مماثلا. شيئا يقترب من المعجزة، بتنوعه، وزخمه، وصلابته، وبالاصرار على الوصول به الى مثله العليا. لقد دكت الحماسة الثورية حواجز هائلة وصهرت في بتوقة شعب واحد كبير، عناصر بشرية غير متجانسة، ولا يعني هذا في الواقع أمة. بالمعنى الذي كان لها في العالم القديم وانما شعب قوي، متلاحم من خلال حماسة شبه دينية. لقد أنجز البلاشفة الكثير مما وعدوا به. بل وأكثر مما كان يبدو ممكنا انجازه، وذلك من خلال تنظيم انساني، أيا كان شأنه، وعبر شروط صعبة توجب على البلاشفة أن يعملوا في ظلها. لقد عبؤوا أكثر من 150 مليون من الكائنات البشرية الغارقة في الخمول والبلادة، الموتى والأحياء. ونفخوا فيهم روحا جديدة."

وعلى الصعيد العالميّ باتت أمم العالم ترى في التحرّر من الاستعمار أمرًا ممكنًا، وكانَ الاتحاد السوفيتي طوال تاريخه ظهيرًا لحركات التحرر الوطنيّ وصديقًا لها، وكان الند القوي للإمبريالية. ففي حين كانَت الدول الإمبريالية تنهب الأطراف كانَ الاتحاد السوفيتي يستنفِذ خزينته دعمًا لها.

هكذا قلبت الدولة الّتي أسسها لينين كل موازين القوى العالمية، وهنا لا بد من مقارنة سريعة بين الحربين العالميتين، في الحرب العالمية الأولى هُزِمَت ألمانيا في الجبهة الغربية واستمرت في الحرب على الجبهة الشرقية حتى اتفاقية بريست ليتوفسك. في الحرب العالمية الثانية قامت ألمانيا بغزو أوروبا الغربية وهُزِمَت في الجبهة الشرقية وكانَ الاتحاد السوفيتي هو من خَلَصَ العالم من النازية.

أنا أرى أنَّ أساس تحليلات كاوتسكي وبليخانوف عن الانهيار الحتميّ للبلشفية صحيح ولكن لا ينبغي بأي حالٍ من الأحوال حرق سبعين عامًا من عمر الاتحاد السوفيتي وعدم نقاش الأسباب الذاتية (صراع أقطاب السلطة والصراع الطبقي) ودورها في الانهيار.

رغم كل ما كان، فإنَّ اعتلاء البلاشفة للسلطة في روسيا فتح المجال أمام كافة الأمم المضطهدة لتحلم بتغيير العالم إلى عالمٍ تسود فيه قيم المساواة والعدالة، عالمٍ بدون استغلال ونهب ثروات الشعوب.

انهيار الاتحاد السوفيتي أدى إلى حالة شَلَل في الحركة الشيوعية لفترة الطويلة ولكنَ التغيرات في عالم اليوم وضجر العالم من الرأسمالية يجعلنا نقول بثقة أنَّ ثورة لينين كانت الموجة الأولى من "الثورات الاشتراكية"، وما أمراض عالمنا اليوم، عالم الرأسمالية العجوز، إلا مقدمة للموجة الثانية.