القوى الديمقراطية السودانية أمام نهجين


جلبير الأشقر
2021 / 11 / 10 - 09:46     


إن مواجهة السلطات العسكرية في السودان، وإفشال محاولتها الانقلابية في القضاء على السيرورة الثورية التي تشهدها بلاد النيلين منذ ما يقارب ثلاث سنوات، والسير بهذه السيرورة إلى الأمام وتعميقها، إنما هي جميعاً قضايا من النوع الذي لا مناص من أن تتباين حياله الآراء والتوجهات في صفوف القوى الديمقراطية، مثلما هي الحال إزاء أي مشروع تغيير سياسي جذري حيثما كان. فالخيارات السياسية تختلف حتمياً باختلاف الطبيعة الاجتماعية للقوى المعنية بالتغيير واختلاف مناهجها السياسية الأساسية، بين من يؤمن بالتغيير التدريجي الذي تعبّد المساومات المتتالية الطريق إليه، ومن يرى أنه لطريق مسدود وأن لا بدّ من قطيعة نوعية مع الماضي المنبوذ بغية السير على درب الديمقراطية الحقيقية.
إنه خلاف قديم معهود بين الإصلاح والثورة، غير أنه يتخّذ في أوضاع السودان الراهنة طابعاً ملموساً حاداً وإلحاحاً حارقاً. فكيف تكون مواجهة السلطات الانقلابية، وكيف يمكن إفشال انقلابها لإعادة وضع البلاد على سكة الانتقال الديمقراطي التي اندفعت قاطرة الثورة عليها قبل ثلاث سنوات؟ فلنحصر الهدف بما تتفق عليه غالبية القوى التي شاركت في السيرورة الثورية السودانية عند انطلاقها، ألا وهو الحكم الديمقراطي. فقد عبّرت الثورة عن توق شعبي عظيم إلى الحرية والديمقراطية بعد ثلاثين عاماً من الدكتاتورية العسكرية الظلامية. وقد التقت مجموعة واسعة من القوى السياسية والنقابية والمدنية على إعلان تبنّته في اليوم الأول من سنة 2019 تحت تسمية «إعلان الحرية والتغيير» نصّ، بين ما نصّ عليه، على «التنحّي الفوري للبشير ونظامه من حكم البلاد» و«تشكيل حكومة انتقالية قومية من كفاءات وطنية بتوافق جميع أطياف الشعب السوداني».
وتنجلي مع مرور الزمن فُسحات التباين التي تضمّنها الإعلان، إذ تحدّث عن «النظام الشمولي» تفادياً للحديث عن «الحكم العسكري» ولم يفصح عن التزام صريح بخوض المعركة حتى إقامة حكم مدني، كما لم يؤكد على مدنية الحكومة الانتقالية، بل استخدم كلاماً فسح مجالاً لمشاركة العسكر بالحكومة المنشودة. ولمّا أزاحت القوات المسلحة رئيس الدولة، عمر البشير، إنقاذاً للنظام العسكري، واصطدمت برفض شعبي لاستمرار هذا النظام وإصرار شعبي على إحلال حكم مدني محلّه، حاولت وأد الثورة بشنّها هجمة «فض اعتصام القيادة العامة» الدموية. لكنّ المقاومة الشعبية، بتمكّنها من حشد الطاقات الجماهيرية وتنفيذ الإضراب العام والعصيان المدني، وما رافقها من بوادر تمرّد على القيادة بانت داخل القوات المسلحة بالذات، هذه الأمور فرضت على القيادة العسكرية التراجع والقبول بمساومة «الوثيقة الدستورية» التي رأت فيها الأطراف الإصلاحية في «قوى الحرية والتغيير» تحقيقاً لتلك «الحكومة الانتقالية» التي نصّ عليه إعلانها الأصلي.


كانت المساومة تعبيراً عن ميزان القوى في لحظة من لحظات السيرورة الثورية، وقد دشّنت مرحلة جديدة وضعت البلاد على مفترق طريقين، لا ثالث لهما سوى في أحلام الإصلاحيين: إما طريق تفكيك العسكر التدريجي لما قدّموه من تنازلات آنية، خلال فترة تولّي قائدهم، عبد الفتّاح البرهان، لرئاسة «مجلس السيادة» وذلك تمهيداً لانقضاضهم المجدّد على السيرورة الثورية؛ أو طريق بناء القوة الشعبية من خلال التعبئة السياسية والاجتماعية، والضغط من أجل تنفيذ البنود الديمقراطية في الوثيقة الدستورية (وهي بالتحديد تلك التي ماطل العسكر تفادياً لتطبيقها) والعمل على نسج شبكة ديمقراطية داخل صفوف القوات المسلحة، تمهيداً للإطاحة بالنظام العسكري برمّته وإقامة نظام ديمقراطي حقيقي.
أما الذي حصل فهو أن العسكر سلكوا الطريق الأول بخطى تسارعت مع الزمن، بينما لم تفلح القوى الثورية في خلق حالة من الضغط الشعبي كفيلة بدفع الأمور باتجاه تجذير الثورة وقطع طريق الردّة. أما وقد انجلى الآن أن العسكر غير مستعدّين بتاتاً لتسليم زمام الأمور فعلياً لحكم مدني ديمقراطي، استخلصت القيادة النقابية الرئيسية للثورة السودانية التي يشكّلها «تجمّع المهنيين» مسنودة من «لجان المقاومة» الشبابية، أن السبيل إلى التقدّم بالعملية الثورية نحو الهدف الديمقراطي المنشود ليس، ولا يمكن أن يكون، بالعودة إلى الوراء ومحاولة إحياء الصيغة الانتقالية، التي كانت بحكم الميّتة، وتجديد الأوهام في حسن نوايا القيادة العسكرية، فيما وصلت البلاد إلى وضع باتت فيه هذه الأوهام ضرباً من الهراء، بل يمرّ السبيل الوحيد بتعميق الثورة على غرار ما عرفه التاريخ من حالات أدّت فيها محاولات مضادة للثورة إلى تجذير العملية الثورية.
فقد صاغ التجمّع وثيقة جديدة تحت عنوان «الإعلان السياسي لاستكمال ثورة ديسمبر المجيدة» واقترحها يوم السبت الماضي على سائر القوى الثورية بوصفها مسودة لوثيقة بديلة عن «الوثيقة الدستورية» تشكّل أرضية برنامجية للمرحلة الجديدة في السيرورة الثورية السودانية. وقد نصّ الإعلان، بين ما نصّ عليه، على «استكمال الانتقال المدني الديمقراطي بالمقاومة السلمية لانقلاب المجلس العسكري وحتى إسقاطه وتشكيل سلطة انتقالية مدنية خالصة ملتزمة بأهداف ثورة ديسمبر» و«إعادة هيكلة القوات المسلحة عبر تغيير عقيدتها لتتماشى مع دورها في حماية الوطن والدستور، وأيلولة كل استثماراتها للسلطة المدنية ليقتصر نشاط القوات المسلحة الاقتصادي في المجالات ذات الصلة بالتصنيع للأغراض العسكرية» و«تصفية جهاز أمن الإنقاذ ومحاسبة كل ضالع في جرائمه منذ 1989» و«حلّ ميليشيا الدعم السريع وغيرها من الميليشيات والحركات المسلحة».
إنها لأهداف حيوية لا مستقبل للثورة السودانية بدون إنجازها. فإما أن تتمكن القوى الثورية أن تحرزها من خلال تحقيق شرطين أساسيين، هما القدرة على مواصلة التعبئة الشعبية والعصيان المدني، والقدرة على شق صفوف القوات المسلحة مثلما تسعى القيادة العسكرية وراء شق صفوف القوى الديمقراطية؛ أو تلتحق الثورة السودانية بقافلة العمليات الثورية المُجهَضة وتنضاف إلى سائر إخفاقات الموجة الثانية في السيرورة الثورية الإقليمية طويلة الأمد، بعد انتكاسة الموجة الأولى. وبكلام آخر، فإما أن تحقق القوى الثورية السودانية نجاحاً عظيماً يُلهم موجة ثورية إقليمية ثالثة، أو تخفق فتستحيل ثورة ديسمبر/كانون الأول «بروفة عامة» تستعدّ في ضوئها القوى الثورية، ولاسيما الشبابية منها، للموجة الثالثة المقبلة لا مُحال وفي مستقبل ليس بالبعيد.