ذكريات طفولة. . زمن الملاريا .9.


مهند البراك
2021 / 11 / 9 - 20:47     

زمن الملاريا

كان الصحفي الرياضي برهوم اقرب الشباب للعائلة، و هو ابن الاخت الكبرى للوالدة، الأخت التي توفىّ زوجها الضابط الشاب بحادث اصطدام بقطار، و تركها ارملة شابة مع ثلاثة اطفال كبيرهم برهوم . . كان شاباً وسيماً جميل الصورة، عذب الحديث الذي جاء من ثقافة و اطلاع واسع، و كان من الشباب الواعد في الحركة الوطنية الهادفة الى خير و تقدّم البلاد، كثير المبادرة، مرن و ساعي للتقريب و التفاعل بين الحركة القومية التحررية و بين اليساريين، خدوم مستعد لخدمة من يراه صاحب حق هُضِم او مُطالب به . . و لإمكانياته في التعليق الرياضي الوطني و العالمي، كانت الصحف البغدادية تتراكض عليه من اجل معلومة او مقالة او تعليق او سبق رياضي . .
و من اهتمام و عناية اصحاب الصحف و كبار المحررين و الرياضيين به، انهم اهدوا له راديو ثمين متطوّر قوي السّحب ليساعده في عمله، و نصبوا له جهاز تلفون في البيت حين كان يندر الحصول على تلفون، لتسهيل و تسريع الإتصالات، على ان يدفعوا هم مصاريف قوائم الحسابات الشهرية للتلفون . .
و كان يقضيّ ساعات طويلة في سماع الـ بي بي سي و صوت اميركا بالانكليزية ليتابع برامجهما الرياضية و انواع الرياضة الجديدة في العالم، و عمل على ادخالها في النوادي الرياضية من خلال خاله الرياضي زكي بطل آسيا في الملاكمة آنذاك، الذي مرّ ذكره بكونه من الوجوه القومية و من حماية رشيد عالي الكيلاني و مراسلاته حينها . .
و من خلال بي بي سي الانكليزية تعرّف على البرنامج الدولي لمكافحة الملاريا التي شكّلت كابوساً على شعوب العالم آنذاك . . و بعد نقاشات مطوّلة مع الوالد توصلا الى ضرورة اشتراكه في برنامج مكافحة الملاريا في العراق، و صار الناطق الرسمي الصحفي للبرنامج الدولي في العراق، لإجادته الإنكليزية . . و تطلب منه القيام بجولات و جولات مع فرق المكافحة في كل انحاء العراق . . من الأهوار و الصحاري و الى الجبال الكردستانية و جبال حمرين المخيفة المقفرة، و سكّانها المتنوعي القوميات و الاديان و التصوف و الاديرة و مقرات الدراويش المغلقة عن العالم . . و قد استمرّت اكثر من عام.
في عصر ذات يوم، ناداني والدي و كنا نحن الصغار نلعب لعبة مشروب السيفون (من انتاج شركة السيفون الوطني العراقية) و نتراهن على فورته و نزولها و مداها بخطوط نرسمها على الارض، فيما كنا نستمر بنقاشاتنا الحماسية عن آرائنا و تمتعنا بأفلام سينما الاعظمية، من فلم الفايكنغ و إلههم اودين الذي فرض عليهم ان يموتوا و السيف بايديهم و الاّ هو موت غير مبارك، افلام طرزان و رفيقته الشمبانزي و كفاحه ضد الاشرار و من اجل سلامة الغابات و الحيوانات و كنا نتمنى رؤية زوجته جيني في فلم بعد ان كثرت الروايات حولها . . الى افلام الفرقة السابعة و صراعاتها مع الهنود الحمر في اميركا، وسط تمنياتنا بانتصارات الهنود الحمر لحرارة حبّهم و عواطفهم و استماتتهم من اجل الجماعة و النصر، و ننتظر بلهفة ظهور وجوههم المقاتلة المحبوبة و نسائهم الجميلات . . و افلام روبن هود نصير الفقراء و رفيقه المخلص الذي كان اخرساً . .
قال والدي :
ـ ابني هذي رسالة من برنامج مكافحة الملاريا العالمي . . يعني مال كلّ العالم، منحوا عمّك برهوم الجائزة الاولى في مكافحة الملاريا و انقاذ ارواح ملايين البشر . .
ـ يعني عم برهوم هو الذي انقذ حياتهم ؟؟ . . زين شلون كدر انقاذ ملايين و هو واحد ؟؟
و شرح لي الوالد مخاطر المرض و كيفية تحوّله الى وباء يحصد ارواح البشر بلا رادع، بل و يجتاز كل العوائق الاّ الادوية الصحيحة في العلاج، التي تتطلب علماً و نشاطاً و ستدرسون ذلك في المدرسة و الى الجامعة الى ان تصير طبيب كما تتمنى ماما . . و شرح لي اهم اعراضه، و خطورة دور بعوضة الانوفلس و ان فلان و فلان و عائلة فلان توفوّا بسبب الملاريا . .
ـ تأخذ هذه الرسالة و تسلّمها الى عمك برهوم بيده مو بيد غيره ابني، لأن هو مسجّل عنوانه على عنوان بيتنا، مو على عنوان بيت ابن عمه فاضل اللي برهوم ساكن عدهم في الدّهدْوينة (الجادة النازلة الى الاسفل)، قرب فرن الصمون . .
اخذت الرسالة بظرفها الكبير المرسوم عليه بعوضة عملاقة تحيط بالكرة الارضية و مختومة بالشمع الاحمر، و وضعتها داخل ملابسي كي لاتقع او تتوسخ و اخذت طريق الدهدوينة ماراً ببيت محسوب و خرابة مجيد الشلاتي ذات هياكل السيارات القديمة، و محلات ابراهيم الحلبي لتأسيس البوريات، التي كان يديرها والده الاعمى سليمان الحلبي، مقابل مركّب الاسنان الذي كان يهتم باسناننا باجور تدفعها له والدتي دوريّاً . .
ليأتي بعد الدهدوينة النازلة فرن الصمون، الذي كنا نتناوب على شراء الصمون منه، اخي الكبير و انا في فجر كل يوم و خاصة انا، لأن ذلك كان من الاعمال البيتية الموكولة لي، حين كانت المشكلة الكبرى تكمن في الشتاء عندما كانت درجات الحرارة تصل الى دون الصفر، او حين كانت تمطر بغزارة، و كنت البس معطف طفولي مستعمل ثخين و دافئ، استعداداً للصراع مع المشترين المتجمعين معاً دون طابور اصولي، للحصول على الصمون المحمّص حال اخراجه من الفرن و حال رميه على طاولة الشراء، و كنت اتسلل بين المشترين مستغلاً صغر جسمي لأرمي كفيّ على الصمون و اضعه في الكيس السميك الذي احمله، لأعدّه لاحقاً و ادفع ثمنه عند الخروج من الفرن . .
كان شارع الدهدوينة يتقاطع مع الشارع الواصل الى ساحة النزيزة في محلّة النصّة المجاورة ، النزيزة التي كانت تنزّ او تنضح منها المياه في مواسم تكاثر الامطار لكونها واطئة، و هي ذات الساحة التي كانت تقام عليها العاب الاطفال في الاعياد من الاراجيح و دولاب الهوا و اجهزة لعب الفرّ و الدوران . . و تأجير ركوب الحيوانات.
وصلت الى بيت العم برهوم و صعدت درجات الباب الذي كان مفتوحاً ككل بيوت تلك المنطقة بمعنى (ياهلا بالضيف) و يكون المدخل مستوراً بستارة من قماش او نسيج فيه من الثقل بحيث تبقى الستارة مستقرة الى الاسفل و لا تتطاير بفعل الريح و تكشف المستور من حوش الدار . . و صحت بصوت مسموع :
ـ عم برهوم . . عم برهوم . . عندي احسن هدية اليك !!
ـ عم برهوم، الا تسمعني ؟؟
خرج العم برهوم من غرفة جانبية و هو يجيب على المستعجل :
ـ شكو شكو ابني عزيزي ؟؟ اية هدية تتكلم عنها ؟؟
سلّمته المظروف الكبير بيدي الاثنتين و تلقفه بفضول و فتحه مسرعاً حتى مزّق الظرف و قرأ الرسالة مسرعاً و اخذ يدبك على الارض و كأنه يرقص :
ـ اعزائي ، عزيزتي غنية . . ربحت الجائزة الاولى بمكافحة الملاريا . . تحوي على حفنة فلوس نستطيع ان نتزوج بها على الفور، اضافة الى شهادة دولية بمنحي دبلوم في مكافحة الامراض المتوطنة، و الشهادة عالمية معترف بها دولياً و عراقياً و تعني ساحصل على عمل و راتب ثابت في وزارة الصحة بعنوان موظف صحي !
ـ اتفضل اتفضل ابني تعشىّ معانا . . عندنا احسن كباب من السوق الجديد !! و اشار الى الغرفة الجانبية.
دخلت الغرفة و رأيت فيها ثلاث شابات جميلات مع شاب عرفت انه اخو احداهن، كنّ جميلات بجمال لم نعهده في محيطنا . . شعور شقراء و كستنائية بموديلات متعددة، عيون ملوّنة من زرقاء الى نرجسية، بملابس انيقة . . عرفْتُ بعدها انها كانت جلسة خطوبة برهوم على الممرضة الموصلية غنية ذات العيون الزرقاء و البشرة البيضاء ذات الحمرة، الجالسة بخفر جنب اخيها، بحضور صديقتيها الممرضتين المسيحيّتين : هيكانوش ذات العضد المشوّه الجلد بسبب اطلاقة بندقية اصابتها قبل سنوات في مذبحة سميّل . . و تيريز ذات المظهر المتحديّ، التي تسبب جمالها و هي بعيدة عن مسرح التحديّ، بمقتل طبيب بالمستشفى الملكي في صراع بين اطباء للفوز بها كزوجة.
عرفنا لاحقاً ان برهوم في نشاطه في البرنامج الدولي لمكافحة الملاريا، و وجوده في ارياف الموصل، كان يساعده هناك الشاب يونس، و بمرور شهور من العمل المضني، تصادقا و فتح يونس بيت العائلة المتدينة امام برهوم لثقته به، حتى صار بيت يونس و كأنه بيته بعد ان استأجر غرفة عندهم استلموا ايجارها منه لشهرين فقط، و اعتبروه ابنهم بعدهما . . و صار من العار عليهم ان يدفع ايجاراً، على ان تبقى الغرفة التي سكنها، غرفته !
احبّ برهوم اخت يونس الممرضة غنية و بادلته نفس العواطف و اخبرت اخيها و امها بذلك، و اشترطت عليه الاّ يذهب ابعد الاّ بعد الزواج، و كانت جلسة الخطوبة هي البداية بعد ان نجح برهوم بعلاقاته المتنوعة مع موظفين كبار، نقل غنية من صحة الموصل الى صحة بغداد، و الى حيث تعمل صديقات طفولتها المسيحيّتان . .
كان كباب السوق لذيذاً و كافياً بعد ان صار الشيش و كأنه شيشين اثنين مع الطماطة و البصل المشويان، التي شكّلت طبق كباب السوق الجديد، كباب اسطه محمد. و فيما اتهيأ للمغادرة قبل هبوط الظلام، سمعت حديثاً هامساً بين برهوم و ابنة الجيران المحبوبة صفية اللي كانت تساعد الجميع و هي تبكي و تشهق بتكتّم، حديثاً لم افهمه تماماً آنذاك :
ـ حبيبي برهوم، انا لست ضد خطوبتك و زواجك . . انا احبّك بجنون !! كم رسالة كتبت لك و من اكثر من سنة، و انت لاضحكة و لا جواب . .
ـ نام معي و لو لمرة واحدة و الاّ سأجنّ و انتحر لأن ليس لحياتي معنى ان لم تنم معي . .
ـ صفية اهدأي عزيزتي، انت مخطوبة لإبن عمّك الذي وافقتي انت عليه . . يعني ما تخافين من الخيانة و الفضيحة او من الحمل ؟؟
ـ نام معي دون اي فعل، و نكون تحت غطاء واحد عراة كما خلقنا الله تعالى.
ـ عيني انتي صفية . . تزوّجي اولاً و الله كريم، حتى لانكون مذنبين امام ربنا . . و هاي احنا عايشين و حبايب، شفتي اشكد حبّتك غنية ؟؟
كان يحادثها بنغمة تهدئة الى ان انقطع الحديث . . و بقيت افكّر بعقلي الطفولي، لم اصدّق ان العم برهوم قاسي الى هذا الحد . . بلكي صفية تخاف تنام لوحدها ؟ تخاف من حرامي او من طنطل يخرج من النهر بالليل، كما كانت تحدّثنا جدّتي، تتوسّل به و تبكي و لا اعرف اية فضيحة ستكون، بعدين لماذا فضيحة ؟؟ ينام معها ليحميها و يشدّ ازرها . . لكن لماذا تقول ننام عراة ؟؟ يعني الدنيا لاتزال باردة . . يمكن خطيّة من حبها و ثقتها به، بس ليش ؟؟
و نظرتُ الى عم برهوم شزراً و هو يقودني الى باب الدار، و يحمّلني آيات الشكر و تحيات حارة الى والدي، حتى وصلنا الباب و شاهدنا تجمعاً كبيراً امام باب بيت الجيران المقابل لبيت فاضل، و عدد من الشباب و الكهول يصيحون :
ـ هايل هتلر !! هايل هتلر !!
قال عم برهوم لي :
ـ ابني هاي راح تصير هوسه . . الدنيا صارت ظلمة، لاتقف عندهم لأن معهم عدد من السكّيرين الغاضبين المستعدين لضرب اي واحد و مايفرّقون بين الشاب و الطفل، انتقاماً من اعداء هتلر اللي تسببوا بالبطالة و الفقر و الخسارة اللي عايشين فيها، كما يفكّرون، و هم ينتظرون خروج زعيمهم اللي يسمّوه (هتلر الاعظمي) او (هتلر اعظمية) . . حبيبي تروح بسرعة الى البيت. اوكي ؟؟
ـ اوكي . .
خرجت و الفضول مسيطر عليّ لمشاهدة هذا الهتلر، لأن الزعيم النازي هتلر و المنشورة صوره على المجلات كان قد انتحر اثر خسارة جيوشه التي احتلّت الكثير من دول العالم و تسببت بمجازر بحق الشيوعيين الذين قاوموه و بحق الغجر و اليهود و المثليين، و قامت مختبراته بالعديد من التجارب على البشر، و قام بكل الممنوعات . .
اختبأت خلف سيارة مركونة الى جانب الشارع منتظراً خروجه . . و فجأة علا صياح المتجمهرين، الهاتفين بحياة هتلر و هايل هتلر رافعين اذرعهم المستقيمة على الطريقة النازية، و هم يشاهدون هتلر الاعظمي يخرج من بيته، رافعاً ذراعه المستقيمة نحوهم، و يصيح :
ـ هايل هتلر هايل هتلر . . اسمعوا ويلكم . . احنا مانسمح يروح هتلر بولة بشط !!
ـ تسلم زعيم ! عاش الزعيم !
اضافة الى دبكات مجموعة شبه ريفيه أميّه من اطراف الاعظمية و هي تردد :
ـ هترل هترل هترل !
ظهر برأسه الكبير ذو الشعر الاسود الملمّع بالكريم و المسرّح بفرق جانبي على رأسه و ينسدل باقي الشعر ليغطيّ جبهته، قاصّاً شاربه على طريقة هتلر الحقيقي كما يظهر في صوره، لابساً معطفاً اسوداً بازرار معدنية لامعة سراوين بصليب معقوف في اعلاها، و بعدد من النياشين التي اهديت له من الاهالي و من ضباط متقاعدين او سابقين هناك (اعتزازاً) به.
ظهر بوجهه ذي الشبه الكبير بوجه هتلر، هازّاً عصا الماريشالية التي اهديت له، بيده و ملوّحاً بها في الهواء . . و بعد ان حيّاهم بيده التي تحمل بايب تدخين معوجاً و كأنه زعيم فعلي، ذهب الجمع خلفه و خلف من قاموا بحمايته محيطين به التصاقاً، نحو (شارع عشرين) حيث مقهى (الثورة العربية) و كانت تسمىّ مقهى الريّس . . كما هتف الجمع :
ـ الى الثورة العربية !
كان جاسم ابو تقي مواطناً من اهالي الاعظمية ـ الدهدوينة، مفتول العضل عمل كعامل بناء و تكسير الصّبات الاسمنتية، و لكثرة الشبه بينه و بين الزعيم النازي كما قيل له و تردد على سمعه، دخل في وهم عميق بأنه وريث هتلر، و كان يذهب يومياً الى مقهى يقابل مدخل ضريح ابو حنيفة النعمان، حيث لديه مقعد حرص رواد المقهى ان يجعلوه اثيراً و محجوزاً له، فيجلس هناك و يدعوه الجالسون الى الشاي و الى مايحب على حسابهم، و يتلطفون معه و ينادونه بـ (الزعيم) . .
و كان يخرج ايّاماً في الفجر لتحية السيارات العسكرية الحاملة للجنود بعد جمعهم الاصولي من اماكن الواجبات، لتحيتهم و كانوا يجيبونه بتحياتهم له بكل جد، و كان يقول انه يخرج لتقوية روحهم المعنوية و الاستعداد للحرب و النصر لأن الحرب العالمية الثالثة لابد ان تأتي و لابد ان ننتصر !
و بعد سنين عرفت ان هناك اوساطاً من اهالي الاعظمية كانوا يشجّعونه على القيام بدوره ذلك و يصرفون عليه، لجعله احد رموز المعارضة للاستعمار البريطاني و للصهيونية و اسرائيل، باعتبارهم هتلر الذي فتك باليهود، كان صديقاً لـ (القضية العربية) بتحالفه مع مفتي الديار الفلسطينية امين الحسيني . . دون تفريق بين القضية اليهودية و الصهيونية، و لكن استنكاراً لما فعلته العصابات الصهيونية الاستيطانية من مذابح بحق الفلسطينيين المدنيين العزّل. و كان ذلك يحرّك اوساطاً شعبية ليست قليلة من اهالي الأعظمية، للمعارضة . .
خاصة و ان عدد كبير من عوائل اللاجئين الفلسطينيين كانوا يسكنون في اطراف متنوعة من الاعظمية و خارجها، و كانوا محل تعاطف و محبة من قبل الاهالي هناك، خاصة و انهم كانوا يقومون بما توفّر لهم من اعمال بصورة ناجحة و امينة، و كان طلبة و طالبات عوائلهم من الاكثر شطارة و تفوقاً في الدراسة . .
و لا انسى يوم تزوجت احدى الخالات و كانت طالبة في كلية الإقتصاد، من زميل لها في الكلية و كان فلسطينياً من العوائل اللاجئة من القدس الى الاردن، حصل على بعثة دراسية الى كلية الاقتصاد في بغداد، و كان متفوقاً بالدراسة . . و ذهبنا نزفّها بسيارات التاكسي الى بيت ابنة خالته التي كانت تسكن
مع عائلتها في شقة من شقق اللاجئين الفلسطينيين، الذين سكنوا في سلسلة عمارات سكنية ذات خمسة طوابق، تطل على شارع غازي، و على الطريق الواصل بينه و بين مستشفى الطوارئ القديمة في الشيخ عمر . .
حين نُحرت ذبائح عند اقدام العروسين و ختمت دمائها بالكفوف على باب الشقة و الحيطان الخارجية . . و حين امتلأت الشقة الصغيرة بالمهنئين و الحضور حتى تقطّع النَفَسْ في غرفتين كل منها ستة امتار مربعة بحضور فاق على المئة من رجال و نساء و اطفال، و شموع عسل كبيرة متوهجة بنيران كبيرة، و انواع الكيك و الشوكولا و الجكليت و الشرابت الموضوعة على ماتوفّر من مناضد ، وسط الزغاريد الفلسطينية و العراقية :
ـ ههههههههو هههههههها ياقَمَرْ طلّ علَيْنا
ـ ههههههههو هههههههها يابنتنا طِليّ
ـ ككلللللللللش ككلللللللللللش اووو زوّجنا و خلصنا منّه

و كانت شقة ابنة خالة العريس تقع على الطريق الموازي، لزقاق خلف كراج امانة نقل الركاب ـ شارع غازي، كان فيه مقام الشيخ كُمر، الذي اشتهر بفك السّحر و علاج الامراض النفسية و قراءة الحظ و البخت، الزقاق الذي كان مزدحماً دائماً بالناس و مرضاهم و حيواناتهم التي ينوون تقديمها للشيخ كنذور لعلاج ذويهم، غلب عليها الغنم و الديك الرومي و انواع الفواكه و الحلويات . .
حين كنا نذهب بسيارة ابناء العشيرة القادمين من الحلة و الشّاديّن على سقفها خروف منذور للشيخ . . مصطحبين اختهم الكبرى الجميلة التي كانت منذورة بالزواج الى سيد من اولياء الله كما اوصى والدها عند وفاته، و حطّم بذلك حياتها و مستقبلها و صارت بكماء توقّفت عن الكلام، بعد عشق لإبن عمها مزهر، عشق طاهر ذاع صيته و عفّته . . و كانت والدتها تقول لن يفكّ عقدتها الاّ الشيخ كمر، و كان والديّ رغم عدم تصديقهما لتلك الخزعبلات، كانا يعتنيان بطلبهم رأفة و حباً بتلك الاخت الجميلة المنكودة الحظ . .
. . . .
. . . .
عادت المياه الى مجاريها الاعتيادية بين الملازم الاول سعدون و ابن عمه الوزير عبد المحسن بعد حادثة الطائرة في الغدير و تنحيته من القوة الجويّة، و واصل عمله كمرافق له و مدير مكتبه بعد ان نُقل الى القوات البرية، في الفرقة الثالثة ـ بعقوبة، الى اللواء العشرين الذي كان يقوده الزعيم الركن عبد الكريم قاسم، و مقر قيادته في منصورية الجبل، وفق تنسيب اللواء. و عمل الوزير عبد المحسن على مساعدة سعدون في سفره و خطيبته الماس و امها الى قبرص لعقد الزواج بعد استلامهم للدعوة الاصولية المقدمة لهم من مكتب الحبر الاعظم هناك . .
اتمّ سعدون مراسيم الزواج على عجالة اثر الحاح ابن عمه الوزير، على حاجته الملحة و العاجلة له، لأنه سيعمل بكل قوته على عدم توقيع المعاهدة العسكرية الجديدة مع البريطانيين . . و سكن العروسان في بيت صغير اعدّته ام العروس ياسمين لهما في بغداد الجديدة . .
اتّصل الوزير عبد المحسن بإبن عمّه سعدون، طالباً منه الحضور الفوري الى بيته لأمر هام، و قال له :
ـ اسمع سعدون . . البريطانيون مصروّن على عقد المعاهدة العسكرية الجديدة، و لن ينفع لإجهاضها الاّ القيام بتظاهرات كبيرة تستنكرها و تمنع عقدها، كما حصل في وثبة كانون 1948 قبل ثماني سنوات، خاصة و ان الشعب بكل مكوناته ضد عقدها . . اتّصل بكل من تعرفه من صلاتك للتهيؤ و القيام بذلك و سأخبرك بالموعد . . المهم الآن التهيؤ !! و اخبرني عمّا تحتاجه من مصاريف تغطيّ سرعة التحرك . . صحف المعارضة للحزب الوطني الديمقراطي، و لحزب الشعب و الأهم لصحيفة " كفاح الشعب " للحزب الشيوعي العراقي السريّ، هي و اخبارها الاوسع انتشاراً بين الناس . . كلها تدين عقد المعاهدة الجديدة. المهم ان تجد طريق للاتصال بالشيوعيين، لأنهم الشباب الانشط !! و بالتأكيد هم ينسّقون نشاطهم مع المنظمات و الاحزاب الديمقراطية و القومية كعادتهم . . و وفق التقارير الأمنية للوزارة، و وفق (اطّلاع الوزراء) . .
اتّصل سعدون بنسيب عشيرتهم رحيّم بعد ان زارهم في البيت، و كانت زيارته الاولى لـ رحيم و سعاد، حاملاً معه هدايا متنوعة من حلويات و فواكه . . و تناقشوا طويلاً بما يحصل و اهمية الاستعداد
بحضور برهوم الذي ابدى استعداداً كبيراً للنشاط و للتنسيق بين كل القوى الوطنية و القومية، من جهة اخرى ابدى رحيم استعداده للتحريك و للتنسيق مع الاوساط الكردية في بغداد، من خلال الحزب الشيوعي الذي يضم ابناء كل القوميات و الاديان، و بالاتصال مع الجمعيات الكردية الفيلية المحبوبة، و المعروفة باعمالها و نشاطاتها الخيرية للشعب . .
و في غمرة فرح سعدون باستعداد اقاربه للتنسيق و التعاون معه، اتّصل بالعم ميخا و اوضح له مايجري الاستعداد له و ضرورة تحريك الآثوريين في مختلف مناطق بغداد و حيث يسكنون، و ضرورة الاتصال بالثوار الكرد في الجبال و ممثليهم في بغداد من الحزب البارتي، للاستعداد لذلك خاصة و ان بياناتهم تؤيد ذلك . . و بينما بدأ الجميع بالتحرّك و الاستعداد، ذهب سعدون الى صديقه سعيد المصلوب و التقاه في بانسيون ماري و تناقشا حول مايمكن عمله، خاصة على صعيد متابعة نشاطات السلطة الحاكمة . .
خرجت ريتا من مخدعها و سلّمت على سعدون و دعته الى شرب شئ في غرفتها، وافق سعدون و تبعها الى غرفتها بعد ان اتم حديثه مع سعيد الذي اكّد لسعدون على ضرورة العناية باخبار ريتا، لأن ضيوفها في الفترة الأخيرة اغلبهم من الانكليز و من الرتب العالية . . استقبلته ريتا في غرفتها على عادتها و وسط ضحكاتها، بأن رمت سروالها المعطّر بعطورها و رائحتها، على وجهه . . و بعد العناق و و و . . ناما عاريين معاً و استيقظ سعدون على استلقائها على بطنه و مداعباتها، و هي تقول له:
ـ ابليت بلاءً حسناً اليوم معي، اني اشتاق لك من صدك، و لاتطوّل الغيبات عنيّ، انت ما خليّت شي بعد . . . بعد ان سمحت لك تلعب براحتك . . ولك انت خبّلتني !!
و اضافت :
ـ سعدوني، منذ يومين و القوات البريطانية باقصى درجات الإنذار و لم استطع معرفة السبب، و فهمت ان اهم معسكرات الجيش و حماية العاصمة بغداد، وضعت تحت الإنذار ج و هو اعلى درجات الإنذار، و أُلغيت الإجازات الدورية العسكرية الإعتيادية للضباط و المراتب !! و يقولون انه ستحصل مفاجئات و العلم عند ربّ العالمين . .
(يتبع)


8 / 11 / 2021 ، مهند البراك