-العرب- و -البربر-, خرافة أكل الدهر عليها و شرب (2)


كوسلا ابشن
2021 / 11 / 7 - 21:59     

متابعة للخلفية الأسطورية في البحث عن أصول الأمازيغ العرقية و تحديد جغرافيتهم الأصلية. نتابع المهتمين بالشأن الأمازيغي أكثر من غيرهم في زمن الإستعمار الإستطاني الذي كان بحاجة الى بناء ايديولوجي وهمي يشرعن لأحقية الوجود الكولونيالي في شمال افريقيا. كانت الحاجة ضرورية للبحث في النصوص الخرافية لصناعة الأصول العرقية والإنتماء الجغرافي المشرقيين للأمازيغ.
بدءأ من قصص اليهودي إبن اسحاق, و من تبعه من حكواتيي بغداد في صناعة الهوية "العربية", ليس للقبائل الحجازية-النجدية فحسب وإنما شملت هذه الهوية الخرافية كل شعوب الأوطان المحتلة. فمن مستنقع خرافة الأولون, إستمد الرواة المعاصرون, أسطورة الأصل العربي للامازيغ, و الأصل المشترك لهدف إقناع العالم والبربر بالجذور الوهمية للأمازيغ و تقبل الحكم الأجنبي. يقول ابراهيم علوش في مقاله (الأمازيغ (البربر) جاؤوا من اليمن) :" وإذ نقدم هنا صفحات موثوقة عن عروبة البربر (الامازيغ) القديمة فلأن التاريخ القديم للمغرب العربي يتعرض للتشكيك و الطعن بعروبته أكثر من غيره ... فإذا أثبتنا أن الأمازيع (البربر) عربٌ أقحاح, فإن إثبات عروبة الباقي, من مصر للعراق لسوريا للسودان لأريتريا (التي يأتي ذكرها هنا) يصبح أمراً أسهل منالاً. نشجع كل عروبي أصيل أن يبحث عن المواد التي تثبت عروبة القطر أو المنطقة التي يأتي منها, من البحرين إلى المغرب, وأن ينشر هذه المواد على أوسع نطاق, ولو كان الأمر يتعلق بشجرة عائلته, أو تاريخ عشيرته أو قريته".
أزمة الهوية في أوطان الشعوب المحتلة, وبروز حركات تطالب بحقوقها القومية في بلدانها الأصلية, بدأ يزعزع عرش العروبة القسرية و القهرية في هذه البلدان, وخصوصا إنبعاث العقل الأمازيغي ونمو الوعي القومي لدى شريحة واسعة من الأمة الأمازيغية. هذا الإنبعاث المدمر للبنية الأسطورية, أدى الى الهلع في أوساط الحركة القومجية التي لم تستطيع طيلة سبعة عقود من تراكم الإنتاج الخرافي والخطابات العرقية و أدوات التنويم المغنطيسي, لم تنجح في إماتة العزة القومية لدى الأحرار ايمازيغن, ولم تستطيع عرقلة أصواتهم الحرة المطالبة بحقوقهم. فهاهم مؤدلجي العروبة القسرية و القهرية يستغيثون بالعامة أن تنقذ أوهامهم من النسيان و الإندثار, بالتشجيع عن البحث في النسب و تاريخ العشيرة, و ما يجهله السيد علوش, أن الإنتساب الى أعراب الجزيرة و صناعة تاريخ العشيرة والقبيلة قد سبق إليه الأولون من المرضى بهوس النسب "الشريف", و قد أبطل ابن خلدون خرافاتهم و قصصهم قبل أكثر من ستة قرون, وأشجار العائلات قد يبست, لأن النسب كما قال أبن خلدون في أربعة. فكيف ياترى أن تكتب تاريخ العشيرة, و شجرة العائلة بالرجوع الى ما قبل ألف سنة أو أقل أو أكثر, فمن من النسابين يعرف جده الخامس, حتى يعرف نسبه قبل آلاف السنين, فهذا سخافة التفكير. فالشعوب لم تتكون بالنسب الفردي, و يريد معرفة النسب الجمعي من دون خطأ, فاليبحث عنه في علم الجينات, فهو وحده من يستطيع تقديم الإجابة العلمية و يحدد الاعراق والاختلافات الموجودة بينها. فعليك يا أستاذ علوش أن تشجع المخدوعين في الأصل العربي الإتجاه الى مختبرات التحليل الجيني لمعرفة أصولهم الحقيقية عوض العيش بهويات مزيفة.
عثمان السعدي دفاعا عن أوهامه, حول الأصول العربية للأمازيغ, يقول: "إن البربر يعيشون في حوض حضاري, ولا أقول ( عرقي ), يقع في هذا الامتداد الجغرافي, من سلطنة عمان شرقا على المحيط الهندي, إلى موريتانيا على المحيط الأطلسي غرباً. وكان هذا الامتداد مسرحا لمد بشري, منذ عشرات آلاف السنيين, في الاتجاهين: من المغرب إلى المشرق, ومن المشرق إلى المغرب". ويضيف: "التشكيك في ذلك هو مناورة للاستعمار الفرنسي الجديد بهدف شق الوحدة الوطنية, واستمرار سيطرة الفرنكفونية على الجزائر وبلدان المغرب العربي". اليقين المطلق لعثمان و دكتاتورية تفكيره تمنع الآخرين حتى في التفكير في التشكيك في سخافاته, و من يفعل ذلك, يعد مؤامرة استعمارية, فماذا سيكون الأمازيغ في نظره, وهم يكذبون و يفندون تخريساته الوهمية و يثبتون الأصلهم المحلي!. وهل سيحاكم هيرودوت, وهو يثبت الأصل المحلي للأمازيغ كذلك. في كتاب "أحاديث هيرودوت عن الليبيين (الامازيغ)" ترجمة وتعليق و شرح د. مصطفى اعشي, يقول:" فقرة 197: هؤلاء هم الليبيون الذين تمكنا من معرفة أسمائهم, أغلبهم لا يبالي ولا يهتم بملك الميديين. ففي هذه الأرض بقي لي أن أقول, وحسب معرفتنا, انها مؤهولة بأربعة شعوب لا أكثر: شعبان أصيلان وشعبان أجنبيان, الأصيلان هم الليبيون والاثيوبيون, يستوطن أحدهما شمال ليبيا والآخر جنوبها. الأجنبيان هما الفينيقيون والإغريق". أبو التاريخ هيرودوت يأكد محلية الشعب الليبي(الامازيغ), بأنه أصيل, و يتحدث عن الفينيقيين بأنهم أجانب, لا تربطهم بالأمازيغ أية علاقة قديمة.
من هو عثمان السعدي؟
حاصل على الإجازة في الآداب من جامعة القاهرة سنة 1956, في سنوات المد الناصري, والماجستير من جامعة بغداد سنة 1979, مع هيمنة الفكر البعثي القومجي الشوفيني, والدكتوراه من جامعة الجزائر سنة 1986, زمن الثالوث القاتل. كان رئيس البعثة الديبلوماسية بالكويت 1963 ـ 1964. قائم بالأعمال بالقاهرة 1968 ـ 1971. سفير في بغداد 1971 ـ 1974. سفير في دمشق 1974 ـ 1977. عضو مجمع اللغة العربية الليبي في طرابلس ـ ليبيا. عضو المجلس الشعبي الوطني من 1977 إلى 1982، عضو باللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني من 1979 إلى 1989، رئيس الجمعية الجزائرية للدفاع عن اللغة العربية منذ عام 1990.
البربري عثمان السعدي كما تتحدث سيرته عنه, يعتبر من أولئك الذين تشبعوا بالفكر القومجي (البعثي-الناصري) الشوفيني الإجرامي. البربري قدم خدماته للعروبة القسرية والقهرية بهدف المركز الوظيفي والهداية المالية البعثية- القدافية, مقابل الإسهام في تزييف التاريخ الأمازيغي ( هذا ما كان يشجعه عليه الفاشي الراحل القدافي), رغم انه غير متخصص لا في التاريخ ولا في اللسنيات. لكنه إقتحم مجال الرواية التاريخية من باب الصلاة على قبر الأمازيغ, و سنة إكراميات اسياده. لتنقية الخلفية الاسطورية لروايته التاريخية, إسترشد عثمان بالخلفية الإيديولوجية والسياسية لمؤرخي الكولونيالية, للبحث عن الأصل "العربي" للأمازيغ.
قبل الخوض في طروهات البربري عثمان, أود معرفة من هم هؤلاء الأعراب "أسلاف" الأمازيغ المزعومين.
عن جواد علي, في (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام), في الفصول 1-40, الجزء الأول, يقول:" ترى علماء العربية حيارى في تعيين أول من نطق بالعربية، فبينما يذهبون إلى إن "يعرب" كان أول من أعرب في لسانه وتكلم بهذا اللسان العربي .... تراهم يجعلون العربية لسان أهل الجنة ولسان آدم، أي انهم يرجعون عهده إلى مبدأ الخليقة ... إن "يعرب" هو أول من أعرب في لسانه، وانه أول من نطق بالعربية، وان العربية إنما سميت به، فأخذت من اسمه، إنما هم القحطانيون... ولم يكن يخطر ببال هؤلاء إن سكان اليمن قبل الإسلام كانوا ينطقون بلهجات تختلف عن لهجة القرآن الكريم، وأن من سيأتى بعدهم سيكتشف سر "المسنَد"، ويتمكن بذلك من قراءة نصوصه والتعرف على لغته، وأن عربيته هي عربية تختلف عن هذه العربية التي ندوّن بها، حتى ذهب الأمر بعلماء العربية في الإسلام بالطبع إلى إخراج الحميرية واللهجات العربية الجنوبية الأخرى من العربية.
والقائلون إن يعرب هو جدّ العربية وموجدها، عاجزون عن التوفيق بن رأيهم هذا ورأيهم في إن العربية قديمة قدم العالم، وأنها لغة آدم في الجنة، ثم هم عاجزون أيضاً عن بيان كيف كان لسان أجداد "يعرب"، وكيف اهتدى "يعرب" إلى استنباطه لهذه اللغة العربية، وكيف تمكن من إيجاده وحده لها من غير مؤازر ولا معين? إلى غير ذلك من أسئلة لم يكن يفطن لها أهل الأخبار في ذلك الزمن.
ما المستشرقون وعلماء التوراة المحدثون، فقد تتبعوا تأريخ الكلمة، وتتبعوا معناها في اللغات السامية،وبحثوا عنها في الكتابات الجاهلية وفي كتابات الآشوريين والبابليين واليونان والرومان والعبرانيين وغيرهم، فوجدوا إن أقدم نصّ وردت فيه لفظة "عرب" هو نص آشوري من أيام الملك "شلمنصر الثالث" "الثاني?" ملك آشور. وقد تبين لهم إن لفظة "عرب" لم تكن تعني عند الآشوريين ما تعنيه عندنا من معنى، بل كانوا يقصدون بها بداوة وإمارة "مشيخة" كانا تحكم في البادية. ولما كانت الكتابة الآشورية لا تحرك المقاطع، صعُب على العلماء ضبط الكلمة، فاختلفوا في كيفية المنطق بها، فقرئت: "Aribi" و "Arubu" و "Aribu" و "Arub" و "Arai" و "Urbi" و "Arbi" وعلى كل حال فإن الآشوريين كانوا يقصدون بكلمة "عربي" على اختلاف أشكالها بداوة ومشيخة كانت تحكم في أيامهم البادية", ويضيف: "ومراد البابليين أو الآشوريين أو الفرس من "العربية" أو "بلاد العرب"، البادية التي في غرب نهر الفرات الممتدة إلى تخوم بلاد الشام".
إستنتاجا من بحث جواد علي, فتسمية عرب أو أعراب (أرابي), مستمدة من الأصل العجمي (الأجنبي), و تعني البدو أهل البادية في لغات الآراميين والآشوريين و اليهود, ولا تشير الى الهوية الأثنو-ثقافي لأهل الحجاز و النجد. و ساكنة البادية موجودون في كل الأقطار, عند الأشوريون, أرابم (البدو) كما عند الأراميون, أرابم (البدو) و عند اليهود, أرابم (البدو), وعند الأمازيغ أرابم (البدو). وقد أستعمل اليونان والرومان لكمة أرابي في الإشارة الى البادية وساكنتها, مثل ما قالوا عن الأرابية الحجرية ( النبط, قبائل أرامية) و الأرابية الصحراوية (الحجاز و النجد) و الأرابية السعيدة ( كانوا يعتقدون اليمن بلاد كلها أرض بدوية), ولم يحدد اليونان و الرومان آثنية محددة تسمى العرب, بل تحدثوا عن البدو الساكنين في هذه المناطق, و المنتميون الى آثنيات مختلفة.
العرب (أرابم) في الحجاز و النجد,هم قبائل مختلفة عاشت حياة الترحال و العزلة عن العالم الخارجي في قفار الحجاز و صحاري النجد, وكل قبيلة تعرف على نفسها من خلال هويتها القبلية لإنعدام المشترك الآثني, ولم تحتك هذه القبائل بالجيران إلا في زمن متأخر, دفعتهم المجاعة الى الهجرة بحثا عن المراعي و المياه, وإستقر الغساسنة على حدود الشام بأمر البزنطيين, و إستقر المناذرة جنوب النهرين برخصة الفرس. و تسمية عرب أو أعراب لم تظهر عند القبائل الحجازية-النجدية إلا في الفترة الإسلامية, مما يوحي أن الحكواتيون في العصر العباسي إلتقتوا كلمة أرابم, بما سمعوه عن النص الآثري المنسوب الى الملك الآشوري "شلمنصر الثالث" في القرن 9 ق.م. وذكر فيه انتصاره على تحالف ملوك أرام بزعامة ملك دمشق و أنه غنم ألف جمل من جندويبو من بلاد أرابي (أعراب) والمقصود بادية الشام وساكنتها الأرامية. هذه المصادفة قدمت لهم الفرصة التاريخية لعملية تزوير تاريخ المنطقة بالإدعاء أن كل شعوب المنطقة من أصول ساكنة الحجاز و النجد, حتى الحضريين أصحاب الحضارات القديمة في هذه المنطقة.
و السؤال الى أي صنف من الأعراب ينحدر الأمازيغ؟ وقبل عشرون ألف سنة (عصر الحجري القديم), زمن الهجرة من الجزيرة العربية الى شمال إفريقيا, كما إدعى عثمان. فما كانت الجذور الأثنو-ثقافية لأسلاف الامازيغ هل كانت معروفة لدى دعاة الأصل الشرقي. يؤمن عثمان السعدي أن البربر هجروا من الجزيرة الى شمال إفريقيا قبل 20 ألف سنة (العصر الحجري القديم), إستنادا الى فرضية بعض المؤرخين بذلك, يقول السعدي:" أن بعض المؤرخون مثل أحمد سوسة العراقي, و بيير روسيه الفرنسي, يرون أن الموجات البشرية الخارجية من الجزيرة العربية هي التي عمرت الشمال الأفريقي وحوض البحر الابيض المتوسط بشماله و جنوبه, وذلك منذ بدءالمرحلة الدافئة الثالثة (وورم 3) في التاريخ الجيولوجي للأرض, أي قبل عشرين ألف سنة, والتي نجم عنها ذوبان الجليد في أوروبا وحوض البحر المتوسط, وزحف الجفاف على شبه الجزيرة العربية، التي كانت تنعم قبل بدء هذه المرحلة, بمناخ شبيه بمناخ أوروبا حالياً".
ما بنى عليه السعدي تخريساته, لا يعد أن تكون إلا فرضية و هي غير صحيحة:
أولا: الفرضية لوحدها لا تقدم النتيجة العلمية لعملية البحث, في غياب الأركان الضرورية لإثبات الفرضية.
ثانيا: فرضية زمن التصحر في شبه الجزيرة (20 ألف سنة),غير صحيح و بعيدا على ما توصلت أليه دراسة في نفس الموضوع. قام بها معهد ماكس بلانك لعلم التاريخ البشري في ألمانيا, وهي دراسة مقارنة عن التفاعل بين الإنسان والبيئة الطبيعية في شبه الجزيرة العربية خلال عصر الهولوسين أو عصر الحياة الحديثة, وتوصل الباحثون الى ان تغيرات مناخية كبيرة حصلت في المنطقة خلال 12 ألف سنة الأخيرة, وفقد اختلفت درجة التحولات المناخية بين الشمال و الجنوب, بحيث عرف الشمال معدل الجفاف أسرع من الجنوب. و توصل الباحثون الى أن فترة ما بين 5900 و 5300 سنة كانت أكثر جفاف و قحولة. إلا أن الأدلة تشير الى أن الناس غيروا أساليب حياتهم و تكيفوا مع التغيرات المناخية. و إذا افترضنا أن الهجرة حدثت, فقد حدثت في الألفية السادسة.
كما يتضح أن الأبحاث العلمية الميدانية هي القادرة على تفسير الأحداث الغامضة لدى البشر, وتقدم الأجوة الصحيحة (نسبيا), و تفند ما ذهب اليه دعاة النظريات الإفتراضية التي إتخذها عثمان السعدي يقين مطلق لإثبات خرافة الهجرة من شبه الجزيرة الى شمال إفريقيا هذا من جهة, و من جهة آخرى, منطقيا سكان المناطق الجافة في هجرتها تستقر في أقرب منطقة تتوفر على شروط الحياة داخل الحجاز, أو الهجرة الى اليمن جنوبا, أو الهجرة نحو الشمال الى بادية الشام و حتى إذا إفترضنا أن هذه القبائل دخلت إفريقيا فأول محطة لا يستغنى عليها, هي مناطق حوض النيل, و من المستبعد أن تهاجر الى منطقة تبعد عنها الآلاف الكيلومترات لتصل الى منظقة أصاب جنوبها الجفاف بسبب التغيرات المناخية التي حدثت في الصحراء الكبرى. لقد فند ابن خلدون أسطورة الهجرة من شبه الجزيرة الى شمال افريقيا بقوله:"فلا يجد السالكين من اليمن الى المغرب طريقا من غير السويس والمسلك هناك ما بين بحر السويس والبحر الشامي قدر مرحلتين فما دونهما ويبعد ام يمر بهذا المسلك ملك عظيم في عياكر موفورة من غير ان يصير من اعماله هذه ممتنع في العادة . وقد كان بتلك الاعمال العمالقة وكنعان بالشام والقبط بمصر ثم ملك العمالقة مصر و ملك بنو اسرائيل الشام ولم ينقل قط ان التبابعة حاربوا احدا من هؤلاء الامم ولا ملكوا شيئا من تلك الاعمال وايضا فالشقة من البحر الى المغرب بعيدة".
المتحدثون عن هذه الهجرة الإفتراضية هم من منظري الأنظمة الكولونيالية, و بخلفيات سياسية و إيديولوجية, و تفتقد للمصداقية, هذا من جهة, و من جهة آخرى شمال إفريقيا هي الخزان الإيغودي, التي مدت العالم بالعنصر البشري, وكما وضحنا في الجزء الأولى عن إستمرارية السلالة الايغودية عبر كل تاريخ شمال افريقيا الى اليوم. فإستبعاد محلية الأمازيغ فرضية غير مقنعة, تستر بها منظري الكولونيالية تماشيا مع الخلفية السياسية والإيديولوجية لإثبات الأصل المشرقي الوهمي.
لإثبات أسطورة الهجرة قبل 20 ألف سنة (الزمن المتخيل), إستنجد عثمان السعدي, بالهجرة الفينيقية الى تانيس ( تونس) الأمازيغية (أصل كلمة الفينيقي هو أصل اغريقي من كلمة فوينيكس, والإغريق هم من صنع الحضارة الفينيقية المزعزمة). يقول السعدي:"وتعتبر هجرة الفينيقيين إلى المغرب واحدة من هذه الهجرات المتأخرة للأقوام العربية من الجزيرة العربية التي سُبقت بهجرات سابقة لها, لم يسجلها التاريخ كما سجل هجرة الفينيقيين. وتنقُّل الفينيقيين من الجزيرة العربية إلى بلاد الشام، ومن بلاد الشام إلى المغرب العربي, جاء عفوياً ليؤكد تبادل هذا المد البشري في هذا الحوض الحضاري الكبير".
ايديولوجية الإختلاقات والأكاذيب تنتج عند بعض الكتاب التخبط في الأفكار, وعدم الإدراك لفحوى أقوالهم وهذا ما يظهر عند السعدي:"هجرات سابقة لها, لم يسجلها التاريخ", القول بعدم تدوينها, ولم تثبتها حفريات آثرية, إذا فمن أين إخترعها السعدي, هل من الجن الذي يصاحب السعدي المسلم الشوفيني؟.
من هم الفينيقيون: ما هو معرف عنهم, أنهم ساكنة الشاطئ الشرقي للمتوسط (صيدا و صور, لبنان الحالي), وهذه المنطقة هي المجال الترابي للشعب الأرامي, ما يعني أن هذه القبيلة تنتمي الى الإثنية الأرامية. و مناطقها معروفة بغابات أشجار الأرز, ( ويعني الأرز, بالسريانية (الأرامية) الصلابة والثبات والديمومة), ولهذا كان الفينيقيون يتقنون صنع السفن و صناعات الخشبية, و الإتجار بالخشب, موردهم الرئيسي. كان الفينيقون يتاجرون مع مناطق حوض المتوسط, ومنها المناطق الأمازيغية, ما يدل على تبادل بضائع التجار الفينيقيون ببضائع الأمازيغ وفي أماكن آهلة بالسكان سواء كانت قرى أو مدن, والأمازيغ كانوا يتجرون مع البلدان الأوروبية قبل قرون من وصول الفينيقيين الى الشواطئ الأمازيغية.
و الإحتكاك أكثر بالفينيفيين كان بهروب الأميرة إليسا من أخوها الملك, ترافقها مجموعة من حاشيتها و لجوءها الى بلاد الأمازيغ, وإستقبلها الملك الأمازيغي يارباس حسب ما رواه المؤرخ اللاتيني يوستينوس. وبعد بناء قرطاج من طرف الأمازيغ ( لا يعقل أن الحاشية هي التي بنت مدينة قرطاج) وإهدائها للأميرة إليسا, و هي محمية بجنود وشعب أمازيغيين, وتشكل إختلاط الثقافي و اللغوي نتج عنه البونيقية هوية قرطاجية تختلف عن الفينيقية المشرقية. و كان هدف يارباس من إستضافة الأميرة إليسا في المقام الأول, الإستفادة من خبرة الفينيقيين التجارية للمساعدة على تسويق بضائع الأمازيغ في الأسواق الخارجية, وبهذا التعاون أصبحت قرطاج, المدينة الأكثر تحضرا في المتوسط بفضل الإندماج و التعاون, (ولو لم يكن هناك تعاون أمازيغي, لما كانت هناك حضارة قرطاج, ولو كان بمقدور الفينيقية صنع حصارة لكانت في موطنهم صيدا و صور, أو في المدن الكثيرة التي نسبت إليهم). إلا أن جشع الساسة الفينيقيون بعد ما ضمنوا السلطة السياسية, أدت بهم الى حروب أهلية داخل قرطاج ذات الأغلبية الأمازيغية وتمرد الجيش الأمازيغي, كما ان المحاولة في التوسع خارج قرطاج لم يقبل من طرف أقوى جيران قرطاج وهي مملكة ماسيلي, وكان هذه التوسع هو بداية نهاية قرطاج.
عثمان السعدي, إستنادا الى الأقلام الكولونيالية, يقول:"لقد علم القرطاجنيون البربرَ الزراعةَ. فالبربر يكسرون الرمانة على مقبض المحراث، أو يدفنونها في أول خط للحرث، تفاؤلاً بأن سنابل الحبة المبذورة ستأتي كثيرة بعدد حبات الرمانة. وهي عادة مستمدة من ثقافة قرطاج، فالرمانة لديهم رمز للخصوبة. وتعتبر قرطاج مربية للبربر، فقد علمتهم كيفية الاعتناء بالزيتونة التي كانت موجودة بالمغرب كشجرة وحشية وكيفية استخراج الزيت منها. ويفصل هذه المسألة "غزيل" لغوياً فيقول: "إن كلمة أزمور بالبريرية تعني الزيتونة الوحشية وهو الاسم البربري لهذه الشجرة. أما إذا تكلموا عن الزيتونة الملقمة أطلقوا عليها الاسم السامي (الزيتونة)، وعلى سائلها اسم الزيت".كما علم الفينيقيون البربر زراعة التينة التي كانت قبلهم موجودة بالمغرب كشجرة وحشية أيضا، وعلموهم زراعة الكرمة، والرمانة، وعلموهم عموما فن زراعة الشجر المثمر. وقد تبين لنا الآن أن البربر كانوا على اتصال منذ ما قبل التاريخ, وعلم الفينيقيون البربر الصناعات القابلة للتصدير كالسيراميك، وصناعة المعادن، والنسيج والمجوهرات: كالخلاخيل، والتيجان، والخلالات (المشابك)، التي تصنع في صورة كف مبسوطة الأصابع. والتشابه واضح بين مجوهرات القبائل (بالجزائر)، والسوس (بالمغرب)، وبين المجوهرات القرطاجية. أما ديانة قرطاج فهي التي كانت منتشرة بالمغرب كالإله (بعل عمون)، والإلهة (تانيت)، وكان هذا الإله منتشرا بالعالم العربي كله".
التزمت القومجي حصر تفكير عثمان في بنية العروبة المستحدثة والمنغلقة, مما أحتجبت عنه رؤية الحقائق من وجهة نظر معاكسة, فالإستشهاد بأبو التاريخ أكثر مصداقية من كتاب الإدارة الإستعمارية. عن هيرودوت وهو يتحدث عن الناسمونيون (أمازيغ), يقول:" فقرة 172: جرت العادة أنهم في الصيف يتركون قطعانهم ترعى عند الساحل و يتوجهون الى الداخل نحو منطقة تدعى أوجيله لجني الثمور, تنمور في هذه المنطقة بكثرة, أشجار النخيل و الكثيرة الثمر". و يضيف:" فقرة 183: و أنطلاقا من أوجلة و على مسافة 10 أيام أخرى يوجد تل ملحي, حوله مياه متدفقة وعدد من أشجار النخيل المثمرة على غرار الاماكن الاخرى و يسكن هنا قوم يسمى الجرامنيون, يطارد هؤلاء الجرامنيون على عرباتهم ذات الخيول الأربعة الأثيوبيين". و يضيف:" فقرة 191: بعد مواطن الأوسيس نجد الليبيين المزارعين, بيوتهم غرب نهر تريطون الذين يسمون الماكسييس". ويضيف:"فقرة195: يذكر القرطاجيون, أنه توجد من جهة الجيزانت جزيرة تدعى كيرونيس, يبلغ طولها مائتي سطاد, لكنها ضيقة, يتم المرور اليها من البر, وهي مليئة بأشجار الزيتون و كروم الأعناب".يضيف: "فقرة 198: في رأيي, و حتى في مجال الخصوبة, فإن ليبيا لا يمكن مقارنتها بأسيا أو أوروبا, إذا استثنينا منطقة كينيس فقط, فهي المنطقة التي تحمل نفس الاسم الذي يحمله النهر, تتضمن أخصب أراضي القمح في ليبيا... تربتها سوداء و تمدها الينابيع بالمياه الوفيرة... وهذا ماجعل معدلات منتوج المحاصيل, بما فيها البذور توافق معدل محصول بابل... و منتوج منطقة كينيس يبلغ ثلاثمائة ضعف المنتوج العادي في السنة". عن كتاب "أحاديث هيرودوت عن الليبيين (الامازيغ)" ترجمة وتعليق و شرح د. مصطفى اعشي.
المعلومات التي أوردها أبو التاريخ, هيرودوت تأكد ان أرض ليبيا القديمة ( شمال افريقيا), كانت غنية بخصوبة أراضيها و مليئة بأشجار النخيل و الزيتون و كروم الأعناب وغيرها, ومحاصيل الحبوب البالغة 300 ضعف النتوج العادي, ما يبين خبرة الأمازيغ في مجال الفلاحة. ولم تكن أرض قاحلة و جرداء تنتظر الفينيقيون و الأوروبيو لاصلاحها و تعليم الأمازيغ الفلاحة و غرس الأشجار المثمرة, كما يدعي منظري الإستعمار, لشرعنة إنسانية الإستعمار الذي قدم الى بلاد الامازيغ لإصلاحها و تطويرها , إخراج الشعب الامازيغي من التخلف الى التمدن والحضارة.
شهادة ثانية في آصالة الأمازيغ في بلادهم وآصالة ثقافتهم.عن جيهان ديزانج " البربر الأصليون " من (تاريخ افريقيا العام) (المجلد الثاني) المشرف على المجلد د. جمال مختار, يقول ديزانج:" أكد كامبس, أن البربر الليبيين لم يعرفوا الزراعة عن طريق الفينيقيين, ولكنهم مارسوها منذ نهاية العصر الحجري الحديث, و القول بأن الكنعانيين جلبوا الزراعة الى افريقيا الصغرى خلال الالفية الثانية ق. م., هو افتراض جزافي غير مترو. ان النقوش والرسوم في عصر المعدن تصور محراثا دوارا بشكل بياني تخطيطي في "الشفية" ( منطقة شرق قسنطينة), زجبال الأطلس العليا و الى الغرب من تبسة في اقليم دوار تازينت... و يبدو في بداية الأمر أن الليبيين غالبا ما كانوا يجرون المحراث بأنفسهم بواسطة حبال... لكنهم كانوا قد عرفوا منذ وقت طويل طريقة شد الثيران الى النير التي صورت في كل من الوحات الجصية المصرية, و في الصور المحفورة الخاصة بالاطلس الاعلى". ويضيف: وقد بين العلماء النبات أن القمح الجاف و الشعير قد زرعا في شمال افريقيا قبل وصول الفينيقيين بكثير, وكذا الفول والحمص... إن البربر عرفوا مطعيم شجر الزيتون البري قبل أن ينشر القرطاجيون زراعة الزيتون " (ص.443). و يضيف:" ان البحث الآثري في الانصاب الجنائزية أثبت وجود جماعات كبيرة مستقرة كانت تمارس الزراعة في العصور القديمة بافريقيا الصغرى". و يضيف :" ويدل أثاث المقابر (كما أثبت كامبس بوضوح) على مدى قدم الثقافة الريفية البربرية. و يمكن أن نوافق هذا البحث في أن خريطة توزيع المدافن, في عصر ما قبيل التاريخ المشتملة على الفخار, تزودنا بمعلومات صحيحة عن الانتشار الجغرافي للزراعة. وقد مكنت دراسة أشكال الفخار كامبس من أن يلقي بعض الضوء على طريقة حياة بربر ليبيا في هذا الوقت, و تشتبه النماذج (المصنفة حسب الطراز) الفخار المعاصر شبها شديدا. فالسلطانيات و الطاسات والاقداح الخاصة بالسوائل والحساء و الاطباق المسطحة كثيرا او قليلا, والصحاف الكبيرة التي تشبه الى حد ما الصواني المستعملة في يومنا هذا في خبز الخبز غير المخمر, والكعك و الفطائر..." (ص. 444).
شهادة ثالثة في دحض نظريات النزعة الكولونيالية التي جردت الأمازيغ من آصالتهم و إنتاجاتهم المادية والروحية. عن غبرييل كامب "البربر ذاكرة و هوية" ترجمعة عبد الرحيم حزل, يقول:" ومهما قال بوليبوس, أو قال المؤرخون الذين نقلوا عنه, فإن النوميديين لم ينتظروا حكم ماسينيسا لشرعوا في زراعة سهولهم الخصبة. و ها إن المقابر الصخرية العظيمة تضم آلاف القبور لفلاحين مقيمين قد أودعوها آنيتهم الفخارية, التي بقيت تقنياتها و أشكالها و زخارفها و ياللغراية, على حالتها الأصلية عند أحفادهم في الوقت الحاضر" (ص.187).
بعيدا عن الفكر الاستعماري, فأن شواهد المؤرخون و خصوصا من عاش في القرن الخامس قبل الميلاد, تأكد إتقان الأمازيغ الشعب الأصلي لشمال افريقيا للزراعة و صناعة الزيت من عصر الزيتون قبل الإستنجاد اللاجؤون الفينيقيون بالأمازيغ, والسماح لهم بالعيش في أرضهم.
يتبع