ثورة أكتوبر راسخة في الأذهان نحو تحرر الشعوب من الاستعمار


خليل اندراوس
2021 / 11 / 5 - 14:43     


ثورة أكتوبر رسمت الطريق لإمكانية إحداث تغيير جذري في المجتمع، عندما تكون هناك ظروف موضوعية لإحداث الثورة.

لقد أشارت ثورة أكتوبر إلى الطريق الذي يجب على الإنسانية، أن تنتهجه من أجل القضاء على الرأسمالية وأعلى مراحل تطورها، ألا وهي الامبريالية، التي تلحق الكوارث الإنسانية، بدءًا من البيئة، وحتى انتشار الأمراض والفقر والبؤس والجوع والحروب المحلية والمنطقية وصولاً إلى التهديد بحرب عالمية ثالثة لا يعرف أي إنسان مدى تأثيرها الكارثي على مستقبل الإنسانية.

لم يعرف التاريخ حدثًا أعظم من ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى وكلما تمر السنون بنا بعيدًا عن تاريخ أحداث ثورة أكتوبر المجيدة عام 1917، حتى بعد فشل تجربة بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي تظلّ هذه الثورة راسخة في الأذهان.

العودة إلى أحداث عام 1917 لا تعتبر عودة إلى التاريخ فحسب، بل ارتباطًا بمدرسة عظيمة للنضال في سبيل سعادة البشرية. العودة إلى أحداث ثورة أكتوبر الاشتراكية الخالدة، هي مراجعة ودراسة لهذه المدرسة العظيمة لنضال جماهير الشعب الواسعة التي حققت هذه الثورة، وأنجزتها ومراجعة تأثيرها العالمي، وخاصةً، تأثيرها غير المحدود على تحرر الشعوب من الاستعمار المباشر.

لقد أكد ماركس وإنجلز مؤسسا الشيوعية العلمية حتمية التطور الإنساني، الذي سيؤدي، لا محالة، إلى أن تصبح الاشتراكية البديل الثوري للرأسمالية بكل أشكالها المحافظة منها أو الليبرالية. وأكد ذلك لينين لاحقًا عندما أوضح بأن الإمبريالية هي أعلى مراحل التطور الرأسمالي، والتي مهما فعلت وتفعل من أجل استمرار بقائها ستكون آخر مرحلة للتطور الرأسمالي، وبعدها ستحدث القفزة الثورية نحو المرحلة الانتقالية وبعد ذلك المجتمع الاشتراكي، مجتمع العدالة الاجتماعية والمساواة. هذا التطور أمر حتمي لا مفر منه، كما أكد ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي. لأن الرأسمالية هي آخر نظام استغلالي يشهده التاريخ، ويجري خلال تطورها، وخاصة تطور وسائل الإنتاج وتحوّلها إلى عملية اجتماعية، التمهيد للظروف الموضوعية المؤدية للانتقال إلى درجة أعلى في حياة البشرية الشيوعية. وقد اعتبر لينين أن سيادة الاحتكارات هي السمة الرئيسية للإمبريالية. وهذا ما نشهده من تطور في عالمنا المعاصر، من خلال ما نشهده من سيطرة الاحتكارات العالمية العابرة للقارات، من خلال حفنة من الاحتكاريين، وهذا يؤدي إلى تفاقم التناقضات بين رأس المال والعمل، بين تركيز رأس المال وتحول عملية الإنتاج إلى عملية جماهيرية واسعة.
لا شك بأن خيرة ثورة أكتوبر وما أحدثته من تغييرات اجتماعية وثقافية وسياسية وعلمية في المجتمع الروسي لهي أكبر دليل، بأنه ليس هناك بديل أمام الإنسانية سوى إحداث التراكمات التقدمية، على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي، وكسر سيطرة رأس المال، من أجل خلق الظروف الموضوعية الملائمة لإحداث التحولات الثورية الجذرية التي تناسب وتحمي مصالح الغالبية العظمى والمطلقة للإنسانية جمعاء.

ولولا ثورة أكتوبر وأثرها الايجابي العالمي لما استطاعت الشعوب المختلفة من تحقيق حق تقرير المصير، وإحداث تغييرات بعيدة المدى في الوعي الجماعي الإنساني، الذي أصبح من غير الممكن إقناعه بإمكانية إحقاق الحقوق المشروعة للطبقات المستغلة إلا عن طريق النضال الثوري المثابر، من خلال النقابات والبرلمانات والحركات الطلابية والنسائية وحركات السلام والحركات المناهضة للعولمة المتوحشة وأصولية السوق الحرة، والتي تسمى ديماغوغيا بالليبرالية الجديدة، لأن ثورة أكتوبر أظهرت أهمية وحيوية التضامن الأممي للبروليتاريا القائم على أساس التضامن الطبقي لكادحي العالم.

ولذلك نجد الأوساط الحائمة في الدول البرجوازية، تستخدم كل الوسائل للتشهير بثورة أكتوبر، بعد أن أدركوا جيّدًا مدى التضامن والعنف لدى الكادحين والجماهير الشعبية الواسعة الداعمة لنهج وسياسة وأفكار وممارسات الثورة البلشفية، مما جعلهم ينشرون الأخبار الكاذبة والمثيرة، عن الوضع في روسيا بعد الثورة، من خلال كتاب أبيض نشرته الحكومة البريطانية، مليء بالافتراءات الباطلة عن الأحداث الثورية في روسيا مباشرةً بعد الثورة. ففي صيف عام 1920 نشر الصحفي الأمريكي ولتر ليبمان وشارل ميرفقس الذي أصبح فيما بعد رئيسًا لتحرير "نيويورك تايمز" كتيّبًا أشار فيه إلى أن الجريدة نشرت في الفترة من نوفمبر 1917 حتى نوفمبر 1919 أنباء انهيار السلطة السوفييتية 91 مرة.

وعلى سبيل المثال شكل مجلس الشيوخ الأمريكي لجنة خاصة لمحاكمة شاهدي عيان ثورة أكتوبر، ومحاكمة كل من ذكر الحقيقة عن انتصار ثورة أكتوبر.
وقدم لهذه المحاكمة كل من الصحفيين جون ريد، وويليامز، والعقيد روبينز رئيس الصليب الأحمر الأمريكي في روسيا، وكذلك الأمريكيون العائدون من الجمهورية السوفييتية الفتية. وحكمت الحكومة الفرنسية غيابيًا ثلاث مرات بالإعدام على نقيب الجيش الفرنسي جاك سادول نصير الحقيقة عن أكتوبر، الرجل الباسل الشريف.
وكان جاك سادول أقام في روسيا كمراقب سياسي للبعثة العسكرية الفرنسية وأثرت عليه تأثيرًا كبيرًا لقاءاته بلينين والأحداث البطولية التي عمت روسيا. وهب جاك سادول للدفاع عن بلاد السوفييت فاضحًا الخطط الإجرامية الهادفة إلى خنق الثورة منذ البداية. كتب يقول: "إن التدخل المسلح للعصابات المتحالفة وذيولها في قضايا روسيا العمال والفلاحين، لا يمكن أن يكون بأي حال من الأحوال حربًا للشعب الفرنسي ضد الشعب الروسي. إنها حرب البرجوازية ضد البروليتاريا، حرب الاستغلاليين ضد المستغلين، وفي هذا الصراع الطبقي، مكان كل استرالي حقيقي، وبالتالي مكاني في صفوف الجيش الأحمر".


وانعكست الأحداث العظيمة لثورة أكتوبر، بصدق في خطابات ورسائل سادول التي أرسلها إلى فرنسا، إلى رولان وباربيوس، وإلى الشخصيات السياسية الفرنسية وهكذا استطاعت الحقيقة أن تجتاز كل الحواجز رغمًا عن كل الإجراءات التي اتخذتها الأوساط الحاكمة في الدول الرأسمالية. وكتب فيما بعد زعيم الشيوعيين الفرنسيين موريس توريز:

"إن حملة الكذب والافتراء المسعورة لم تؤثر تأثيرًا جديًا على عمال فرنسا. حتى ان أكثر المتخلفين فيهم كانوا يدركون في غير وضوح أن في روسيا تقوم جمهوريتهم، وأن القضية التي يكافح العمال الروس من أجلها في بسالة ويستهدون في سبيلها- قضيتهم، قضية عامة لكادحي البلاد".

ومن المهم أن نذكر بهذه المناسبة بأن أول مرسوم للثورة كان مرسوم لينين للسلام، حيث أثبتت الثورة الاشتراكية بأنه من الممكن إنهاء الحرب، أي حرب كلية وتماما، وتحت تأثير أكتوبر انتشرت في كثير من البلاد، حركة جماهيرية تبغي إنهاء الحرب فورًا. وهكذا قامت في برلين وفيينا وباريس ولندن وبودابست مظاهرات جماهيرية واسعة مطالبة بإنهاء الحرب وعقد صلح على أساس الشروط التي عرضتها روسيا السوفييتية. وفي كانون الثاني عام 1918 وحده شارك ما يقارب من مليون عامل ألماني في الإضراب السياسي مطالبين بإنهاء الحرب.
من الصعب المغالاة في تقدير تأثير ثورة أكتوبر على مصائر شعوب الشرقين الأدنى والأوسط. فقد تراجعت الحكومة السوفييتية نهائيًا عن كل الاتفاقيات والصفقات التي عقدتها الحكومة القيصرية والموجهة ضد مصالح تركيا. وعبر الكادحون الأتراك عن تعاطفهم الشديد مع الشعب الروسي الذي أقام السلطة السوفييتية، ومع زعيم الثورة الروسية والبروليتاريا العالمية لينين. وكانت الواقعة التالية ذات دلالة عميقة عند مناقشة موضوع منح جائزة نوبل عام 1918 في جامعة القسطنطينية، حيث اتخذ قرار بمنحها إلى لينين.

وغدت الدولة السوفييتية الفتية قريبة وعزيزة بنفس الدرجة لدى شعوب الشرق العربي، وخاصةً بعد الكشف عن اتفاقية سايكس بيكو الذي قسم الشرق العربي، بعد انهيار الامبراطورية العثمانية إلى دويلات يحكمها انتداب بريطاني وفرنسي. وجاء في إحدى وثائق "لجنة وحدة العرب" التي شكلت في سوريا، ما يلي: "إن العرب يعتبرون حكومة لينين ورفاقه وثورتهم العظيمة لتحرير الشرق من نير الطغاة الأوروبيين، قوة عظيمة قادرة على منحهم السعادة والرفاهية. إن سعادة واستقرار كل العالم يتوقف على التحالف بين العرب والبلاشفة. وأعطت ثورة أكتوبر دفعة قوية لتطور النضال التحرري في مصر وسوريا والعراق ولبنان وفلسطين. وفتحت ثورة أكتوبر صفحة جديدة في تاريخ شعوب الشرق بأجمعه فقد وضعت بداية نهاية النظام الاستعماري، وفتحت عصرًا جديدًا عصر الثورات التحررية الوطنية في البلدان المستعمرة".

ولكن بسبب العديد من الظروف الموضوعية، مثل تأثير الأحزاب الاشتراكية الإصلاحية على الوعي الجماعي للجماهير الشعبية، تلك الأحزاب التي خانت الحركة الثورية في أوروبا الغربية وعدم وجود أحزاب ماركسية ثورية حقيقية وانقسام صفوف الطبقة العاملة، وغيرها من الأسباب الموضوعية لم تستطع القوى الثورية في الدول البرجوازية تحقيق النصر في تلك الفترة، وخاصة في المانيا وفرنسا. غير أن النضالات الثورية التي نشبت في جميع أنحاء العالم، لم تنته دون أن تترك أثرها الكبير والواسع على وعي الجماهير الشعبية. فمن خلال تجربة ثورة أكتوبر اكتسبت الشعوب في شتى أنحاء العالم خبرة النضال السياسي الطبقي. وفي ظل الحركة العمالية الصاعدة ظهرت في كثير من البلدان أحزاب شيوعية أضحت أكثر المناضلين ضد الامبريالية ثباتا وصلابة، منها الحزب الشيوعي في فلسطين.

وكانت ثورة أكتوبر وموقف كادحي العالم منها نموذجا للأممية البروليتارية، كم نحن بحاجة اليه اليوم.

ولقد أجبرت ثورة أكتوبر البرجوازية العالمية من تقديم بعض التنازلات للطبقة العاملة خوفًا من تأثير الثورة وكما هو معروف لم يكن هناك قبل ثورة أكتوبر في العالم الرأسمالي، لا تأمين اجتماعي ولا ساعات عمل محدودة بأربعين ساعة في الأسبوع، ولا غير ذلك من المكتسبات. ويقول الكاتب الأمريكي ثيودور درايزر، ان تحديد ساعات العمل الأسبوعي بأربعين ساعة وتطبيق حد أدنى للأجور، وإعانة حكومية للبطالة وغيرها من الإصلاحات التي تمت لصالح الكادحين في الولايات المتحدة وبلدان أخرى، قد فرضت تحت تأثير الدولة السوفييتية.

وكتب يقول: "إن المذنب في ذلك هو ثورة أكتوبر، ومن أجل ذلك أشكر ماركس وروسيا الحمراء".

إن ثورة أكتوبر وما أحدثته من تأثير على المستوى العالمي، يجعلنا نؤكد بأن هذه الثورة أحدثت انقلابًا في إدراك ووعي البشرية جمعاء وأسفرت مكتسبات الثورة، وظهور مفاهيم تقدمية مثل العدالة الاجتماعية، وحق الإنسان في العمل والتعليم والصحة والراحة والتأمين في حالة الشيخوخة مفاهيم إنسانية عامة تكافح من أجلها كل شعوب العالم.

ولذلك لن تنسى البشرية أبدًا وخاصةً الطبقة العاملة وحلفاءها، يوم 25 أكتوبر 1917 الذي كان نقطة انعطاف في تاريخ العالم. وكما كتب ماركس بأن تجربة بناء الاشتراكية قد تفشل مرة ومرتين وأكثر، ولكن في النهاية ستنتصر الثورة الاشتراكية لأنها التطور الموضوعي للتاريخ الإنساني.



مراجع

عشرة أيام هزت العالم – جون ريد.

مقالات وخطابات لمناسبة ثورة أكتوبر – لينين.

تاريخ ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى – إصدار دار التقدم موسكو- رئيس هيئة التحرير- سوبوليف.