أفريقيا: دبلوماسية إسرائيلية موازية مزدهرة


ماهر الشريف
2021 / 11 / 5 - 10:08     

مجلة "جون أفريك" الفرنسية هي من أبرز المجلات التي تُعنى بالشؤون الأفريقية، وقد أسسها في سنة 1960 الصحافي التونسي البشير بن يحمد، الذي توفي قبل أشهر بعد أن أقنعه أصدقاؤه بكتابة مذكراته التي ستصدر خلال أيام في العاصمة الفرنسية، والتي يتناول فيها، بوجه خاص، علاقاته مع الحبيب بورقيبة، وباتريس لومومبا وتشي غيفارا.

وفي عددها لشهر تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، نشرت مجلة "جون أفريك" ملفاً موسعاً عن الشركات ورجال الأعمال والمستشارين الإسرائيليين الذين يستفيدون من انضمامهم إلى حلقات الأوساط المحلية الحاكمة في الدول الأفريقية كي يخدموا بصورة غير مباشرة مصالح إسرائيل، في إطار دبلوماسية موازية مزدهرة.

ففي مقال افتتاحي أعده فانسان دوهيم، أشير إلى أنه في مطلع شهر تشرين الأول/أكتوبر الفائت قام وفد عسكري سوداني، ضم الفريق أول ميرغني إدريس سليمان، المدير العام لقطاع الصناعات الدفاعية، بزيارة غير معلنة إلى إسرائيل التقى خلالها مع وفد عسكري إسرائيلي، وهو ما أثار سجالاً في السودان وفي دول أفريقية أخرى، نظراً لأن التقارب مع إسرائيل وتطبيع العلاقات معها لا يمران من دون سجال في دول القارة. ويتابع الكاتب أنه إذا كانت إسرائيل قد افتتحت أول سفارة لها في القارة الأفريقية في سنة 1957 في غانا، فإن علاقاتها مع القارة الأفريقية شهدت تطوراً ملحوظاً في السنوات العشر الأخيرة، بدفع من رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو (2009-2020)، الذي حقق نجاحات مهمة على مستوى ضمان اعتراف معظم البلدان الأفريقية تقريباً بدولة إسرائيل، التي تأمل حالياً، بعد أن أقامت علاقات دبلوماسية مع المملكة المغربية، في تطبيع علاقاتها مع بقية دول المغرب العربي، كما تطمح إلى إقامة علاقات دبلوماسية مع التشاد، بعد أن أجرت اتصالات مع رئيسها الراحل إدريس ديبي اتنو، وكذلك مع النيجر وموريتانيا.

ولكن وراء علاقات إسرائيل الدبلوماسية بدول القارة، هناك، كما يلاحظ الكاتب نفسه، دبلوماسية موازية يديرها رجال أعمال ومستشارون وشركات ينشطون في القارة الأفريقية منذ فترة طويلة ويخدمون بصورة غير مباشرة مصالح دولتهم الإسرائيلية في مجالات تشمل الاتصالات، والتنصت، والرقابة الإلكترونية، والأمن السيبراني والتسلح. ومن أشهر هذه الشركات NSO التي صنّعت نظام التنصت بيغاسوس، وشركة Systems Vernit ، المختصة بالتنصت وبمراقبة شبكات الاتصال، وشركة Mer Group، التي تنشط في الكونغو، وغينيا، ونيجيريا، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وشركة Elbit Systems، التي تنشط في أفريقيا الجنوبية، وأنغولا، وأثيوبيا ونيجيريا. وتتمتع هذه الشركات بعلاقات وثيقة مع جيوش هذه الدول وأجهزة الاستخبارات فيها، وقد أنشأ عدداً منها ضباط سابقون في وحدة 8200 التابعة للجيش الإسرائيلي والمتخصصة في الحرب السيبرانية، مثل شبتاي شافيت المدير العام لشركة Athena GS3 المتفرعة عن شركة Mer Group الذي ترأس جهاز الموساد ما بين 1989 و 1996، وتملك معرفة جيدة بالقارة لكونه طوّر علاقات جهازه مع زائير، في عهد موبوتو سيسي سيكو، ثم مع الكاميرون. أما شركة Verint فيديرها الضابط السابق في الجيش الإسرائيلي دان بودنر. وبحسب مختص بالصناعة السيبرانية في القارة، فإن "بعض هذه الشركات أُنشئت في القارة في البدء بغية تطوير مشاريع مرتبطة بالزراعة، وذلك قبل أن تقوم بتنويع نشاطاتها لتشمل مجالات الأمن بعد أن طلبت منها سلطات الدول الأفريقية ذلك". ويحاول عدد منها التستر على علاقاته بإسرائيل كي يتمكن من دخول أسواق دول أفريقية لم تطبّع بعد علاقاتها معها.

ويكتب موفد المجلة إلى الكاميرون ماتيو أوليفييه عن النشاط الذي يقوم به "رجال الظل" الإسرائيليون هؤلاء في هذا البلد، حيث نجحوا في أن يكونوا ركناً رئيسياً لنظام الأمن الكاميروني، وفي السيطرة على جوانب مهمة من اقتصاد البلد بفضل الدعم السياسي الذي يتلقونه من الأوساط الحاكمة. وكانت العلاقات بين إسرائيل والكاميرون قد شهدت تطوراً ملحوظاً بعد فشل الانقلاب الذي استهدف، في سنة 1984، حكم بول بيا، الذي اعتمد على الإسرائيليين لإصلاح جهاز استخباراته وأراد التحرر من سطوة الفرنسيين، القريبين من سلفه أحمدو أهيجو، على بلاده.

وفي تحقيق آخر كتبه موفد المجلة نفسه، تم استعراض النفوذ التاريخي الذي تتمتع به إسرائيل في ساحل العاجل، حيث ينشط عدد كبير من شركات الاتصالات والتنصت والأمن السيبراني الإسرائيلية. وكانت العلاقات بين الدولتين قد راحت تتطوّر منذ سنة 1962، عندما قام فيليكس أوفوي-بوانيي، أول رئيس لدولة ساحل العاج، من 1960 وحتى وفاته في سنة 1993، بزيارة إسرائيل وأقام صلات وثيقة مع رئيس وزرائها آنذاك دافيد بن غوريون ووزيرة خارجيته غولدا مايير. وكان فيليكس أوفوي-بوانيي آخر رئيس أفريقي يقطع علاقات بلاده مع إسرائيل بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 العربية -الإسرائيلية، ومن أوائل من استأنفها في سنة 1985 إلى جانب رئيسي زائير والكاميرون.

وفي خريف سنة 2002، ورداً على التمرد العسكري الذي واجهه، طلب رئيس الدولة الجديد لوران غباغبو مساعدة عسكرية إسرائيلية، وحصل وزير دفاعه آنذاك على نظام اتصالات متطور وعلى مسيّرتين، كما أرسلت إسرائيل نحو خمسين من مستشاريها العسكريين المختصين بالتنصت الهاتفي، فضلاً عن عدد من المختصين في الاستخبارات العسكرية وفي التجسس لإعداد كوادر محلية. وكانت ساحل العاج قد أصبحت، إلى جانب توغو، مركز نشاط لرجال الأعمال الإسرائيليين المهتمين بالاستثمار في غرب أفريقيا. وقد حصل هذا التوجه على تشجيع رئيس البلد الجديد الحسن واتارا الذي قام في حزيران/يونيو 2021 بزيارة إسرائيل، وأقام شيئاً فشيئاً شبكاته الخاصة. وخلال ولاية هذا الرئيس الأولى التي بدأت في مطلع سنة 2011، راحت شركة NSO ، التي صنّعت فيما بعد نظام التنصت بيغاسوس، تنشط في العاصمة الاقتصادية للبلد، وكانت قد سبقتها إلى ذلك شركة Verint . بيد أن شركة NSO نجحت بصورة تدريجية في تجهيز أجهزة ساحل العاج الدفاعية والأمنية، بحيث صار مستشاروها يسيطرون فعلياً على نظام الاعتراض والرقابة. وهو ما تحقق على حساب الشركات الفرنسية التي شعرت بأن الشركات الإسرائيلية قد خانتها. ويعزو أحد الخبراء هذا التفوق الإسرائيلي إلى حقيقة أن الشركات الكبرى الفرنسية تخضع، منذ حزيران/يونيو 2017، لقوانين معينة حول الشفافية ومكافحة الفساد، تفرض عليها غرامات باهظة في حال قيامها بانتهاك هذه القوانين، وهو ما لا تخضع له الشركات الإسرائيلية.

ويتطرق موفد مجلة "جون أفريك" أخيراً إلى التعاون الخفي القائم بين هذه الشركات وبين جهاز الموساد الإسرائيلي، خصوصاً وأن معظم موظفيها خدم سابقاً في الجيش. ووفقاً للمعلومات التي استقاها من بعض مصادره، "فإن الاهتمام الإسرائيلي ينصب على الجالية اللبنانية في أبيدجان"، حيث يُشك بأن بعض أفراد هذه الجالية يساهم في تمويل حزب الله، وتجري على هذا الأساس مراقبة قطاع المطاعم الكبرى، وشركات إنتاج الموز والكاكاو والكاتشوك التي يمتلكها لبنانيون.