حول المجتمع الطبقي والدولة


خليل اندراوس
2021 / 10 / 29 - 21:59     


في عصرنا الحاضر تكتسب مسألة الدولة أهمية خاصة من الناحيتين النظرية والعلمية السياسية. فالحروب الاستعمارية عالمية كانت أو محلية كاحتلال العراق وأفغانستان عجلت وشددت إلى أقصى حد سير تحول الرأسمالية الاحتكارية إلى رأسمالية احتكارات الدولة وحولت مفهوم الديمقراطية للدولة البرجوازية إلى "ديمقراطية" فاشية، وأكبر مثل على ذلك الولايات المتحدة الأمريكية التي تحول حلمها – أي الحلم الأمريكي للهيمنة والسيطرة على العالم – إلى كابوس العالم. ومشروع القرن الأمريكي الجديد للمحافظين الجدد من الجمهوريين التواقين على نحو مسعور إلى إطلاق موجة جديدة ومحمومة من النزعة الامبريالية الامريكية أكبر مثل على هذا الكابوس الأمريكي، والحزب الديمقراطي الممثل الآخر لطبقة رأس المال ليس أكثر لُطفًا أو أكثر إنسانية، وسياسات بايدن هي سياسات ترامب ولكن بقناع آخر. فالذي تغير في الولايات المتحدة هو تغير القناع وليس الوجه. فالوجه الحقيقي للولايات المتحدة هو وجه العدوان المتوحش وكابوس الإنسانية، والتغيير الذي جرى في الولايات المتحدة هو في الأسلوب وليس في الجوهر.

إن الحروب المحلية التي تخوضها الامبريالية العالمية والصهيونية العالمية وربيبة الامبريالية العالمية إسرائيل أدت إلى أهوال ونكبات منقطعة النظير وأكبر مثل على ذلك احتلال أفغانستان والعراق ومؤامرة تقسيم سوريا والحرب على اليمن، ومؤامرة تمزيق ليبيا، ومحاولة إيقاع لبنان في كارثة حرب أهلية وبرأي كاتب هذه السطور هذه المؤامرة ستفشل، أي الحرب الأهلية في لبنان، بفضل الموقف الوطني الرادع والمقاوم والصامد لحزب ألله.

ان الدولة الامبريالية الغربية وخاصة الولايات المتحدة تستعبد منذ زمن طويل جملة من الشعوب الصغيرة والضعيفة وخاصة في منطقة الشرق الأوسط وغرب آسيا وخاصة الأمة العربية من خلال الدول العربية الرجعية وخاصة السعودية ودول الخليج العربي لا بل الأمريكي والتي تحكمها أي تحكم هذه الدول، طبقة رأس المال الكومبرادوري الوسيط التي تخدم طبقة رأس المال الاحتكاري العالمي، وأكبر مثل على ذلك دولة الامارات التي تحولت إلى "مستوطنة" اسرائيلية منذ عام 1971، عام تخلصها من الهيمنة البريطانية المباشرة وتحولها إلى مستوطنة تهيمن عليها الصهيونية العالمية. والنضال من أجل تحرير الشعوب وتحرير الطبقة العاملة من نفوذ وهيمنة وسيطرة طبقة رأس المال العالمي والكومبرادوري - الوسيط يستحيل بدون النضال ضد الأوهام الانتهازية بصدد "الدولة".

فمسألة موقف الطبقة العاملة والشعوب المضطهدة من الدولة لا تكتسب أهمية سياسية عملية وحسب، بل تغدو مسألة ملحة من مسائل الساعة، باعتبارها مسألة تبيان ما ينبغي للجماهير الشعبية المضطهدة والطبقة العاملة أن تفعل في المستقبل القريب والبعيد للخلاص من هيمنة وسيطرة طبقة رأس المال العالمي والصهيوني والكومبرادوري الوسيط – الثالوث الدنس.

يقول انجلس ملخصًا نتائج تحليله التاريخي عن الدولة ما يلي: "الدولة ليست بحال قوة مفروضة على المجتمع من خارجه. والدولة ليست كذلك "واقعية الفكرة الأخلاقية"، "صورة وواقعية العقل" كما يدعي هيغل. الدولة هي منتوج المجتمع عند درجة معينة من تطوره، انها افصاح عن واقع أن هذا المجتمع قد وقع في تناقضات مع ذاته لا يمكنه حلها، عن واقع أن هذا المجتمع قد انقسم إلى متضادات مستعصية هو عاجز عن الخلاص منها. ولكيلا تقوم هذه المتضادات، هذه الطبقات ذات المصالح الاقتصادية المتنافرة، بالتهام بعضها بعضا والمجتمع في نضال عقيم، لهذا اقتضى الأمر قوة تقف في الظاهر فوق المجتمع، قوة تلطف الاصطدام وتبقيه ضمن حدود "النظام". ان هذه القوة المنبثقة عن المجتمع والتي تضع نفسها فوقه وتنفصل عنه أكثر فأكثر هي الدولة. (كتاب أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة ص 177 – 178). وكما كتب لينين: "في هذه الفقرة قد أعرب (أي انجلز. د. خ) بأتم الوضوح عن الفكرة الأساسية التي تنطلق منها الماركسية في مسألة دور الدولة التاريخي ومعناها. فالدولة هي منتوج ومظهر التناقضات الطبقية المستعصية. تنشأ الدولة حيث وعندما وبمقدار ما تكون التناقضات الطبقية موضوعيا في حال لا يمكن من التوفيق بينها. وبالعكس فإن وجود الدولة يبرهن ان التناقضات الطبقية لا يمكن التوفيق بينها".

ويضيف لينين ويقول: "برأي ماركس، الدولة هي هيئة للسيادة الطبقية، هيئة لظلم طبقة من قبل طبقة أخرى، هي تكوين "نظام" يمسح هذا الظلم بمسحه القانون ويوطده، ملطفا اصطدام الطبقات. وبرأي الساسة صغار البرجوازيين، النظام هو بالضبط التوفيق بين الطبقات، لا ظلم طبقة لطبقة أخرى، وتلطيف الاصطدام يعني التوفيق، لا حرمان الطبقات المظلومة من بعض وسائل وطرق النضال من أجل اسقاط الظالمين" (لينين الدولة والثورة ص- 9).

ويضيف لينين ويقول: "إن الدولة هي هيئة لسيادة طبقة معينة لا يمكن التوفيق بينها وبين قطبها المضاد (الطبقة المضادة لها)، وهذا ما لا تستطيع الديمقراطية البرجوازية الصغيرة فهمه بحال. والموقف الذي يقفه من الدولة الاشتراكيون الثوريون والمناشفة عندنا، هو دليل من أوضح الأدلة على انهم ليسوا باشتراكيين قط (الأمر الذي كنا نحن البلاشفة نبرهنه على الدوام)، بل هم ديمقراطيون صغار برجوازيين ذوو عبارات تكاد تكون اشتراكية" (لينين- الدولة والثورة ص- 10).

ويضيف لينين واصفا سلطة طبقة رأس المال في الجمهورية الديمقراطية البرجوازية الرأسمالية والتي تحولت إلى ديمقراطية فاشية في عصرنا الحاضر ومثل على ذلك الولايات المتحدة وإسرائيل: "ان سلطة "الثورة" هي أضمن في الجمهورية الديمقراطية لأنها لا تتوقف على غلاف الرأسمالية السياسي الرديء. فالجمهورية الديمقراطية هي أحسن غلاف سياسي ممكن للرأسمالية، ولذا فرأس المال، اذ يستولي على هذا الغلاف الأفضل (عن طريق بالتشينسكي وتشيرنوف وتسيريتيلي ومن لف لفهم) يقيم سلطنة على أساس مكين، على أساس مضمون لحد لا يمكن معه لأي تبديل في الأشخاص والمؤسسات والأحزاب في الجمهورية البرجوازية الديمقراطية (والتي تحولت في عصرنا إلى ديمقراطية فاشية –د. خ) أن يزعزع هذه السلطة".

وهنا علينا أن نذكر بأن انجلز وصف بصورة قاطعة حق الانتخاب العام في الدولة البرجوازية بأنه أداة لسيادة البرجوازية. فقد قال انجلز أخذنا بعين الاعتبار بصورة جلية الخبرة التي اكتسبتها الاشتراكية الديمقراطية الألمانية خلال وقت طويل أن حق الانتخاب العام هو "دليل نضج الطبقة العاملة. ولا يمكنه قط أن يكون ولن يكون أكثر من ذلك في الدولة الراهنة". ويعطي انجلز في أوسع مؤلفاته "أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة" تلخيص نظراته العامة بالنسبة للدولة بالعبارات التالية: "وهكذا فالدولة لم توجد منذ الأزل. فقد وجدت مجتمعات كانت في غنى عن الدولة لم يكن لها أية فكرة عن الدولة وسلطة الدولة، وعندما بلغ التطور الاقتصادي درجة فرضت بالضرورة انقسام المجتمع إلى طبقات، غدت الدولة بحكم هذا الانقسام أمرًا ضروريًا. ونحن نقترب الآن بخطوات سريعة من درجة في تطور الإنتاج لا يكف عندها وجود هذه الطبقات عن أن يكون ضرورة وحسب، بل ويصبح عائقًا مباشرا للإنتاج". تزول الطبقات بالضرورة كما نشأت في الماضي بالضرورة. ومع زوال الطبقات تزول الدولة بالضرورة.

والمجتمع الذي ينظم الإنتاج تنظيما جديدا على أساس اتحاد المنتجين بحرية وعلى قدم المساواة، ويرسل ماكينة الدولة بأكملها إلى حيث ينبغي أن تكون: إلى متحف العاديات بجانب "المغزل البدائي والقدوم البرونزي" كلمات انجلس عن اضمحلال الدولة معروفة جدا حيث يقول: " تأخذ البروليتاريا سلطة الدولة وتحول وسائل الإنتاج في بادئ الأمر إلى ملك للدولة. ولكنها تقضي بذلك على كل الخلافات الطبقية وجميع التناقضات الطبقية وعلى الدولة في الوقت نفسه بوصفها دولة".

إن المجتمع الذي وجد ولا يزال والذي يتحرك ضمن التناقضات الطبقية كان بحاجة إلى الدولة أي إلى منظمة للطبقة المستثمرة للإبقاء على ظروف انتاجها الخارجية، وإذن بوجه خاص لتبقي الطبقة المستثمرة قسرا في ظروف الظلم الناجمة عن طريقة الإنتاج القائمة (عبودية، قنانة، عمل مأجور).

لقد كانت الدولة الممثل الرسمي للمجتمع بأكمله، تمركزه في جسم منظور، ولكنها لم تكن كذلك إلا بمقدار ما كانت دولة تلك الطبقة التي تمثل في عصرها منفردة المجتمع بأكمله: في العصور القديمة كانت دولة ملاكي العبيد – مواطني الدولة وفي القرون الوسطى كانت دولة الأعيان الاقطاعيين وهي في زمننا دولة البرجوازية. وفي نهاية الأمر، عندما تصبح الدولة حقا ممثل المجتمع بأكمله، عندئذ تجعل نفسها بنفسها أمرًا لا لزوم له. ومذ لا تبقى أية طبقة اجتماعية ينبغي ابقاءها في الظلم، ومذ تزول مع السيطرة الطبقية والصراع في سبيل البقاء الفردي، هذا الصراع الناجم عن الفوضى الراهنة في الإنتاج، وتلك الاصطدامات وأعمال الشطط (التطرف) الناتجة عن هذا الصراع، لا يعد هناك ما ينبغي قمعه، لا تبقى ضرورة لقوة خاصة للقمع، للدولة وأول ما تبرز فيه الدولة حقا بوصفها ممثل المجتمع بأكمله- تملك وسائل الإنتاج باسم المجتمع – هو في الوقت نفسه آخر عمل تقوم به بوصفها دولة. وعندئذ يصبح تدخل الدولة في العلاقات الاجتماعية أمرا لا لزوم له في ميدان بعد آخر ويخبو من نفسه. وبدلا من حكم الناس ينشأ توجيه الأمور وإدارته سير الإنتاج. الدولة لا "تلغى" انها تضمحل. وعلى هذا الأساس ينبغي أن ينظر لعبارة "الدولة الشعبية الحرة".

هذه العبارة التي كان لها حق البقاء بعض الوقت للدعاية وان كانت باطلة في النهاية من جهة النظر العلمية. وعلى هذا الأساس أيضا ينبغي أن ينظر لمطلب من يسمون بالفوضويين الذين يريدون الغاء الدولة بين عشية وضحاها". ("ضد دوهرينج" "السيد أوجين دوهرينج يقلب العلم" ص 301-303 الطبقة الألمانية الثالثة).

وتعليقا على ما قاله انجلس كتب لينين يقول: "هنا يتحدث انجلس في الواقع عن "قضاء" الثورة البروليتارية على دولة البرجوازية، في حين ان ما قاله عن الاضمحلال يخص بقايا الدولة البروليتارية بعد الثورة الاشتراكية. الدولة البرجوازية لا "تضمحل" برأي انجلس، ولكن تقضي عليها الثورة البروليتارية. تضمحل بعد هذه الثورة الدولة البروليتارية أو شبه الدولة" (لينين الدولة والثورة ص 23).

ويستمر لينين ويقول: "ان ابدال الدولة البرجوازية بدولة بروليتارية لا يمكن بدون ثورة عنيفة. والقضاء على الدولة البروليتارية، أي على كل دولة لا يمكن عن غير طريق "الاضمحلال". (لينين الدولة والثورة ص 28). وهنا لا بد وأن نذكر بأن كتابي "بؤس الفلسفة" و"البيان الشيوعي" هما بواكير الفلسفة الماركسية الناضجة حيث نجد فيهما إلى جانب بسط الأسس العامة للماركسية، انعكاسا للحالة الثورية عشية ثورة سنة 1848 في فرنسا.

قال ماركس في كتاب "بؤس الفلسفة": "في مجرى التطور تقيم الطبقة العاملة في مكان المجتمع البرجوازي القديم مجتمعا لا مكان فيه للطبقات وتضادها، تنعدم فيه كل سلطة سياسية بمعنى الكلمة الخاص، ما دامت السلطة السياسية هي الإفصاح الرسمي عن تضاد الطبقات في المجتمع البرجوازي"، وفي البيان الشيوعي نجد العرض المجمل لفكرة زوال الدولة بعد القضاء على الطبقات حيث كتب ماركس وانجلز ما يلي: "عندما رسمنا الخطوط الكبرى لمراحل تطور البروليتاريا وصفنا الحرب الأهلية المستترة لهذا الحد أو ذاك والتي تعمل في المجتمع حتى الساعة التي تتحول فيها إلى ثورة مكشوفة وتؤسس فيها البروليتاريا سيادتها عن طريق اسقاط البرجوازية بالعنف"... "رأينا فيما تقدم أن الخطوة الأولى في الثورة العمالية هي تحول (حرفيا: دفع) "البروليتاريا إلى سائدة، هي اكتساب الديمقراطية".

"تستفيد البروليتاريا من سيادتها السياسية لكيما تنتزع بالتدريج من البرجوازية كامل رأس المال وتمركز جميع أدوات الإنتاج في أيدي الدولة، أي في أيدي البروليتاريا المنظمة بوصفها طبقة سائدة ولكيما تزيد بأسرع ما يمكن مجمل القوى المنتجة" (ص 31 و37 من الطبعة الألمانية السابعة لسنة 1906).

وكما كتب لينين: "نرى هنا صيغة لفكرة من أروع وأهم الفكر الماركسي في مسألة الدولة، أي فكرة "الديكتاتورية البروليتارية" (كما غدا ماركس وانجلز يقولان بعد كومونة باريس)، ومن ثم تعريفا للدولة في منتهى الأهمية هو أيضا في عداد "ما نسي من كلمات" الماركسية. "الدولة، أي البروليتاريا المنظمة بوصفها طبقة سائدة" (لينين كتاب الدولة والثورة ص 30).

ويضيف لينين ويقول: "إن تعريف الدولة هذا عدا انه لم يشرح قط في أدب الدعوة والدعاية المسيطر في الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الرسمية قد نسي، فضلا عن ذلك، بالضبط لأن التوفيق بينه وبين الإصلاحية لا يمكن بوجه، فهو شوكة في عين الأوهام الانتهازية المعتادة والتصورات البرجوازية الصغيرة القائلة بـ "بتطور الديمقراطية السلمي".

وما يجري في عالمنا المعاصر من تحول ما يسمى "بالديمقراطية" البرجوازية إلى "ديمقراطية" عنصرية شوفينية عدوانية لا بل وحتى فاشية تخوض الحروب المحلية وحتى العالمية وتعمق الصراع الطبقي لهو أكبر دليل على فشل الفكر "الإصلاحي" البرجوازي الصغير والحل الوحيد للخروج من هذا المأزق الإنساني العالمي هو الثورة البروليتارية، وتحول الطبقة العاملة إلى طبقة سائدة في دول رأس المال العالمي الامبريالي، في أيدي الدولة أي في أيدي البروليتارية المنظمة بوصفها طبقة سائدة، ولكيما تحول مجمل القوى المنتجة لخدمة وتطور الشعوب، والقضاء على احتكارات صناعة الأسلحة، وبناء عالم خال من الأسلحة النووية، واحقاق شعار سلام الشعوب بحق الشعوب وبناء مملكة الحرية على الأرض، مجتمع المستقبل.

المراجع:

لينين- الدولة والثورة
ماركس وانجلز – بؤس الفلسفة والبيان الشيوعي
انجلز- ضد دوهرنج