«وقائع انقلاب مُعلَن» في السودان


جلبير الأشقر
2021 / 10 / 27 - 10:55     


«وقائع موت معلن» (أو «قصة موت معلن» بترجمة أخرى) هو عنوان رواية الكاتب الكولومبي الشهير غابرييل غارسيا ماركيز. والرواية تدور حول اغتيال كان مرتكِباه قد جهرا بنيّتهما تنفيذه، لكن أحداً لم يتخذ التدابير الكفيلة بمنعهما من ارتكابه. ويمكننا وصف الانقلاب الذي نفّذته القوات المسلحة السودانية قبل طلوع الفجر صبيحة يوم الإثنين الماضي بالانقلاب المعلن لكثرة الأدلة على قرب تنفيذه. فقد انجلت الأدلة ليس في الأحداث التي تسارعت خلال الأيام العشرة الأخيرة من تظاهرات دبّرها العسكر ودُماهم السياسية وتظاهرات مضادة قامت بها الحركة الشعبية السودانية، ليس في هذه الأحداث المستجدة وحسب، بل في ما أسميناه على هذه الصفحات قبل أكثر من ثمانية أشهر «استراتيجية التوتّر» وهي الاستراتيجية التي اعتمدها العسكر بشكل سافر تمهيداً لانقلابهم، وكأنهم يجهرون بنيّتهم على تنفيذه.
ختم المقال تأكيدٌ على الخطر المحدق الذي بات مرئياً لكل من أبى أن يغمّض عينيه وينام على حرير «التفكير الرَغبي» مثلما فعلت الأطراف المدنية المشاركة في الحكم الانتقالي وهي توهِم نفسها بأن العسكر سوف يسلّمونها مزيداً من مقاليد السلطة الفعلية (نخال أن أحداً لم تصل به الأوهام إلى حدّ اعتقاد أن العسكر سوف يسلّمون المدنيين كامل السلطات!). فخلص المقال إلى التحذير التالي: «لقد أصبح جلياً أن حالة ازدواجية السلطة التي نشأت عن الانتفاضة قبل عامين قد انتهت ورجحت كفّة القوات المسلّحة بصورة متزايدة خلال العام المنصرم، الأمر الذي يحتّم على قوى الثورة الحيّة أن تتهيأ لمواجهة قادمة محتّمة، سوف يتوقف عليها مصير الثورة السودانية بين خنقها من قبل القيادة العسكرية وبين مواصلتها بتجذّرها». (««استراتيجية التوتّر» في السودان» «القدس العربي» 16/2/2021).
وذكّرنا في المقال ذاته، وللمرة الثانية في صدد السودان، بالقول الشهير لأحد قادة الثورة الفرنسية: «إن الذين يقومون بأنصاف الثورات لا يقومون سوى بحفر قبورهم».
والحال أن «الذين يقومون بأنصاف الثورات» وصفٌ ينطبق على أطراف «قوى إعلان الحرية والتغيير» التي راهنت على أن القوات المسلحة سوف تسلك حتى النهاية المسار الانتقالي الذي نصّ عليه «الاتفاق السياسي» الموقّع في 17/7/2019، فيما لم يكن هذا الاتفاق سوى مناورة من طرف القيادة العسكرية، لم تعدُ الغاية منها كسب الوقت إثر إخفاق العسكر في محاولة وأد الثورة السودانية بارتكابهم مجزرة فضّ الاعتصام الشعبي أمام مقرّهم. فبدل أن تتعامل كافة أطراف «قوى الحرية والتغيير» مع «الفترة الانتقالية» مثلما تعامل معها العسكر، أي باعتبارها مساومة مؤقتة والاستعداد للجولة القادمة في الصراع المحتوم مع العسكر على درب إنجاز أول مطالب الثورة، ألا وهو إحلال حكم مدني ديمقراطي محل الاستبداد العسكري، تعاملت غالبية «قوى الحرية والتغيير» مع الاتفاق وكأن القيادة العسكرية التي حكمت البلاد ثلاثين عاماً ولم تُزح عمر البشير سوى للحفاظ على نظامها، ذاك الذي أراد الشعب ولا زال يريد إسقاطه، كأن تلك القيادة استحالت بعون السماء إلى شريك صادق في مسار انتقال ديمقراطي.


ولم تبتلع غالبية «قوى الحرية والتغيير» على مضض ما قام به العسكر من إهانة تلو إهانة (بما فيها التطبيع مع الدولة الصهيونية) وطعن بالاتفاق تلو طعن وحسب، بل سلكت درب تنفيذ إملاءات المؤسسات المالية الدولية المناقضة لمطالب الجماهير المعيشية، التي كانت وقود الثورة الأساسي، وهو ما رغب العسكر أن تقوم به الحكومة شبه المدنية كي تفقد من شعبيتها بما يتيح لهم تحريض الناس ضدها تمهيداً للإطاحة بها.
وهذا بالضبط ما حصل، وقد كان المسار واضحاً وضوح شمس السودان الحارقة. بيد أن الثورة السودانية لم تقتصر على أنصار الأطراف التي شاركت في حكومة عبد الله حمدوك، بل تشكّل عمودها الفقري من «تجمّع المهنيين السودانيين» و«لجان المقاومة» وهي القوى التي قادت الهبّة الشعبية والإضراب العام والعصيان المدني حتى إحباط العملية المضادة للثورة التي دشّنتها مجزرة القيادة العامة.
وقد حثّت قوى الثورة الحيّة على الفور يوم الإثنين إلى تكرار التصدّي في وجه الاعتداء المكرّر، داعية إلى الإضراب والنزول إلى الشوارع والاعتصام والعصيان المدني. وقد أدركت الآن «قوى الحرية والتغيير» ذاتها أن اللعبة انتهت، فدعت هي أيضاً إلى العصيان المدني المفتوح حتى «تنحّي كل أعضاء المجلس العسكري الانتقالي، وتسليم السلطة للحكومة المدنية التي ناضل الشعب وقدّم الشهداء من أجلها». إنها لحظة توحيد الصفوف الشعبية في وجه الانقلاب العسكري، ولا بدّ من أن تستمرّ الانتفاضة إلى حين تحقيق المطلب المذكور الذي ورد في البيان الصادر عن «المجلس المركزي القيادي للحرية والتغيير» يوم الإثنين. أما التوقف في منتصف الطريق هذه المرّة فسيكون كمن يُلدغ من جحر واحد مرّتين، والمرّة الثانية قاتلة.
هذا وثمة فرق عظيم بين انقلاب عبد الفتاح البرهان وانقلابي عبد الفتاح السيسي في مصر قبل ثماني سنوات وقيس سعيّد في تونس قبل ثلاثة أشهر، هو أن هذين الأخيرين جريا على خلفية نقمة شعبية عارمة ضد الحكومة التي تم إسقاطها وأوهام شعبية لا تقل عَرماً في شخصية «المنقذ» بينما أثبت شعب السودان أنه أكثر خبرة من أن يتوّهم بالانقلابات، وهو الذي لقي منها الأمرّين في تاريخ طويل من الانقلابات المتعاقبة. أما مصير الانقلاب المُعلن الراهن، فسوف يتوقف على أمرين: قدرة الحركة الشعبية على شلّ البلاد بصورة مُحكمة ومديدة، وقدرتها على شقّ صفوف القوات المسلحة مثلما جهدت القيادة العسكرية لشقّ صفوفها هي. ولا نبالغ إن قلنا إن مصير السنوات القادمة في السيرورة الثورية طويلة الأمد التي انطلقت في منطقتنا قبل عشر سنوات، إنما يتوقف اليوم على مصير الثورة السودانية.