كيف تعاملت الرأسمالية مع التغير المناخي ؟ بحث في تفاصيل التغير المناخي، الجزء الثاني


توما حميد
2021 / 10 / 25 - 17:26     

يشكل التغير المناخي خطر وجودي على البشرية وعلى عدد هائل من الأنواع الحيوانية والنباتية، ولكي نواجه أخطار التغير المناخي بجدية يجب ان نتحرك الآن؛ لتفادي المزيد من التأخير وتضييع الوقت، ولكن رغم هذا لم تصبح مواجهة التغير المناخي أولوية قصوى للطبقة الحاكمة وحكوماتها. اذ في مواجهة هذا الخطر الوجودي لايزال التحرك من قبل الحكومات البرجوازية بطيء للغاية.
لحد انعقاد قمة غلاسكو في بريطانيا في تشرين الثاني القادم، تعتبر اتفاقية باريس لعام 2015 أفضل اجماع دولي للعمل في هذا المجال لحد الان، اذ تعهد قادة 197 دولة بالحد من انبعاثات غازات الدفيئة في بلدانهم. وتهدف هذه الاتفاقية الى الحد من درجة الحرارة العالمية هذا القرن الى اقل من درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية والى اقل من 1.5 اذ امكن. اذ تنص على تخفيض انبعاثات غازات الدفيئة بنسبة 40% على الأقل بحلول 2030 وبنسبة 80-90% بحلول عام 2050.

ولكن حتى اتفاقية باريس لا تتضمن أي التزامات من شانها ان تبقي الاحتباس الحراري دون درجتين، فهي اتفاقية غير ملزمة وليس لها سلطة تنفيذية، علما ان الزيادة بدرجتين سوف تكون كارثية. ان الخطط الوطنية للحد من انبعاث غازات الدفيئة، التي عرضت في اتفاقية باريس للتغير المناخي لا تساوي نصف ما تم الاتفاق عليه. ولكن حتى إذا تم الوفاء بجميع التعهدات الواردة فيها بشكل كامل، فمن المرجح ان تؤدي الى ارتفاع درجات الحرارة أكثر من درجتين مئويتين وربما حوالي 3-4 درجات.

من السذاجة الاعتقاد بان البرجوازية ستلتزم بالتعهدات التي تقدمها، والتخلي عن أرباح كبيرة على المدى القصير دون الضغط من الأسفل. اذ ازداد تركيز ثاني أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي منذ عقد هذه الاتفاقية بشكل هائل.
نعيد التأكيد، بان فشل الرأسمالية في القيام باي اجراء فعّال من شأنه تقليل انبعاث الغازات هو ليس نابع عن عدم دراية. اذ يحذر العلماء من التغير المناخي على الأقل منذ السبعينيات من القرن العشرين.
لقد قامت شركات الوقود الاحفوري نفسها في السبعينات والثمانينيات بالبحوث في مجال التغير المناخي. ففي 1977 أطلع خبير في شركة اكسون موبايل الإدارة، بان حرق الوقود الاحفوري يتسبب في التغير المناخي وتدمير البيئة. كما اقر تقرير لشركة شيل في 1988 بدور النفط في التغير المناخي. واجتمع علماء من 50 دولة في المؤتمر العالمي الأول للمناخ في جنيف في 1979 وعبروا عن قلقهم من التغير المناخي وعلى ضرورة العمل على وجه السرعة. ومنذ ذلك الحين، أعرب بشكل متزايد الاف العلماء والمنظمات والمؤسسات العلمية والبيئية والاجتماعية عن قلقها إزاء هذا الموضوع.

وبدلا من العمل على تلك النصائح العلمية قامت شركة اكسون موبايل، مثلها مثل الشركات الاخرى بإخفاء تلك الحقائق وشن حملة شعواء ضد أي محاولة للتصدي للتغير المناخي.

قامت شركات الوقود الاحفوري بأنكار التغير المناخي وبتمويل " بحوث علمية" وشراء حفنة من " علماء" من اجل نشر أبحاث تنكر او تشكك في التغير المناخي وبذلك لقد ضللت الجماهير بشأن قضية تغير المناخ وساهمت في خلق تشوش وبالتالي قامت بتبديد عقود للعمل في هذا المجال. لقد انفقت شركات الوقود الاحفوري المليارات للتحكم بالنقاش حول التغير المناخي من خلال تمويل "بحوث علمية" مضللة، ودعم الجماعات اليمينية، وشراء ولاء السياسيين الخ.

اذ انفقت اكسون مثلا بين 1998 و2017 حوالي 36 مليون على المراكز البحثية والمنظمات الأخرى التي روجت لإنكار التغير المناخي في حين تبرعت عائلة "كوك برثرز" ب 123 مليون لنفس المراكز والمنظمات. وتستخدم هذه الشركات اقصى اليمين البرجوازي كقوة ايدولوجية بشكل فعال للتشكيك بالتغير المناخي والإبقاء على الوضع الحالي.

وتقوم شركات الوقود الاحفوري، حتى بكسب تأييد الطبقة العاملة عن طريق التأكيد بان القوانين المتعلقة بحماية المناخ وتقيد استخدام الوقود الاحفوري سوف تشكل تهديد لوظائفهم وسوف تؤدي الى رفع سعر الوقود وتحطيم الاقتصاد وتهديد نمط حياتهم.

وقت تمكنت بالفعل من وضع الطبقة العاملة بالضد من الطبيعة. اذ يعمل في أمريكا مثلا أكثر من مليوني شخص في وظائف متعلقة بالوقود الاحفوري. وقد تمكنت في الكثير من الأحيان من كسب تأييد النقابات العمالية أيضا، باعتبار ان صناعة الوقود الاحفوري هي مصدر للوظائف النقابية الجيدة نسبيا بالمقارنة مع الوظائف الهشة التي تغزو الاقتصاد. وهكذا يجبر العامل الاختيار بين قوت يومه او البيئة.

وتستخدم ورقة القومية بنجاح، اذ يدعون بان تقيد استخدام الوقود الاحفوري، سوف يخل بالسيادة الوطنية والاستقلال " الوطني" في مجال الطاقة. وتدعي بانه لا يمكن القيام بالكثير من العمل لان دول مثل الهند والصين والدول الفقيرة والمتخلفة لا يتحركون في هذا المجال بالشكل المطلوب.

والان حيث أصبح من الصعب انكار او التشكيك بالتغير المناخي، تقوم هذه الشركات بلفت الانتباه بعيدا عن دورها، عن طريق إعطاء انطباع بان عدد السكان او الافراد الذين " لا يقمون بالخيارات الشخصية الصحيحة" هم المشكلة.

كما تقوم شركات الطاقة الأحفورية بحملات كبيرة لتلميع صورتها وإعطاء انطباع بانها تقوم بإجراءات فعلية لمكافحة التغير المناخي. وهي تصرف اموال أكثر على الدعاية لنفسها ولما تقوم به لمكافحة التغير المناخي من الأموال التي تصرف على الإجراءات العملية لمحاربة التغير المناخي. اذ صرفت شركات الوقود الاحفوري 1.4 مليار في أمريكا على الدعايات بين 2008- الى 2017 للترويج لأهمية هذه الشركات في خلق الوظائف، وضمان الطاقة المحلية من كل المصادر الضرورية للاقتصاد الخ. وانفقت برتش بيتروليم لوحدها 200 مليون دولار على الدعاية لنفسها حول الانتقال الى المصادر المتجددة. هذا في الوقت التي لاتزال تلك الشركات تقوم باستثمارات طويلة الأمد في الوقود الاحفوري رغم انها تقول بانها تأمن بالتغيير المناخي.

من جهة أخرى انفقت شركات النفط والغاز والفحم الكبرى بما في ذلك "شيل" و"اكسون" و"بريتش بيتروليم" وغيرها مئات الملايين لشراء دعم الحكومات الغربية لضمان بقاء أرباحها وفي محاولة لإيقاف او تأخير السياسيات الحكومية التي من شأنها ان تساعد في معالجة ازمة المناخ. فهي تقوم بالفعل بشراء الطبقة السياسية.

يقول صندوق النقد الدولي بانه حصلت صناعة الطاقة الأحفورية عالميا على 5.2 ترليون دولار في 2017 وعلى 5.9 ترليون في 2020 على شكل مساعدات حكومية. والارقام هي مشابهة في السنوات الاخرى.

فبدلا من محاسبة شركات الوقود الاحفوري العملاقة التي تستمر في التسبب بتغير المناخ، وفرض ضرائب عليها لمعالجة تأثيرات الكارثة المناخية التي خلقتها، تقوم الحكومات التي وقعت اتفاقية باريس وتتعهد بمحاربة التغير المناخي بتبديد الأموال العامة من اجل دعم تلك الشركات على شكل اعانات حكومية. ومعظم حكومات العالم تصرف على الوقود الاحفوري مبالغ تفوق بكثير ما تنفقه على بدائل الطاقة المتجددة.

وتقوم هذه الشركات الان بفرض واقع بان أي اجراء لمعالجة التغير المناخي يجب ان يكون من خلالها وتقديم آلية السوق والحلول التي تستند على السوق كأفضل وسيلة لمعالجة التغير المناخي، أي الترويج لما يسمى ب "الرأسمالية الخضراء". وهي تروج لفكرة ان بعض التعديلات في طريقة العمل التي تستند على السوق وبعض الاستثمارات التي تتعقب الربح، سوف تحل المشكلة. في وقت تبين بان تغير المناخ هو أكبر دليل على فشل اقتصاد السوق الحر. وتحصل نفس هذه الشركات على مقاعد في المؤتمرات العالمية حول تغير المناخ مما يؤدي الى تمييع المواقف وفتورها.

وتقوم شركات الوقود الاحفوري والبرجوازية بشكل عام، بالتأكيد على الحلول التكنلوجية والحلول الفردية بدلا من تغير هيكلي في عمل شركات الطاقة وعمل الاقتصاد بشكل عام، والترويج لإجراءات تدريجية، لا تضر بنموذج عملها مثل تبني تكنلوجيا خضراء مثل السيارات الكهربائية وتغير المصابيح داخل البيوت وتطوير بضائع وخدمات " خضراء أكثر". ومعظم هذه الحلول في الحقيقة هي ليست جدية في معالجة التغير المناخي وتلفت الانتباه عن المسائل الأساسية الى مسائل ثانوية وتجلب الأرباح.

ان استخدام الوقود الحيوي هو مثال جيد حول الاعتماد على الحلول التكنلوجية. ففي الوقت الذي استخدم هذا الاجراء لإعطاء انطباع بان هذه الشركات هي صديقة للبيئة وتستخدم مصدر أكثر مستدام للطاقة، تتطلب زراعة مزرعة الوقود الحيوي مساحات واسعة وهي تستخدم كميات هائلة من الأسمدة الكيماوية وقد تقوم الشركات بتخفيض مساحة الغابات والتي تساهم في النهاية في تفاقم المشكلة.

وقد نجحت البرجوازية لحد الان في إرجاء النظر بصورة مجدية في التغير المناخي لعدة عقود، وبينما لا تزال، تعمل صناعة الوقود الاحفوري على تأخير العمل الجدي لمواجهة تغير المناخ والانتقال الى الطاقة المتجددة، ترى قطاعات أخرى من الرأسمال بان هناك ربحا يمكن تحقيقه من الصناعات الخضراء، واصبحت اقسام معينة من البرجوازية التي تهدد أرباحها بسبب تأثير تغير المناخ مثل شركات التامين والاعمال التجارية الزراعية أكثر حساسية وتدعوا الى إجراءات فعالة في هذا المجال، بينما تتسارع دقات الساعة للوصول الى نقطة اللاعودة.