انتكاسة الحداثة العربيّة


حسن مدن
2021 / 10 / 25 - 01:27     

ما الذي أدى إلى انتكاس مسار الحداثة المجتمعيّة في العالم العربي كاملاً، لا في بلدان بعينها، إذا ما أخذنا من وضع المرأة من حيث دورها ومكانتها والنظرة إليها معياراً من المعايير الأساسية لقياس مدى رقي المجتمع وتقدمه وعصريته، ومفيد التذكير بمقولة كارل ماركس: "إذا أردت قياس مدى تقدّم مجتمع من المجتمعات فانظر إلى وضع المرأة فيه".

بين الحين والأخير نطالع على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي وسائل الإعلام مقارنات بين الصور كيف كان عليه مظهر طالبات الجامعة في القاهرة وبغداد ودمشق وغيرها من الجامعات العربية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، والمظهر الذي أصبح لطالبات نفس الجامعات ونحن في مطالع العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين ، ما يحملنا على السؤال: كيف عادت النساء القهقرى، لا في المظهر وحده وإنما في التفكير لما كانت جداتهن قد ثرن وتمردن عليه، وضحين في سبيل تجاوزه، متحملات جور مجتمعات محافظة، منغلقة، ومع ذلك أفلحن في أن يدفعن ببنات جنسهن إلى آفاق التقدم، وناصرهن في ذلك رجال متنورون آمنوا بعدالة قضية المرأة.

الحق أن هذا التراجع لا يمكن فصله عن تراجع شامل نال من المجتمعات العربيّة في المفاصل، وأظهر أن الحداثة العربيّة بوغتت بالهجوم المضاد عليها، وهي لما تزل غضة غير مستوية العود، ولم تتوفر لها روافع راسخة، لأن التحديث لم يطل البنى المجتمعيّة والثقافية في عمقها، رغم أهمية ما حققته هذه الحداثة الهشة من مكاسب كان من الممكن البناء عليها، للمضي نحو الأمام بخطوات أوسع وأسرع.

من الظلم إلقاء اللوم في ذلك على المجتمع وحده، لأن المسؤوليّة الأساسيّة في الدفع بمهام التحديث تقع على الحكومات بالدرجة الأولى، والكثير من هذه الحكومات غلّب المصلحة الأنانية في تأبيد أو إطالة مكوثها في السلطة بمعاداة الحداثة وقواها الحيّة، بتحالفات براجماتيّة مع القوى المحافظة، عشائريّة وقبليّة كانت أو طائفيّة مذهبيّة، ومع الإسلام السياسي الذي وجد الساحات مفتوحة له فهيّمن على ما أمكنه أن يهيمن عليه منها.

يمكن القول بشيء من الثقة إن انتكاسة التجربة الناصرية قد أرَّخت لبداية هذا التراجع، بعد هزيمة حزيران 1967، ثم الرحيل المفاجىء لجمال عبدالناصر، والانعاطفة الني جرت في السياسات بعده، قبل أن يأتي حدثان إقليميان على قدر من الخطورة، ساعدا على قلب الأمور عاليها سافلها.

أولهما الحرب في افغانستان، التي ضخت عليها مبالغ هائلة من عائدات النفط الخليجي، فاستقطبت بتشجيع ودعم وتمويل وتسهيل من بعض الأنظمة آلاف الشبان العرب، لا ليموت ويصاب من مات وأصيب منهم فحسب، وإنما ليتشبعوا بالفكر الأصولي، الإرهابي، ويعودوا به إلى أوطانهم، مشاريع مفخخة بكل المعاني، لا بالمعنى العسكري وحده، ثم أدت هيمنة رجال الدين على الثورة الإيرانية عام 1979، وإقصاء القوى العلمانيّة والتقدميّة الإيرانيّة واضطهادها، إلى تأجيج الاستقطاب المذهبي السني – الشيعي في المنطقة، واستدراج الولاءات العربية لأجندات الدول الإقليمية، الإيرانية والتركية على وجه الخصوص.