1848: مدرسة ماركس في الثورة


محمد محروس
2021 / 10 / 24 - 23:07     

ترجمة محمد محروس

بدأت الموجة الثورية عام 1848 بنضال مبهج من أجل الديمقراطية. لكنها سرعان ما انتهت إلى صراعات عنيفة بين العمال والرأسماليين، والليبراليين والاشتراكيين، والثوريين والإصلاحيين. وكان لتلك التجربة تأثيرٌ حاسم في تطور نظرية ماركس للثورة.

“شبح يطارد أوروبا – شبح الشيوعية”. هكذا أعلن ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي، ذلك النص الذي استشرف الموجة الثورية التي اجتاحت أوروبا عام 1848. ومع ذلك، في ختام ذلك النضال العظيم، بدت أوروبا كما كانت من قبل.

لكن على الرغم من هزائمها النهائية -وفي كثير من الحالات بسبب تلك الهزائم- كانت ثورات عام 1848 نواةً مكونةً لتطور نظرية ماركس وإنجلز في التحول الاجتماعي. ورغم كونها غير مألوفة للماركسيين اليوم مثل الثورة الروسية عام 1917، إلا أنها جزءًا مهمًا من التاريخ يجب أن يفهمه الاشتراكيون. إنها توفر السياق الرئيسي عند قراءة كتابات ماركس أثناء وبعد الموجة الثورية. كانت هذه الثورات هي الخلفية لكتابة البيان الشيوعي الشهير لماركس، وأدت هزيمتها بشكل حاسم إلى صياغة نظرية ماركس عن الصراع الطبقي والثورة العمالية.

الظل الطويل للثورة العظيمة
من المستحيل فهم ثورات 1848، ونهج مختلف الأطراف الفاعلة داخلها، دون إدراك بعض معالم العصر الذي جاء قبلها. كانت سنوات القرن السابع عشر، بل وحتى القرن الثامن عشر، أزمنة للثورة الاجتماعية في أوروبا والأمريكتين. ظلت الرأسمالية تنمو في مدن أوروبا القديمة، وفي عدد قليل من البلدان نمت برجوازية قوية بما يكفي لتحدي الطبقة الحاكمة الإقطاعية من أجل حكم الدولة. وكانت الثورة الإنجليزية في القرن السابع عشر بمثابة افتتاح هذه الموجة، ولكن الثورة الفرنسي العظمى 1789 – 1792 هي التي شكَّلت الحدث الأكثر حسمًا وإثارة للرعب للنظام القديم، إذ شهدت إعدام العائلة الملكية على المقصلة وإلغاء امتيازات النبلاء.

باعتبارها ثورة للإطاحة بطبقة أقلية حاكمة لوضع أخرى مكانها، احتوت الثورة الفرنسية على دينامياتٍ متناقضة. سعت البرجوازية الفرنسية، والمثقفون الذين تحدثوا باسمها، إلى الإطاحة بالقيود الإقطاعية الأكثر تخلفًا ومخالفة للعقل، لكنهم كانوا، من أجل ذلك، بحاجة إلى مساعدةٍ من جماهير المدن. على مدار السنوات الثلاث الجذرية من 1789 إلى 1792، دفع ضغط الطبقات الاجتماعية الأفقر بالثورة إلى المزيد والمزيد من النتائج الراديكالية. وفي النهاية، مع ذلك، قُوِّضَت الثورة، وتراجعت المكاسب الأكثر جذرية.

في عام 1848، ورغم مرور ستة عقود، ظلت الثورة العظمى هي المعيار الذي كانت جميع السياسات تُقاس من خلاله. المحافظون يكرهون الثورة. والليبراليون اعتقدوا أن الثورة قد تمادت أكثر مِمَّا يجب. لكن رافدًا آخر من الفكر قد نشأ حول فكرة أن الثورة لم تتماد بما يكفي. كان السلف الأكثر تحديدًا لهذه الأفكار هو جراكوس بابوف وحركته المسماة “مؤامرة الداعين إلى المساواة”، والتي كانت نشطة في منتصف تسعينيات القرن التاسع عشر. أعلن بابوف أن المشكلة لم تكن الملكية الإقطاعية فحسب، بل كانت الملكية الخاصة بشكل عام، وسعى إلى تنظيم الطبقة العاملة وفقراء المدن للنضال من أجل إلغائها. وبعد محاولة فاشلة للتمرد، قُتل بابوف. لكن أفكاره عاشت في الطبقة العاملة في باريس والمثقفين الذين تعاطفوا مع محنتهم -الأفكار التي سيُطلق عليها في النهاية مصطلح الاشتراكية.

الاشتراكية، في ذلك الوقت كما هو الحال الآن، كانت تعني أشياءً كثيرة لكثيرٍ من الناس. عندما دخل ماركس وإنجلز لأول مرة مشهد السياسة الراديكالية في فرنسا، كان هناك العديد من العمال الذين انخرطوا في الفكر الاشتراكي وساهموا فيه من خلال العديد من الأندية العمالية في باريس، ولكن لم يكن هناك وقتئذٍ نظرية اشتراكية تضم الطبقة في جوهرها.

في المقابل، كان المفكرون الاشتراكيون الرئيسيون في أوائل القرن التاسع عشر مثاليين. بالنسبة لهم، كانت المشكلة المركزية هي أن المجتمع كانت تهيمن عليه أفكارٌ سيئة. فهم البعض هذا من منظور ديني، وكان البعض الآخر علمانيًا إلى حد ما. لكن بالنسبة لهم جميعًا، كانت الرأسمالية مشكلة واجهتها البشرية جمعاء، وكان على البشرية جمعاء حلها معًا -وعادةً ما تنطوي تلك الرؤية على مكانة خاصة للمستنيرين أمثالهم. كان على عاتق ماركس وإنجلز كسب الحركة الاشتراكية إلى منظور مادي للصراع الطبقي. لقد أمضى الرفيقان السنوات التي سبقت عام 1848 في جدالاتٍ مريرة ومناقشاتٍ ومعارك تنظيمية من أجل القيام بذلك.

لكن لم يكن الراديكاليون وحدهم هم من كانوا يحاولون اكتشاف الطريق إلى الأمام. كانت هناك أيضًا اختلافات في الرأي بين أولئك الذين دعموا الرأسمالية. كانت هناك انقساماتٌ داخل الطبقة الرأسمالية نفسها، لا سيما بين أغنى وأقوى الرأسماليين من ناحية، أولئك الذين توصلوا في كثير من الأحيان إلى تفاهم متبادل المنفعة مع حكام بلادهم، ومن ناحيةٍ أخرى الرأسماليين الأصغر، الذين واجهوا عوائق تحول دون قدرتهم على التأثير على الحكومة، أو إحرازهم التقدم الاجتماعي الذي يناسب طموحهم.

انعكس هذا الانقسام المادي في الطبقة الرأسمالية في صورة انقسام سياسي. من ناحية، كان المحافظون البرجوازيون يتحدثون نيابة عن أكبر الرأسماليين. لقد أرادوا الحرية للأعمال والصناعة، لكنهم لم يهتموا بتوسيع الديمقراطية حتى لتشمل الرأسماليين الآخرين، إذ كان من الأفضل لهم لو كانوا وحدهم من يشاركون في صنع القرار. ومن ناحية أخرى، كان البرجوازيون الليبراليون والديمقراطيون يتحدثون باسم الرأسماليين الأصغر والمهنيين والطبقة الوسطى. أرادت هذه الشرائح أولًا وقبل كل شيء: الحق في التصويت والمشاركة في الحكومة بأنفسهم، وبالتالي دعموا تمديد امتياز المشاركة في صنع القرار. لكن ليس إلى حد إشراك الجماهير الشعبية، التي ظلت أشباحها في الثورة الكبرى تراود كوابيسهم.

ربما لم يكن جناحا السياسة البرجوازية متفقين على الكثير من الأمور، لكنهما كانا متأكدين من شيءٍ واحد: أنهم لم يرغبوا في ثورة أخرى. لكنها كانت قادمةً على أية حال.

البركان
لم يكن ماركس وإنجلز الوحيدين اللذين توقعا تصاعد المد الثوري. ففي فرنسا، حذر السياسي الليبرالي ألكسيس دي توكفيل زملاءه عشية نضالات عام 1848: “نحن ننام سويًا في بركان … رياح الثورة تهب، والعاصفة تلوح في الأفق”.

لم يكن البركان في فرنسا كما كان عام 1789 وقتما كان التناقض يكمن بين الطبقة الرأسمالية الناشئة والدولة الإقطاعية القديمة. إنما كان النظام المسمى بملكية يوليو -في عام 1848- واضحًا في ولائه الكامل للطبقة الرأسمالية، وخاصة الرأسماليين الكبار في القطاع المالي. ملأ الملك لويس فيليب حكومته بمصرفيين مثل كاسيمير بيرييه، الذي عُيِّنَ رئيسًا للمجلس. وبدلًا من الصراع الطبقي بين البرجوازية الصاعدة والطبقة الإقطاعية الحاكمة، كانت الصراعات السياسية تختمر بين الطغيان والاستبداد المتزايد للدولة البرجوازية المحافظة، ورغبات الإصلاحيين الليبراليين.

كانت القصة مختلفة في بقية أوروبا القارية. طرح النجاح الاقتصادي والعسكري للدول الرأسمالية بشكل كامل، بريطانيا وفرنسا، مسألة التحديث. لكن القوى العظمى في أوروبا -إمبراطورية هابسبورج النمساوية والإمبراطورية الروسية ومملكة بروسيا التي هيمنت على ألمانيا- أجابت على السؤال برفض حاسم. حتى المعارضة الليبرالية، التي لم تطالب بأكثر من ملكية دستورية وعقلنة للقوانين، خضعت للقمع.

كانت القضية الوطنية إشكالية إضافية في هذه البلدان. في السابق، ادَّعت الأنظمة الإقطاعية في جميع أنحاء العالم شرعيتها للحكم من خلال الحق الإلهي. لكن الثورات البرجوازية في إنجلترا وفرنسا تحدَّت هذا الافتراض. وبدلًا من الحق الإلهي، طرحوا “إرادة الأمة”. القومية مفهوم برجوازي تمامًا. إذ يُستخدَم من قبل الطبقة الحاكمة الرأسمالية لمحاولة توحيد الأشخاص الذين لديهم مصالح طبقية مختلفة على أساس لغة أو عرق مشترك. لكن القومية يمكن أن تكون أيضًا إطارًا للمضطهدين للتعبير عن صراعهم ضد قوةٍ أجنبية. وفي عصر الملكيات الإقطاعية التعسفية والخرافية، كان إنشاء دولة قومية رأسمالية بقوانين وحقوق يمثل في كل الحالات قفزةً كبيرة إلى الأمام.

هذه الضغوط القومية دعت للانقسام مثلما دعت للوحدة. في الإمبراطورية النمساوية، سعى المجريون والتشيكيون إلى الحق في الانفصال وإقامة الحكم الذاتي وحتى الاستقلال. أما في ألمانيا، من ناحية أخرى، سعى القوميون البرجوازيون إلى توحيد الشعب الألماني في إمبراطورية واحدة، واجتثاث خليط الإمارات الإقطاعية لإنشاء دولة واحدة ذات إطار قانوني وتنظيمي واحد. في المدن-الدويلات الإيطالية، وتحت السيطرة المباشرة أو الضغط غير المباشر للنمساويين، عملت في كلا الاتجاهين: الاستقلال عن هابسبورج، والوحدة مع المدن-الدويلات الإيطالية الأخرى في شبه الجزيرة.

كانت أولى انتفاضات 1848 أحد هذه الثورات القومية البرجوازية في صقلية، لكنها سرعان ما طغى عليها مركز الثورة القديم في أوروبا: فرنسا.

الثورة في فرنسا
في 22 فبراير 1848، بلغت حملة المعارضة الليبرالية ضد ملكية يوليو ذروتها في مواجهة حادة في باريس. لسنواتٍ من الزمن، حُرم هؤلاء البرجوازيون، الذين صاروا فيما بعد إصلاحيين، من الحق في التنظيم السياسي من قبل الاستبداد المتزايد للدولة الفرنسية. خلال الأشهر القليلة السابقة، سعوا إلى الالتفاف على هذا الحظر من التنظيم السياسي من خلال تنظيم حملة من المآدب الخاصة. لم تكن هذه المآدب السياسية بؤرًا للراديكالية اليسارية. كان معظم المشاركين يكرهون الاشتراكيين والفوضويين، ويشعرون بالاشمئزاز من الطبقة العاملة، ويخافون من فكرة الثورة تمامًا مثل الملك لويس فيليب. كل ما أرادوه هو الإصلاح الانتخابي، ليشمل شريحةً أكبر من الرأسماليين والطبقات المهنية في صنع القرار في الدولة. فقد اعتقدوا أن ذلك كان معقولًا للغاية.

كانت الحكومة الفرنسية ترفض ذلك. وفي عشية 22 فبراير، عندما كان من المقرر إقامة المأدبة الأخيرة لحملة الإصلاحيين في باريس، حظر الملك ووزير الداخلية فرانسوا جيزو التجمع وأي مآدب مستقبلية. نظمت المعارضة الليبرالية مسيرةً رمزية للتعبير عن استيائهم، مرددين هتاف “يعيش الإصلاح” و”يسقط جيزو”، قبل أن يستقروا على العمل على الطعون والالتماسات القانونية.

لكن لم يكن الإصلاحيون البرجوازيون وحدهم هم من واجهوا مشكلةً مع ملكية يوليو. أطلق على عقد الأربعينيات من القرن التاسع عشر لقب “الأربعينيات الجائعة”، وذلك بسبب الأزمات الزراعية التي عصفت بأوروبا. كانت مجاعة البطاطس الأيرلندية سيئة السمعة جزءًا من هذه العملية، لكن تداعيات الفشل الزراعي لم تقتصر على محصولٍ واحد. دفعت الصدمات في صناعة المواد الغذائية القطاع المالي إلى حافة الهاوية أيضًا، وتدهور الاقتصاد الفرنسي تدهورًا غير مسبوق.

كالعادة، أُجبر الفقراء والطبقة العاملة على دفع ثمن الأزمة. في فرنسا، اتخذ هذا الاتجاه شكل عمليات تسريح جماعي للعمال في المدن، وزيادة الضرائب على الفلاحين الجائعين في الريف. حتى قطاعات من الطبقات الوسطى عانت مع انهيار الطلب على السلع الحرفية والخدمات المهنية، مما دفع بهذه العائلات الثرية إلى العوز أو ما يقاربه.

لذلك عندما تخلت المعارضة الليبرالية عن الشوارع في فبراير مقابل التوجُّه للمحاكم، ظلَّ العمال وجماهير المدن في الشوارع. في نوادي العمال الراديكالية، كان الكثيرون ينظمون صفوفهم منذ شهور، في انتظار هذه اللحظة بالذات. كان بعض الجيل الأكبر سنًا من المشاركين في ثورة يوليو عام 1830، وكانت ذكرى قتال المتاريس ما زالت حية وبارزة في ذاكرة الطبقة العاملة الباريسية. استُعيدَت تلك الذاكرة على نحوٍ جيد، وهيمنت المظاهرات وقطع الطرق على شوارع المدينة.

استقال جيزو في اليوم التالي، وكان الملك قد قرر أنه سيضحي بالوزير من أجل إنقاذ النظام. لكن ذلك كان قليلًا جدًا ومتأخرًا جدًا. وبدلًا من تهدئة المحتجين، حفزتهم استقالة جيزو على مواصلة النضال. لكن التمرد الحقيقي اشتعل عندما أُطلِقَت النار على مظاهرة بمحيط وزارة الخارجية، مما أسفر عن مقتل 52 متظاهرًا. ومنذ تلك اللحظة، لم تعد جماهير باريس تتظاهر، بل كانت تقاتل في شارعٍ تلو الآخر ضد قوى ملكية يوليو. والأهم من ذلك، رفض الحرس الوطني -وهو مؤسسة تابعة للدولة الفرنسية تشكَّلَت في الغالب من الطبقات الوسطى- إطلاق النار على العمال. عندها، صار مصير الملك لويس فيليب محسومًا وهرب من البلاد.

ذهب نظام يوليو الملكي، لكن لم يكن من الواضح ما الذي سيحل محله. عندما كان الملك ونظامه في السلطة، كان للمعارضة الليبرالية والعمال الراديكاليين عدوٌ مشترك: شيءٌ يناضلون ضده جنبًا إلى جنب. أما مع رحيل الملك، لم تبق هناك مثل هذه الأرضية المشتركة. كما كتب ماركس في مقال في “الجريدة الرينانية الجديدة”، فإن “الأخوة الفرنسيون، أخوة الطبقات المتناحرة، التي تستغل إحداها الأخرى، هذه الأخوة التي أُعلِنَت في فبراير ونُقِشَت بأحرفٍ كبيرة على واجهات باريس، في كل سجن وكل ثكنة وجدت تعبيرها الخالص، الحقيقي والمرتجل في الحرب الأهلية. والحرب الأهلية في أكثر جوانبها فظاعة: هي حرب العمال ضد رأس المال”.

بعد الانتفاضة الأولى مباشرةً، كانت التساؤلات تحوم حول الكثير من الأمور المتعلِّقة بما ستبدو عليه الدولة في المستقبل. هل ستكون جمهورية حقيقية أم ملكية دستورية؟ هل سيمتد الامتياز السياسي إلى الطبقة العاملة والفلاحين؟ وماذا ستفعل الدولة حيال البطالة الجماعية؟

ذهب نظام يوليو الملكي، وأُعلِنَت الجمهورية الثانية بعد أيام فقط من هروب الملك لويس فيليب. مُنِحَ حق التصويت لكل ذكر بالغ، وكان ذلك نصرًا هائلًا للديمقراطية. لكن عندما ناوشت مطالب العمال حدود النظام الرأسمالي، هُزمت أو قُوِّضَت. حتى حق التصويت الذي حارب من أجله اليسار، استُخدم ضدهم. فمع معرفة العقلية السياسية للفلاحين في معظم أنحاء فرنسا، شنَّ المحافظون حملاتٍ قوية في المقاطعات للفوز بأغلبية الجمعية التأسيسية الوطنية. ومن موقع القوة هذا، صار يمكنهم مهاجمة جميع مكاسب الراديكاليين.

انتهى خط المعركة الرئيسي بورش العمل الوطنية، والتي كانت عبارة عن برامج توظيف للعاطلين. صُوِّرَت برامج التوظيف هذه على أنها مخططات طوباوية لتغيير طبيعة العمل، وإزالة دافع الربح على أن يحل محله العمل من أجل الصالح العام. تحت الضغط الفوري للثورة، سمحت الجمهورية الثانية بإنشاء هذه الورش، لكنهم تأكدوا من أنها تعمل بشكل أشبه بالرعاية الاجتماعية، حيث تضمن أجرًا للعاطلين عن العمل مقابل عملهم في الأشغال العامة. ومع ذلك كره الليبراليون والمعتدلون تلك الإجراءات، لأنها تنتهك حقوق الرأسماليين في استغلال العمال متى شاءوا بالتوظيف والطرد في سوق العمل غير المنظم، فسعوا في النهاية إلى تدمير ورش العمل الوطنية.

لم ينل العمال تلك المكاسب وهم مستلقين في الفراش. لذلك، في الأشهر التالية، اندلعت معارك بين الأندية السياسية الراديكالية للطبقة العاملة والجمعية الوطنية التأسيسية التي يهيمن عليها المحافظون. كانت المواجهة الكبرى الأولى في 15 مايو، عندما سار 20 ألف عامل إلى مجلس النواب، واستولوا على المبنى وقضوا ساعات في إلقاء الخطب للمطالبة باستقالة السلطة التنفيذية للحكومة، وإنشاء وزارة العمل التي تدافع عن حقوق العمال، والمساعدة العسكرية للأقليات القومية في جميع أنحاء أوروبا التي كانت تقاتل من أجل حرياتها كجزءٍ من موجة الانتفاضات الديمقراطية التي اجتاحت أوروبا عام 1848.

وللأسف، تم فض المظاهرة والاعتصام على يد القوة ذاتها التي دافعت عن الثوار في مواجهة القوات الحكومية في فبراير، ألا وهي الحرس الوطني. وقف جنود الطبقة الوسطى من الحرس الوطني إلى جانب العمال ضد الملك، لكنهم أظهروا أنهم سيقفون إلى جانب البرجوازية ضد العمال. وكان هذا نذيرًا لأحداثٍ قادمة.

جاء النضال الكبير في يونيو، عندما أغلقت الحكومة ورش العمل الوطنية، وأعطت العمال الاختيار: بين التجنيد في الجيش النظامي والقتال في حروب فرنسا الاستعمارية، أو مواجهة الفقر والمجاعة.

اختار العمال التمرد. لثلاثة أيام، كافحت الطبقة العاملة في باريس ببطولة ضد قوات الجيش الفرنسي. قاتل العمال بالأسنان والنواجز مقابل كل بوصة من الأرض ضد عدوٍ كان يفوقهم عددًا وعتادًا. تخلصت العاملات من قيود اضطهادهن واستبسلن في قيادة القتال: ظهرت أبطال مثل إليزابيث جيبال، التي أُلقِيَ القبض عليها لركضها في الشوارع مسلحةً بسيفٍ وتحطيم النوافذ لتسهل على رفاقها الاستيلاء على الأسلحة، وفيف هنري، 76 عامًا من قدامى المناضلات في ثورة 1830، فيما قادت نساءٌ أخريات المواجهة في حواجز شارع دي تروا كورون في بيلفيل.

على الجانب الآخر، استعدَّت الحكومة باستدعاء أفضل قائد لها من الحروب الاستعمارية في الجزائر، الجنرال كافينياك. وعلى الطريقة الاستعمارية، اجتاح جيش كافينياك شارع تلو الآخر، وسد تلو الآخر، وقصف العمال وأطلق النار عليهم وقتلهم لاستعادة باريس. وعلى الرغم من أقصى محاولاتهم، لم يكن بوسع عمال باريس وحدهم أن يأملوا في هزيمة الجيش الفرنسي. وغرقا انتفاضة أيام يونيو في الدماء.

مُنح كافينياك سلطات خاصة من قبل الجمهورية الثانية بمجرد أن أصبحت المدينة تحت سيطرته، حتى يتمكن من الحفاظ على “النظام”. أشرف الجنرال بشكل أساسي على ديكتاتورية عسكرية بزخارف ليبرالية، وكان نظامه يمهد الطريق لديكتاتورية لويس نابليون. وبهذه الطريقة، انتهت الثورة الفرنسية لعام 1848 بنفس الطريقة التي انتهت بها الثورة الكبرى في 1789-1792، إذ سار ابن أخي نابليون بونابرت على خطى عمه، أو كما كتب ماركس لاحقًا: “في المرة الأولى كمأساة، وفي الثانية كمهزلة”.

ربيع الشعوب
قصة مماثلة ستجري أحداثها في بقية أنحاء أوروبا. ألهم النموذج الفرنسي العديد من الثورات؛ من روما إلى فيينا إلى برلين إلى بودابست، في سلسلةٍ من الثورات والانتفاضات التي أصبحت تُعرف باسم ربيع الشعوب. لكن الرأسمالية لم تكن متطورة في هذه البلدان كما كانت في فرنسا. كانت الطبقة العاملة أصغر، وكان القتال في المدن يدور في الغالب من قبل الطلاب والطبقات الوسطى. عندما ظهروا بالفعل على مسرح التاريخ، كان العمال أو شرائح الطبقة العاملة الجنينية هم القسم الأكثر راديكالية وحزمًا في الثورات، إذ كان بإمكانهم استنتاج حاجتهم إلى النضال من أجل تحريرهم.

لكن الطبقة الرأسمالية وحلفاءها في الطبقتين الوسطى والمهنية تعلموا درسًا مختلفًا. بالنسبة للرأسماليين، أثبت مثال الثورة الفرنسية -في عام 1792 وهنا في عام 1848- أن هناك تهديدًا أكبر من استبداد الأنظمة القديمة. أراد بعض الليبراليين البرجوازيين إصلاحًا دستوريًا، واستقلالًا وطنيًا، وأحيانًا ديمقراطية محدودة، لكن ليس بالقدر الذي أرادوا به الحفاظ على مكانتهم في المجتمع ومنع الاضطرابات القادمة من أسفلهم.

كان بإمكان الليبراليين البرجوازيين أن يروا أن تحولًا ديمقراطيًا حقيقيًا للمجتمع، حيث يستطيع الكادحون تحديد طبيعة عملهم والغايات التي توضع من أجلها، سيعني نهايةً لوجود الرأسماليين، بمعنى أنهم لن يعودوا قادرين على استغلال العمال بحرية. كان على الليبراليين الديمقراطيين من الطبقة الوسطى الذين دعموا الرأسمالية أن يدافعوا عنها من تهديد العمال الذين ينظمون أنفسهم من أجل المساواة الاقتصادية والديمقراطية الراديكالية. وهكذا، عندما تلاشى الغبار عن الانتفاضات الأولى، سعوا في المقام الأول إلى إرساء النظام وصنع السلام مع القوى الموجودة.

ربما كان هذا هو الأكثر وضوحًا في الولايات الألمانية، حيث كان الليبراليون يتوقون بشدة لمواصلة مفاوضاتهم مع النبلاء القدامى، إلى درجة أنهم عارضوا مواصلة النضال. تُركت القوى الأكثر راديكالية والطبقة العاملة للقتال بمفردها، وهزمها الملوك والأمراء الألمان بسهولة.

بحلول أبريل من العام 1849، كانت المجر هي المعقل الوحيد المتبقي لنضالات الاستقلال الوطني. قاتلت المقاومة المجرية الشرسة القوات النمساوية الهابسبورجية عدة مرات، لكن في أبريل طلب إمبراطور هابسبورج مساعدة القيصر الروسي، الذي غزا البلاد بعشرات الآلاف من الجنود الروس، ليقضي على الفصل الأخير من ربيع الشعوب.

وبدلًا من توحيدهما وتحويلهما إلى جمهورياتٍ رأسمالية من خلال النضال الديمقراطي من الأسفل، تم تشكيل دول إيطاليا وألمانيا في النهاية بالقوة العسكرية بواسطة الطبقات الحاكمة القديمة. احتل البروسيون واستوعبوا ما تبقى من الولايات الألمانية، وفي النهاية وضع ملوك بيدمونت-سردينيا بقية إيطاليا تحت كعوبهم.

إرث 1848
هُزمت ثورات 1848 هزيمةً قاسية ودموية. العديد من الأشياء التي حاربوا من أجلها لم تعد ذات صلة بالنسبة لنا: لم تعد الرأسمالية قوة تطورية تفجِّر ثورةً في تقنيات الإنتاج الإقطاعية القديمة، وعلى أي حال، فهي موجودة بالفعل في جميع أنحاء العالم اليوم. وسيكون الأمر متروكًا للثورات اللاحقة للإجابة على الأسئلة الرئيسية حول ما يلزم لتدمير وإزاحة الدول القومية الرأسمالية التي شُيِّدَت في القرن التاسع عشر، وما هو نوع التنظيم الذي يحتاجه الاشتراكيون والثوريون للقيام بذلك.

هذا لا يعني أنه لم يكن هناك شيء نتعلمه من الإخفاقات. كان ماركس وإنجلز قد شاركا في الأحداث الألمانية لعام 1848، وشهدا بذلك الارتفاعات السماوية والانخفاضات الجهنمية للنضال الثوري. من هذه التجربة، استخلصوا دروسًا قيِّمة وجديرة بأن يضعها الثوريون والاشتراكيون في اعتبارهم. ربما يكون خطاب ماركس الذي ألقاه أمام اللجنة المركزية للعصبة الشيوعية، والذي يشار إليه عادة ببساطة باسم “عريضة مارس”، هو البيان الأكثر إيجازًا ووضوحًا لهذه الدروس.

في هذا الخطاب، وضع ماركس وإنجلز الحقيقة التاريخية المركزية التي تتلخَّص في أن مصالح الطبقة العاملة والجماهير الشعبية قد خانها الجناح الليبرالي للطبقة الرأسمالية. قالا لرفاقهما: “لقد قلنا لكم بالفعل في عام 1848، أيها الأخوة، إن البرجوازية الليبرالية الألمانية ستصل قريبًا إلى السلطة وستوجه على الفور قوتها المكتسبة حديثًا ضد العمال. لقد رأيتم كيف تحققت هذه التوقعات”.

لم يكن هذا مجرد حدث منفردًا، بل مثَّلَ سياسة الطبقة الرأسمالية وأنصارها من الطبقة الوسطى في كل مكان. وكما جاء في عريضة مارس، فـ”إن البرجوازية الديمقراطية الصغيرة، الأبعد ما يكون عن الرغبة في تغيير المجتمع بأسره لصالح البروليتاريين الثوريين، تطمح فقط إلى تغييرٍ في الظروف الاجتماعية يجعل المجتمع القائم مقبولًا ومريحًا لهم قدر الإمكان”.

كل هذا يعني أنه في جميع النضالات المستقبلية، لم يعد من الممكن الوثوق بالبرجوازية والطبقات الوسطى على أنها ثورية -حتى لو حققت الثورة أهدافهم المعلنة. في المقابل، سوف يلجأون إلى قوى النظام القديم لسحق التهديد الأكبر لوضعهم الاجتماعي، ألا وهو الفعل الثوري للطبقة العاملة. في ضوء هذا التقييم التاريخي، فإن بعض الإجراءات السياسية والتنظيمية تفرض نفسها كضرورة.

أولًا وقبل كل شيء، احتاجت أحزاب الاشتراكية الثورية إلى الاستقلال الطبقي. سعى الليبراليون والديمقراطيون من الطبقة الوسطى إلى الوحدة مع الطبقة العاملة فقط من أجل حصرهم في أجندة الليبراليين المحدودة. وكما كتب ماركس: “بدلًا من أن ينزلوا بأنفسهم إلى مستوى جوقة تصفيق، يجب على العمال، والعصبة في المقام الأول، العمل من أجل إنشاء منظمة مستقلة لحزب العمال، سرية ومفتوحة، جنبًا إلى جنب مع الديمقراطيين الرسميين، يجب أن تهدف الرابطة إلى جعل كل واحدة من كوميوناتها مركزًا ونواة للجمعيات العمالية حيث يمكن مناقشة وضع ومصالح البروليتاريا بعيدًا عن التأثير البرجوازي”.

كان هذا هو الحال حتى فيما يتعلق بالانتخابات، التي لم يرفض ماركس وإنجلز الانخراط فيها. كان هناك مبدأ إرشادي في مثل هذه الحملات، على الرغم من أن “مرشحي العمال يتم ترشيحهم في كل مكان في مواجهة المرشحين الديمقراطيين البرجوازيين … وحتى في الأماكن التي ليس هناك احتمال لتحقيق انتخابهم، يجب على العمال تقديم مرشحيهم الخاصين للحفاظ على استقلاليتهم، وقياس قوتهم، ولفت انتباه الرأي العام إلى موقفهم الثوري ووجهة نظرهم الحزبية”.

ثانيًا، في زمن الاضطرابات الثورية المستقبلية، يجب على الطبقة العاملة أن تكسب وتحافظ على أسلحتها. “لكي نتمكن من معارضة هذا الحزب بقوة وتهديد، ستبدأ خيانته للعمال منذ الساعة الأولى من النصر، يجب أن يكون العمال مسلحين ومنظمين”. ستعارض القوى البرجوازية ميليشيات العمال هذه، لكن لا يمكن للثوريين بأي حال من الأحوال دعم نزع سلاحهم أو استيعابهم في صفوف حرس وطني أو مدني غير طبقية -وبالتالي في الواقع تحت هيمنة البرجوازية.

ثالثًا، في وقت الإطاحة بالنظام القديم وإنشاء حكومة برجوازية ديمقراطية أو ليبرالية جديدة، يجب على الثوريين أن يبدأوا على الفور النضال ضد هذا النظام الجديد. “بمجرد أن تثبت الحكومات الجديدة نفسها، سيبدأ صراعها ضد العمال. إذا كان للعمال أن يحوزوا القدرة على معارضة البرجوازية الصغيرة الديمقراطية بالقوة، فمن الضروري قبل كل شيء أن يكونوا منظمين بشكل مستقل …”.

لخص ماركس هذه المبادئ في نهاية العريضة: “إلا أنه عليهم المشاركة بأنفسهم بانتصارهم النهائي, بوعيهم لمصالحهم الطبقية وتنظيمهم بأسرع ما يمكن كحزب مستقل، وبعدم إغفالهم ولو للحظة واحدة، بالرغم من الخطابات الخبيثة التي يرددها البرجوازيون الصغار الديمقراطيون، عن تنظيم حزب البروليتاريا بشكل
مستقل. إن صيحة حربهم يجب أن تكون: الثورة الدائمة!”.

كان العديد من الماركسيين المزعومين عبر التاريخ إما جاهلين وإما متعمدين تجنب دروس عام 1848 وعريضة مارس. كانت هذه، بالطبع، قوى “الاشتراكية” التي سعت إلى التسوية مع الليبراليين والديمقراطيين والقوميين -من “الاشتراكية الديمقراطية” الإصلاحية إلى الستالينية اليمينية في فترة الجبهة الشعبية في الثلاثينيات.

لكن الديناميات الرئيسية لثورات 1848 -تذبذب الليبراليين والإصلاحيين، وخوفهم من راديكالية الطبقة العاملة الثورية، والانبثاق الحتمي للعداءات الطبقية أثناء الثورة- ستظل مركزية في جميع الثورات طالما استمرت الرأسمالية في الوجود. إن أولئك الذين يريدون إحراز النصر في النضال الثوري القادم سيحسنون صنعًا إذا استمعوا للدروس المستفادة، والتي أدت إلى بعض أهم التطورات في الفكر الماركسي الثوري.

* المقال بقلم: لوك هوكينج – موقع “ريد فلاج” الأسترالي