الكونيّة وتشظي الهُويات


حسن مدن
2021 / 10 / 22 - 11:56     

العالم يذهب إلى كونيّة غير مسبوقة محمولاً على موجات العولمة الكاسحة . نمط المعيش الموحد، النمطي، يكتسح أرجاء العالم . وأنت تسافر لا تشعر بالغربة التي كان من يسافرون من قبل يشعرون بها . المحال التجاريّة والمجمعات الاستهلاكيّة واحدة، ماركات الملابس والإلكترونيات واحدة، وهي موجودة في كل مكان . في كل بلد تنتشر مقاهي "ستاربكس" و"كوستا" وغيرهما، وللقهوة فيها وصفة واحدة ومذاق واحد . ديكور المقهى واحد، وشكل الأكواب والكؤوس واحد . في كل بلد ثمة مطاعم إيطاليّة وصينيّة وتايلنديّة . في كل مطعم ثمة سَلطة يونانيّة، وسَلطة القيصر الشهيرة، ومقبلات بلدان البحر الأبيض المتوسط .

ليس للكونيّة من هوية . إن كان لها من هويّة فلن تكون سوى الكونيّة ذاتها هي هويتها . ولم يعد الأمر خاضعاً لإرادة الأقوام والأفراد . التقنيّة والمعيش الكونيان يجتاحان العالم غير آبهين بالإرادات أو الرغبات . حتى دعاة إعادة الخلافة الإسلاميّة في بلاد العرب والمسلمين الزاعمون عداءهم للغرب، يستخدمون في حروبهم آخر تقنيات هذا الغرب . إنهم كونيون حتى لو رفضوا الكونية . الإرهاب نفسه غدا كونياً شأنه شأن العولمة . يمكن للإرهابي أن يفجر قنبلة أو سيارة مفخخة في الشام أو بغداد أو نيجيريا أو باكستان أو مدريد أو حتى شيكاغو، مستخدماً التقنيات ذاتها، بعد أن غسلت كتيبات التكفير ذاتها دماغه، بغض النظر عن اللغة التي قرأها بها .

لكن المفارقة تكمن في مكان آخر . هذه الكونية التي تلغي المسافات بالتقنيات، بالطائرات والقطارات السريعة، ب "الآي باد" والهواتف الذكيّة، لا تحول دون حروب الهويات في البلدان الأقل حظاً في النمو جراء القسمة الجائرة للعمل، وهيمنة المركز الغربي على قارات بكاملها مكتظة بالبشر ومثقلة بالمشكلات والفقر وحتى المجاعة، ومولدة لأفكار التعصب ومعاداة العصر .

الدولة الوطنيّة التي نشأت بعد الاستقلال وسعت لمحاكاة النموذج الغربي في بناء الدولة - الأمة تتحلل إلى طوائف ومذاهب وقبائل وعشائر، وينهار الإطار "الدولاتي" الذي يدمج في نسيجه الواحد مجموعة هويات تتنازل عن بعض صور تضامنها لتغليب الانتماء الوطني العام الذي يوحد الكل، لنشهد انفجار الهويات وتشظيها، كتشظي النيازك المحترقة .

ما إن تنهار أو تضعف السلطة إما تحت ضغط التدخل الخارجي وإما استنفاد شرعيتها الداخليّة بعد أن تآكلت بالتدريج، حتى يعود المجتمع القهقرى، إلى صور التضامن الأوليّة السابقة لقيام الدولة، ويستشري نفوذ زعماء الطوائف والمذاهب ويتوارى دور قادة الأوطان .