المثقف النقديّ


حسن مدن
2021 / 10 / 21 - 10:42     

حديثنا هنا سيكون بعيداً بعض الشيء عن التصنيف المهم والمنهجي والمُلهم، الذي أقامه غرامشي بين المثقف التقليدي والمثقف العضوي، الذي أسيء فهمه في الكثير من الحالات، خاصة فيما يتصل بمفهوم المثقف العضوي، الذي قرنه الكثيرون بالمثقف التقدمي، مع أن رؤية غرامشي أوسع وأعمق من ذلك بكثير، فالمثقف العضوي هو ذاك المرتبط بطبقة اجتماعية ما، ينافح عنها وعن مصالحها، وليست كل الطبقات الاجتماعية تؤدي دوراً تقدمياً في التاريخ، ما ينعكس، بالنتيجة، على دور المثقف، الذي يمكن أن يكون محافظاً وكابحاً للتقدم، ويمكن أن يكون دوراً نقيضاً، تقدمياً ومحفزاً على التغيير حين يكون مرتبطاً بطبقة اجتماعية تضطلع بمهمة هذا التغيير.

المثقف الأخير بالذات هو الذي يعنينا هنا، وهو الذي يطلق عليه وصف المثقف النقدي، وأحسب أن الراحل فؤاد زكريا كان من أفضل المفكرين العرب، الذين تناولوا هذا المفهوم، فلا يمكن أن يكون المثقف نقدياً إذا كان معادياً للحداثة أو حتى متهيباً أو متوجساً منها، فالمثقف يجب أن يكون في الطليعة في نقد البنى الاجتماعية والفكرية المعيقة للحداثة لا مزيناً لها، أو مبرراً، أو ممالئاً.

ولأن موقفاً مثل هذا له كُلفته، التي قد تكون باهظة في الكثير من الحالات، فإن من سمات المثقف النقدي أن يكون شجاعاً، فهو على خلاف الزعيم السياسي لا يتوخى الشعبوية أو يجري خلفها، وإنما مهمته أن يستفز المُسَلَّمات والبديهيات التي استقرت في الأذهان وفي ثنايا المجتمع، وهو إذ يفعل ذلك عليه تحمل لدغات الأفاعي، التي ستنهال عليه من كل صوب؛ لأنه أقلق اطمئنانها وسكينتها.

من بين أشياء كثيرة يعنيها هذا، فإن على المثقف أن يكون منخرطاً في الحياة، لا محتمياً بأسوار الجامعات، خاصة إذا كانت من طراز الكثير من جامعاتنا العربية التي لا تقيم وزناً لحرية البحث العلمي ولا تشجعه، ويمكن أن تتخذ بحق الأستاذ الجامعي أشد العقوبات إن هو تجاوز ما يعده سدنتها خطوطاً حمر. والانخراط في الحياة لا يعني، بالضرورة، أن يتحول المثقف إلى ناشط ميداني، فدور مثل هذا يمكن أن يؤديه آخرون بكفاءة أعلى منه، وإنما المقصود هو أن يقارب القضايا والمعضلات المجتمعية في حقول اهتمامه بالبحث والتفكيك.

وفي هذا يتميز المثقف النقدي عن الأكاديمي المنكب على وضع أبحاث الترقية التي تحوله من أستاذ مساعد إلى أستاذ، أو أي شيء من هذا القبيل، في موضوعات أبعد ما تكون عما ينشغل به المجتمع، وقد لا يقرأها أحد سوى محكميها، ومن سيعود إليها بعده من باحثين عن الترقية عبر أبحاث مشابهة، إن لم تؤخر فهي لا تقدم نحو الأمام قيد أنملة.