السودان: مبادرة الهيبك (HIPC) وسياسة استدامة الدَيْن


محمود محمد ياسين
2021 / 10 / 15 - 09:30     

اتوطئة
ان دكتور عبد الله حمدوك، رئيس وزراء السودان، من المفتونين بمؤسسات التمويل الدولية؛ وأذكر أنه قبل سنوات خلت دار بيني وبينه قبل أن يتم تصعيده للمنصب الرفيع نقاشا حول الأداء الاقتصادي بإحدى الدول العربية حيث كان رأىّ ان تعويل تلك الدولة على القروض الضخمة من مؤسسات التمويل الدولية سينعكس سلبا على تنمية اقتصادها. وكان رأى حمدوك مغايرا معتبرا انه لا بديل للطريق الذي تسير عليه الدولة المعنية لتحقيق نهضتها الاقتصادية. ولم تكن نظرته تلك مبعثا لأي عجب فذلك اعتقاد يحمله كثير من الاقتصاديين في دولنا الفقيرة المبهورين او الواقعين تحت تأثير اقتصاد الليبرالية الجديدة. وفى مجرى النقاش استشهدت براي أكاديمي اقتصادي من مصر له مؤلفات ثرة في الموضوع مثار النقاش ناقدة، من موقف اقتصادي بحت، لمواقف مؤسسات التمويل الدولية حيال الدول الفقيرة ومخاطر سياسة الاعتماد شبه الكامل على القروض، ولكن كان غريبا بأن كان رد حمدوك ان أمثال ذلك الاقتصادي "لا يفهمون شيئا"!! لكن الكلمات الجوفاء، التي تصرف أفكار الآخرين باعتبارها لا تساوى شيئا، تجعل من تصدر عنه تماما مثل الاناء الفارغ (empty vessel)؛ والاناء الفارغ يمكن ملئه بالفسيخ أو الشربات!! وهذه المماثلة (analogy) عبرت عنها بعض المواقف لحكومة حمدوك في التعامل مع الخارج (الدول الغربية) ومؤسسات التمويل الدولية؛ فالحكومة منحت، بصورة غير مسبوقة، تلك المؤسسات شيكا على بياض (carte blanche) لوضع كل ما يعن لها من شروط، وكانت النتيجة تخفيض سعر صرف الجنيه السوداني في فبراير 2021 مؤديا الى زيادة في سعر صرف الدولار بنسبة تقدر ب 700%، ورفع الدعم عن السلع الأساسية بنسبة 100% دون مراعاة لواقع الشعب السوداني الذي يقبع 75% من افراده تحت خط الفقر أو للآثار التضخمية التي دمرت حياتهم المعيشية.‬‬‬‬‬‬

المقال
وافق صندوق النقد والبنك الدوليين في يوليو 2021 بأن السودان اتخذ الخطوات اللازمة لكي يتأهل للحصول على تخفيف حجم مديونيته الخارجية من خلال مبادرة الهيبك (HIPC) التي أطلقتها في 1996 المؤسستان الدوليتان لتخفيف ديون البلدان الفقيرة. وتأتى الموافقة في سياق امتثال حكومة د. عبد الله حمدوك لشروط المؤسستين المذكورتين اللتين تلعب القوى الكبرى دورا كبيرا في صناعة قراراتها. وكان امتثال كاملا أهدر سيادة السودان وقفل الطريق أمام تطلعات الشعب للنهوض الاقتصادي بالبلاد بعد الاطاحة بالنظام السابق في 2019.

وفى ظهور تلفزيوني (عاجل) مع كامل طاقم وزارته، أعلن حمدوك بزهو موافقة صندوق النقد والبنك الدوليين أن السودان أصبح مؤهلا لإعفاء ديونه بموجب مبادرة الهيبك. ان الظهور لإعلان الدخول في مبادرة الهيبك كان مشهدا رديئا (bad optics)؛ فاعلان الدولة (أي دولة) لحدث ضمها لمبادرة الهيبك يعكس مدى ضعفها وضآلة اقتصادها وفشلها في الإيفاء بالتزاماتها المالية؛ ان المستثمرين المحليين والأجانب يكرهون رؤية الدول بهذا الوضع.

ان احتفاء حمدوك بقرار ضم السودان لمبادرة الهيبك لم يكن الا دراما مصطنعة لا تعكس حقيقة الأمور. فإدخال البلدان الفقيرة في مبادرة الهيبك ليس بالمسالة السارة، فالمبادرة تطلب من هذه البلدان الإيفاء بشروط قاسية خلال مراحل طويلة من التفاوض قبل القرار الأخير؛ كما تضع المبادرة موجهات اقتصادية محددة على الدول المعفية الالتزام بها في مرحلة ما بعد الاعفاء (لا يشمل أصل الدين). والشروط في مجملها تؤدى بالدول المستفيدة من المبادرة لمزيد من التبعية لمؤسسات التمويل الدولية وبالتالي استدامة السقوط في مستنقع الاقتراض وفوائده الضخمة. وبمراجعة البيانات الإحصائية الخاصة ب 37 دولة استفادت من الآلية الاقتصادية نجد أن تلك البلدان ما زالت ترزح تحت الديون وتعاني من عبء خدمتها؛ وحتى دولة رواندا، التي صارت مؤخرا موضوعا لمغالاة البعض في الترويج لنهضتها الاقتصادية، أخذ الطاغية بول كاغامى (الذي يحكم منذ العام 2000 بإسناد ضخم من أمريكا وفرنسا ومن المحتمل أن يظل حاكما حتى 2034 بعد تعديل متوقع للدستور) يغرقها في ديون جديدة بعد اعفاء ديونها في العام 1995.

وأدناه عيِّنة تبين نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي لبعض الدول الأفريقية التي ضُمت لمبادرة الهيبك؛ ومن الأرقام يتضح استمرار تلك الدول في سيرها على طريق مراكمة الديون التي تستنزف خدمتها دخلها القومي وبالتالي يحد من قدرتها على الانفاق الضروري لتحقيق التنمية المستدامة التي تنشدها الدول الفقيرة.

اثيوبيا 57.43%
غانا 61.90%
مالي 36.93%
موريتانيا 80.61%
موزمبيق 124.46%
رواندا 50.00%
السنغال 62.00%
تنزانيا 36.57%
زامبيا 80.50%