اليس بالإمكان أبدع مما كان ؟-5


سعيد مضيه
2021 / 10 / 13 - 12:43     

الصهيونية هي المشكلة ولن تكون شريكا في حل عادل
أخيرا طلع علينا الدكتور أودي أديب، بعد قضاء محكومية سجن طويلة، بصهيونية "إنسانية" sكانت في زمن سلف، ويراد بعثها؛ يحمل دعوة الانتقال نحو "إعادة نسخ الفكر الاشتراكي الإنساني الذي كان عند نشاة الحركة الصهيونية!"[17]. هكذا وجدت أكذوبة اليسار الصهيوني شقيقة منسية الصهيونية الإنسانية. والصهيونية، كما خبرها ملايين البشر،من بدايتها لمنتهاها، حركة أمبريالية رجعية عدوانية، اتخذت لها أحيانا تحت الضغوط واجهات أو أقنعة اشتراكية او يسارية في ظروف انتقالية، واجهات تؤدي دورها على المسرح لتختفي.
كتاب الدكتور اودي أديب "نشوء وسقوط اليسار الصهيوني " زاخر بالمطاعن المسفهة للحركة الصهيونية " الآباء المؤسسون للحركة الصهيونية هم من ‘اخترعوا’فكرة القومية بتأثير الحركات القومية في مركز وشرق أوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر "[247]. كي يقتبس من منطلقات القومية المتطرفة وتوجهاتها العدوانية الاحتلالية والاقتلاعية مبادئ إنسانية طمسها الفكر القومي. الباحث مظلي سابق شارك في عدوان حزيران؛ "رأى بأم عينيه بشاعة الاحتلال وحالة التشرد واللجوء المر التي عاشها ولا يزال يعيشها الشعب الفلسطيني بسبب العدوان والاحتلال الإسرائيلي لأرضه ووطنه". انطلق من حيث" تضعنا مبادئنا الاشتراكية في تناقض تناحري لا حل وسط فيه مع الصهيونية . إننا نعتبر الصهيونية مشروعا كولنياليا يطبق على حساب الجماهير العربية (وفي مقدمتهم الشعب ألعربي الفلسطيني)، تحت رعاية الاستعمار والشراكة معه"[20]؛ حمل السلاح مع رفاق عرب، اعتقل وحكم بالسجن مدة طويلة على أثرها " اقتنعْت انها تجربة مغلوطة من قبلنا وانه يجب إيجاد بديل سياسي لإحداث تغيير على الساحة الإسرائيلية ب"فكر إنساني" و"صهيونية يسارية"! تحول من تطرف يساري الى انحراف يميني؛ يقر بذلك ان "ادعائي يتعارض مع غالبية الفكر الفلسطيني والعربي ، الذي يرفض الحركة الصهيونية من بدايتها ك‘حركة يهودية كولنيالية جاءت تستعمر في فلسطين’، وحركة يمينية انحازت منذ نشاتها الى الامبريالية واليمين العالمي".
كتاب الدكتور أديب صدر في عمان ؛ ترجم الكتاب الى العربية غالب سليمان وسيف رياض صالح عطالله وحرره أحمد أشقر . الكتاب صادر عام 2020 عن جسور الثقافية للنشر والتوزيع ، رقم الإيداع لدى دائرة المكتبة الوطنية 3811/9/2020 ، ويقع في 259 صفحة من القطع الكبير.
نعثر في البحث المعمق الذي اجراه اديب/ ربما داخل سجنه النموذج الهندسي الذي صمم بموجبه ذلك السجن الذي وصفه إيلان بابه والمضروب حول الشعب الفلسطيني منذ عدوان حزيران 1967. صممت هندسته لأهداف الاقتلاعية للحركة الصهيوينة من منبتها: " لاحل وسط وحياة مشتركة مع الفلسطينيين، سكان البلاد... في المجال القومي ، إذا كانت للعرب مطالب حول حق قومي على أرض إسرائيل عندها لا مجال لتسوية ... ليس باستطاعة اي قوة في العالم توفير تسوية بيننا وبين العرب"، كما ورد في خطاب ألقاه أحد قادة تيار بن غوريون عام 1919.
يخترع الباحث حدثا طارئا "شق الحركة الصهيونية في البداية وميزها عن بقية الحركات الاستعمارية الأخرى الأوروبية"[9]. اما الحقيقة التاريخية فتقول أن الفكر التنويري الإنساني للثورة البرجوازية جفت سوقه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. الصهيونية ، وكذلك الفكر القومي الألماني ، كما طرحه هاردر تميزا بطابعهما الرجعي "تدهور في الربع الأول من القرن العشرين نحو النازية . هكذا ، مع تعاظم الحركة الصهيونية تصاعد صراعها مع الحركة القومية الفلسطينية "[54]. في زمن متأخر تم اختراع" الفكرة القومية" المنحولة ؛ في ذلك الحين بزغت صهيونية هيرتسل بفكرها القومي المتعصب ، وحملت أهدافا امبريالية . تاريخيا تزامن نشوء الحركة الصهيونية مع ردة الفكر البرجوازي عن الثورة الديمقراطية والتكوص الى قومية متزمتة مارست اضطهاد الأقليات ومنهم اليهود ، حيث تعرضوا لمجازر عرقية " كانت الدافع الأساسي لإقامة حركة ’محبة صهيون ‘، حيث أقيمت عشرات الجمعيات من ‘ احباء صهيون ’ (حوفيفي تسيون) في التجمعات اليهودية المختلفة في شرق اوروبا ومركزها. لم تتخذ هدفا إنسانيا ، بل تبنت الفكر القومي اليهودي و‘ العودة الى أرض إسرائيل’ كحل لمشكلة اليهود في روسيا وبقية دول أوروبا الشرقية" [36].
أقام جماعة بوعالي تسيون" ممن هاجروا الى فلسطين عام 1905 حزبهم في البلاد ، " في الواقع العملي تخلوا تدريجيا عن الاشتراكية الصهيونية –وهي شعار فاشي، من أجل ‘بناء ’ البلاد عن طريق ‘العمل العبري’ كتحقيق للفكر القومي الصهيوني". بالنسبة لبن غورويون، كما اورد لدى افتتاح المؤتمر الثاني للهستدروت، يؤيده بن تسفي كان " حل ‘المسألة اليهودية’ في حينه عبرتحويل الطبقة العاملة حاملة ومنفذة لمهمة الاستيطان الصهيوني... وظيفتنا ، إذا ليست لأناس ثوريين ، بل لمن يبنون مجتمعا جديدا". [61]. وعد بلفور والانتداب البريطاني، بالنسبة لبن غوريون وأنصاره، "أضفيا على أغلبية القيادة المستقبلية سيادة جو من التوقعات بمجيء المشيخ المخلص"[63]. وفي العام 1919 اتحد انصار بن غوريون مع ‘غير الحزبيين’ وشكلوا حزب "أحدوت هعفودا "( وحدة العمل)، وتم إلغاء كلمة ‘ الاشتراكية’ من اسم وبرنامج الحزب الموحد"[66] .
في سنة 1920أقدم أحدوت هعفودا على تأسيس ‘ نقابة العمال العامة العبرية في أرض إسرائيل – الهستدروت- كقوة دعم لها وشكلت في الوقت نفسه حركة استيطان زراعية ومؤسسة اقتصادية ومؤسسة خدمات لرفاهة جمهور العاملين في المدن. تركز معظم نشاط الهستدروت في استيطان بناء الكيبوتسات... كان الأساس بالنسبة لقادتها " إقامة وبناء المستوطنات هنا وهناك"[69]. يورد ييغئال الون في كتابه "إنشاء الجيش الإسرائيلي" ، تزامن إنشاء ‘ الهاغاناه’، كضرورة مع البناء الاستيطاني . تعاونت الهاغاناه مع سلطات الانتداب وحظيت بمساعدة احد ضباط الانتداب ، وينغيت ، الذي طور خبراتها في الهجوم. واستخدمها لضرب الثوار الفلسطينيين. "نشطت منظمة الهاغاناه في خدمة الإنجليز وقامت باغتيال بعض الثوار العرب وباعتقال نحو 2000 من أعضاء الحزب ( الشيوعي) اليهود، الذين شكلوا نصفه تقريبا"[140] انشئت المستوطنات حسب آلون طبقا لمنظور الحرب القادمة مع الفلسطينيين ، وليس التزاما بمنافع اقتصادية. ويصف زعيم المنشقين عن النقابة في مؤتمرها التأسيسي، غرشون دوا، انها "‘حزب عمالي’ أصفر يقع تحت سيطرة البرجوازية مهمتها تحطيم الحركة العمالية ومنع الإضرابات ليضمنوا أنتصارهم في المعركة من اجل العمل العبري- المهم في الأمر انها ليست منظمة عمالية ، وإنما مؤسسة صهيونية تعالج شؤونا سياسية –قومية "[93]. رفع اليساريون المنشقون عن حزب بوعالي تسيون شعار التضامن الطبقي لعمال الشعبين"...وفي النصف الأول من عام 1930أسس زعيما التيار ، موشي أرام و ناحوم نير جمعية "اخوة العمال " " وقبل أن تغلقها السلطات البريطانية تمكنت الجمعية من نشر كراس بمناسبة الأول من ايار 1930 جاء فيه‘ ان التضامن الطبقي يقضي بوجوب الاعتراف بالقضايا القومية للشعبين’ "[104].
في الفصل السابع " الصهيونية الهرتسلية" يؤكد الباحث ان هيرتسل- أحد الأباء المؤسسين- توجه الى " المتنفذين اليهود البارون هيرش وروتشيلد كي يمولا إقامة تلك الدولة الأوروبية التحررية... وبدأ هرتسل حملة ‘ضغوطات ووساطات’ لدى قادة وملوك الدول الاستعمارية لتلك الحقبة كي يمنحوه ميثاقا وعدا يعترفون بموجبه بحق اليهود بإقامة دولة لهم بفلسطين العثمانية "[44]. ويضيف الباحث " ن نشاط هيرتسل كان يسعى نحو دمج الحركة الصهيونية في المنظومة الاستعمارية لتلك الفترة"... طلب هيرتسل اعتراف بريطانيا "باليهود امة كباقي الأمم، وأصحاب حق لإقامة دولة في أراضي مجاورة لفلسطين".. وتصور ان دولته ستكون"بالنسبة لأوروبا في آسيا بمثابة الحصن المنيع للحضارة امام الهمجية" [45]. الصهيونية بزغت حركة امبريالية وقومية رجعية . " الذين قادوا الحركة الصهيونية وأقاموا دولة إسرائيل هم الأشخاص انفسهم الذين حولوا الفكر الاشتراكي والعمال مطية تخدم المشروع الصهيوني واحتلال البلاد"[74].
يضيف أودي أديب الى ما سبق " كان العنصر المأساوي منذ البداية موجودا في التناقض بين الفكرة القومية للصهيونية كإحياء لليهودية ونهاية الشتات، وبين المجريات الكولنيالية للمجتمع الصهيوني على أرض الواقع"[22]، تناقضٌ احدثه دمج أفكار اشتراكية اممية مع هدف قومي عرقي. احيانا يسوق الباحث التبدل ب" الخوف من كارثة جديدة"، وتارة بالصدام الدامي حول البراق 1929، واخرى باستحواذ الييشوف اليهودي بفلسطين على قوة جديدة في الثلاثينات ولدت لديه النزعة الهجومية؛ راوغت وهادنت من موقف الحذر الى ان حان الموعد لإعلان هدف إقامة الدولة عام 1942 في مؤتمر بلتيمور بالولايات المتحدة . جاء مكان عقد المؤتمر إعلانا بالانتقال من الحضن البريطاني الى الحضن الأقوى والصاعد الى الهيمنة الكونية. اما جابوتينسكي زعيم حيروت ، سلف الليكود الحالي ، فقد أعلن في عشرينات القرن الماضي هدف الدولة والصدام العنفي مع أهل البلاد. حصل، مع اصهيونية بن غوريون " العملية"، على الدعم الامبريالي، وتوحدت جهودهما في ممارسة الإرهاب الدموي ضد القوات البريطانية والعرب والخصوم بين اليهود.
يجدر التركيز على الارتباط العضوي بالامبريالية، نظرا لتجاهله من قبل قادة المقاومة الفلسطينية والعربية؛ حقيقة أسهم أغفالها او تجاهلها في إفشال متكرر للمواجهة مع العدوان الإسرائيلي المدعوم بالامبريالية.
اما النزعة الروحانية الإنسانية فقد بزغت لدى تيار الصهيونية الثقافية التي بادر بها آشر تسفي غينزبيرغ (أحد هعام) مباشرة بعد المؤتمر الأول للحركة الصهيوينة، حيث انشق عن الحركة ، وركز على الكتابة. كتب أحد هعام عدة مقالات تحت العنوان "ليس هذا هو الطريق" واستمر خارج الصهيونية الى ان توفي عام 1929. هاجم المستوطنين الأوائل في مقال نشره عام 1891 لدى العودة من جولة بفلسطين ، وهناك " كما يحدث دائما حين يصبح العبد ملكا ، ها هم يتعاملون مع العرب بعدوانية وقسوة . وما من احد قادر على التصدي ويوقف هذه النزعة الحقيرة والخطيرة"[40]. وحذر أحد أتباعه يتسحق أفشتاين (1886-1943) من " المستقبل المتوقع لمستوطني ‘ احباء صهيون ’ إذا هم لم يعرفوا كيف يديرون شؤونهم مع الفلاحين العرب "[40] . اما ابراهام عنتابي من مواليد دمشق ووصل فلسطين ممثلا لجمعية "الاستعمار اليهودي" فصرح بان " كراهية المحليين استيقظت بعد إنشاء الصهيونية" [41]، وقارن ألْبرغ بين العلاقات المتبادلة التي سادت ما بين تجمع اليهود الشرقيين القديم والعرب وبين العلاقات أحادية الجانب للمستوطنين الصهاينة . بحسبه فإن "الصهيوني هو من أفسد العلاقات التقليدية بين اليهود والعرب في فلسطين العثمانية"[41]. أنشأ مع رفاقه " صهيونية توجه مجهودها الرئيسي من ‘ الهجرة الى أرض إسرائيل’ نحو تدريب روحاني للشعب وتنمية قومية يهودية اخلاقية كاستعداد لاستيطان البلاد" [42]. حسب وجهة النظر الروحانية فإن " سر وجود شعبنا هو فقط احترام القوة الروحية". [42].
من أعلام التيارفي ثلاثينات القرن الماضي إيهودا ماغنتس، اول رئيس للجامعة العبرية، والفيلسوف مارتن بوبر، المحاضر بالجامعة، واينشتين ونوعام تشومسكي، الذي صرح في إحدى مقابلاته الصحفية أن الحزن سيطر على أسرته وبيوت الجيران حين صدر قرار التقسيم وإنشاء الدولة اليهودية. يقول انه بدأ حياته صهيونيا ، لكن لا يعتبر كذلك بمنطق الصهيونية الراهن، إذ لم يؤمن بقيام دولة لليهود . ماغنس انتهى نهاية غامضة؛ اما بوبر فكتب بعد إعلان الاستقلال " لم تكن الروح بعيدة ، في الماضي، بهذا الشكل عن الحياة العملية ، كما هي الأن في هذه لفترة ‘للولادة الجديدة’ [...] هذا نوع من ‘صهيونية’ يسيء الى سمعة ‘صهيون’ . هذا ليس اكثر من أحد التجليات الفجة للقومية التي لا تعترف بأية سلطة ظاهرية فوق مصلحة الأمة "[21]. وكذلك أينشتين رفض الدعوة لرئاسة الدولة بعد وفاة حاييم وايزمن، الرئيس الأول ؛ علل الرفض بالعزلة عن الجمهور الإسرائيلي، وفي رسالة لصديق وجهها في آخر حياته"سأظل مقيما هنا ( بالولايات المتحدة) بقية حياتي، عازلا نفسي كلية عن الأخرين قدر استطاعتي.ان كل ما أحاول عمله في المجالل الإنساني يتدهوربشكل ثابت الى كوميديا سخيفة".
انتهى جميع دعاة الصهيونية الثقافية بكوميديا سخيفة ، انتبذتهم الصهيونية بعد أن استغلت حضورهم لأهدافها القومية المتعصبة؛ حسن النوايا لا ينفي التسخير المغرض. ينطبق على الرسالة الثقافية لهذا التيار النقد اللينيني الموجه الى البوند داخل الحزب الإشتراكي – الديمقراطي الروسي. اعتبر ثقافتهم جزءا من الثقافة البرجوازية تتجاوب مع الصهيونية وتدعم تيارها . وفي مجرى الانتقاد هاجم لينين الصهيونية واعتبرها حركة امبريالية قومية رجعية ؛ لكن السيطرة الامبريالية على المشرق العربي دحضت نبوءة لينين بأن الهدف الصهيوني طوباوي يستحيل أن يتحقق.
في متن الكتاب يستخدم الباحث مقولة "الصراع" ، باعتبار ما جرى ويجري بفلسطين مواجهة بين حق صهيوني وحق فلسطيني، ويدعو الطرفين الى " الارتقاء الى فوق مشاعرهم الوطنية الأنانية على ضوء الفكرة الإنسانية العالمية" ، وبالتالي "سيصبحون مواطنين متساوين في الدولة الديمقراطية المشتركة."[10] ربما تشكل إحد الخيارات الممكنة العودة الى ما كان مطروحا من قبل عصبة التحرر الوطني الفلسطيني قبل الحروب والمجازر والاحتلالات والتشريد؛ غير ان ذلك لن يتم دفعة واحدة .. صحوة ضمير وهداية الى الصراط المستقيم؛ كما يستحيل أن يمر الدرب لهذه النهاية السعيدة عبر "الكيان الصهيوني" و "الاعتراف بالواقع الإسرائيلي الذي نتج بعد حرب 1948 ، ليس كيانا صهيونيا ، بل كما كانت منذ بدايتها حتى اليوم ، حركة ومجتمع متعدد الأوجه والتناقضات من الواجب العمل على تغييره ، بألا يكون صهيونيا كما هو الآن"، أي صهيونية "ظريفة" او "عقلانية" الى جانب "صهيونية يسارية خالية من الدنس!".
هل يرجع التاريخ القهقرى؟ وما هو الضامن في ظل الهيمنة الرأسمالية أن لا تنزلق المسيرة كرّة أخرى الى اشتراكية قومية فاشية ؟
لايخفى على القارئ إصرار الباحث على " الأخذ بنظر الاعتبار الأطياف المختلفة في الحركة الصهيونية وتطورها التاريخي "، وفي ضوء ذلك ينتقد بابه ، إذ يرى "الفكرة الإسرائيلية بصورة جوهرية ذات بعد واحد، كما تجسدت منذ نشاتها وحتى يومنا هذا كتسلسل خطي مستقيم من أعمال السلب والقمع والتمييز دون التطرق الذاخلي الذي ميز بين بدايتها للحركة الصهيونية وبين آخرتها وميزتها عن بقية الحركات الكولنيالية الأوروبية"[19].
في الفصل الحادي عشر " الموقف من الشعب الفلسطيني "، جاء موقف قيادة حزب هعفودا من سكان البلاد الأصليين "محصلة لعقيدتهم الصهيونية" يحذر بن غوريون من تلميحين للعرب " الأول هو ان أرض إسرائيل خالية وباستطاعتنا أن نفعل كل شيء فيها حسب رغباتنا ، دون الأخذ بالحسبان سكان البلاد؛ والثاني هو أن الطرق الدبلوماسية مع العرب لا تؤمن وجودنا في البلاد... البلاد ستكون لنا نتيجة عملنا .."[77]. يعني اللجوء الى القوة المسلحة! كلام بن غوريون هو بالنص نفس كلام جابوتينسكي زعيم تيار المراجعة المعارض لبن غوريون. أعلن طبنكين ، ساعد بن غوريون الأيمن، في المؤتمر الصهيوني الثاني عشر 1919 بأن " لاحل وسط وحياة مشتركة مع الفلسطينيين، سكان البلاد" [78]،" في المجال القومي ، إذا كانت للعرب مطالب حول حق قومي على أرض إسرائيل عندها لا مجال لتسوية ... ليس باستطاعة اي قوة في العالم توفير تسوية بيننا وبين العرب"[78].
أحيانا وجد بن غوريون نفسه مضطرا للمراوغة. يقتبس الباحث عن المؤرخ كولات " من أقوال بن غوريون سنة 1946 "‘اومن بالسلام مع العرب ، وقلبي واثق ومتأكد كلية إن عاجلا أم آجلاسنصل الى تعاون مشترك . إلا أن الشرط الضروري لذلك هو إقامة دولة يهودية’". كشف الزمن الكذب المتعمد في كلام بن غوريون، مثلما اتضح الزيف في تلويم الصهاينة ل" الاشتراكيين " غير الماركسيين، "تخونون قيمكم الثورية "، كي يركزوا اولا على إقامة الدولة ثم ينطلقون لبناء الاشتراكية. عمليا وجدنا دولة إسرائيل قلعة للرأسمالية الاحتكارية وعدوا لدودا للاشتراكية.
تماثل المستعربون في كتاباتهم مع الفكر القومي الاقتلاعي للصهيونية؛ ركزوا على نفي الوجود الفلسطيني كقومية موحدة.، ورسمت صورة على هذه الشاكلة للكنعانيين-"مجاميع من الهويات العشائرية والقبلية الموجودة لا علاقة لها بالوجودالفلسطيني ... شددوا على الإشادة والإشارة الى كثرة العناصر الطائفية الدينية في المجتمع الفلسطيني كي يقللوا من شأن وحدة الوجود القومية الفلسطينية"[78]. لهذا السبب نجدهم يطردون الفلاحين من أراض عمروها وأجدادهم دهورا بعد ان اشتراها الصندوق القومي الموحد من مالكين متغيبين جيرت لهم الأرض بموجب قوانين وإجراءات عثمانية. وفي ثلاثينات القرن الماضي شدد بن غوريون مطالبة سلطات الانتداب إبعاد المشردين من أراضيه الى خارج فلسطين. "كان همهم في الواقع إبعاد الفلسطينيين عن فلسطين"[79]. المؤرخ يعقوب شمعوني أصدر كتابا بعنوان ملغم " عرب أرض إسرائيل "، وكذلك ميخائيل عساف ( اوسوبسكي) وصفا العرب "أقليات المجتمع العربي – المسلم"[80]. وفي كتاب وضعه شمعوني بالتعاون مع عزرا دانين عنوانه " العصابات العربية 1930- 1936" خلا من "أساس قوي وتأكيد محترم للحقائق المذكورة .... الانطباع العام الذي يمكن الخروج به هو أن المؤلفيْن المذكورين يستندان فقط الى ما يعرفانه هما لكونهما من عملاء مخابرات الإنجليز والهاغاناة"[80]. على ما يبدو إن " الثابت من وجهة النظر الصهيونية البدائية عند كل من شمعوني وأساف وفيلنائي هو أن ‘ " ‘أرض إسرائيل وشعب إسرائيل ’ هما العنصر الثابت في البلاد ، واما العرب والمسلمون فهما العنصر غير الثابت ، المتحول والعابر".
خصص الباحث الفصل الخامس عشر لتأسيس الحزب الشيوعي الفلسطيني وتطور التناقضات داخل الحزب على أسس قومية. يجدر التنويه ان السلطات البريطانية والزعامات الفلسطينية المحافظة حرضت عام 1921على ‘ البلاشفة اليهود’ الطامحين بالقيام بثورة عالمية ’ ؛ على إثر الاضطرابات " شنت السلطات البريطانية حملة ملاحقات ثم فيها اعتقال ومن ثم طرد نحو مائة عضو، كل أعضاء الحزب تقريبا. "[134]. خلال سنوات العشرينات وصلت مجموعات من الشيوعيين اليهود الى قناعة بأن " الأجدر بهم البقاء في بلادهم"، وغادروا فلسطين الى الاتحاد السوفييتي .."[135]. على إثر ثورة الثلاثينات تشكلت كتلة داخل الحزب الشيوعي الفلسطيني اعتبرت يسارا صهيونيا اكثر منها مناهضة للصهيونية . اتسع بالتدريج الشرخ بين العرب واليهود داخل الحزب الشيوعي الفلسطيني . وكان محتما الانفصال. يخلصرالباحث الى القول ،" كان بإمكان الحزب الشيوعي ليس فقط انتقاد القيادة الصهيونية والهستدروت ، إنما وفي الوقت ذاته، تقديم وحدة الحزب الداخلية امام العاملين كمثل يحتذى به كمصدر إيحاء للنضال من اجل دولة فلسطينية ديمقراطية ومستقلة"[138].
تجربة مرشّدة أشد بها وعزف عنها في نفس الوقت الدكتور أودي أديب. يأخذ بهذا المثال واتلك التجربة لدى محاولاته التخلص من النزق اليساري ، الذي كبده ثمنا قاسيا ، ليطلع على القارئ العربي بدعوة إحياء اشتراكية طوباوية.